مُسنِداً رأسي على حائطٍ شديد البرودة، فلقد تجاوز الوقت منتصف الليل في شتاء "بغداد" حاضرة الخلافة العباسية وذلك في الثمانينات ؛ وشتاءُ"بغدادَ" قارص البرد مثلما صيفها حارق القيظ، ولم أبخل على جسدي المُتعَب بالكثير من الأغطية، لعلها تُفلح في قطْع الاتصال المستمر بيني وبين البرودة التي تكتظ بها جوانب غرفتي ...!! وأنَّى لهذا الجسد الثلج أن يقتنص النوم المستخفي عن عيني..!! أكاد أشعر به ساخراً وهو يرى أصابعي تحاصره ، وأجفاني تحاول صيده ... هكذا كانت تمرُّ ليلاتي مرَّةً باردات النبض ... ثقيلات الخطى ... إلا أن الليلة ليست ككل الليالي ؛ إذْ كان الصوت العذب يأتيني عبر "إذاعة بغداد" لكروان العراق "ناظم الغزالي" يترنَّم برائعة "إيليا أبي ماضي" (أيُّ شيءٍ في العيد أُهدي إليكِ ) ..!! لقد استطاع "ناظم الغزالي" أن يأخذ بسمعي فلا يدع لي مجالاً للتفكير في النوم ولو لثواني ... صحيحٌ ... (أَيُّ شَيءٍ في العيدِ أُهدي إِلَيكِ * * يا مَلاكي وَكُلُّ شَيءٍ لَدَيكِ!!).
ومحبوبات الشعراء هن أكثرُ نساء الأرض حظوظاً ...!! فلقد احتفظ تاريخ الأدب بأسمائهن ، وسارت بأوصافهن المليحة القوافلُ والركبان ، وصدحتْ بحسنهن حناجر المغنيات وأوتار العيدان ... ولعل هناك من بنات حواء من تفوقهن حسْناً وتزيد عنهن عقلاً لكنْ أي قلب يسمع ولا يتطوح أمام قول "أبي صخر الهذلي" واصفاً حالَه إذ تتمكن منه يد الذكريات بأحداثها كلها المفرحة والمؤلمة فيالَها من لحظات يبوح دونما مواربة أو حرج فيقول : (وإنِّي لَتَعْرُوني لِذِكْراكِ هَزَّةٌ * * كما انتفَضَ العُصْفُوْرُ بَلَّلَهُ القَطْرُ) أي إني لاضطرب وتنتابني-عندك تذكرك-رعدةٌ ورعشةٌ، كما يضطرب العصفور مرتعشاً منتفضاً إذا ما نزل المطر وبلَّله. .!! صورةٌ تمثيليةٌ فيها من الرقة ما فيها ومن الضعف مافيها وأيضا من شدة الذكريات ما يصيب جسده الضعيف بالارتعاد..!!
المدهش في قصيدة "إيليا أبي ماضي" هذا الاستفهام البسيط الذي يشي بالحيرة عند الاختيار وينتهي بالعجز ...!! تأتي الإجابة في الشطر الثاني دونما تأخيرٍ مبدوءةً بنداءٍ يتمايل رقَّةً... ( يا ملاكي ... وكل شيء لديكِ !!) فهذي المحبوبة الملاك ما في حوزتها يصيب حبيبها بالعجز عند اختيار هدية العيد .. ليتوالى التفصيل الرائع للتركيب الموجز ( وكل شيء لديك !!) فلو أراد إهداءها شيئا من الذهب سواراً رائع الصوغ مثلا أم شيئا من الذهب الخام تزين به معصمها ، فإن شاعرنا يجيد التملُّص من تلك الهدية باهظة التكاليف بحسن تعليله ( لا أحب القيود في معصميك !!) ، وإذا فكَّر في إهدائها زجاجة خمر كالتي طلبها ابن كلثوم في بدء معلقته فإنه يرى لا خمر تشبه ما تسكبه الحبيبة من نظرةٍ تُسْكِر والتفاتةٍ تذهب بالعقل (وَلَيسَ في الأَرضِ خَمرٌكَالَّتي تَسكُبينَ مِن لَحظَيكِ)، وإن راودته نفسه أن يقدم لها وردة تحمل كل معاني الحب إلا أنه يعترف أن ( الوَردُ أَجمَلُهُ عِندي الَّذي قَد نَشَقتُ مِن خَدَّيكِ )، وإن حلا في عينه العقيقُ ذو الحمرة الأخاذة التي تماثل روحه المحترقة إذا به يرى أَن (العَقيقُ الثَمينُ في شَفَتَيكِ) ليعود من حيث بدأ فهو محبٌ بضاعته المشاعر وكل ما يملكه ويستطيع إهداءه هو روحه ( لَيسَ عِندي شَيءٌ أَعَزُّ مِنَ الروحِ * * وَروحي مَرهونَةٌ في يَدَيكِ ) والختام يؤكد أنها في الأصل في حوزتها هي ..!! لقد كان من الممكن أن يتصل البيت الأول بالبيت الأخير دون حاجةٍ إلي ما توسطهما من أبيات إلا أن "إيليا أبا ماضي" بدلاً من الوقوع في الوصف التقريري لمحاسن المحبوبة كحسْن معصميها دون حاجة إلى زينة الذهب ، أو خمرة عينيها أو حمرة خديها الوردية ، أو لظي شفتيها ، لكنه بسط في موضعٍ يحسن فيه البسْط ويلذ للعشاق ذكْرُه واستعادته كل ذلك كان منطلَق الشاعر فيه هدية العيد التي لم تكن سوى روحه لكنه أحسن تغليف هديته !!
ونصل إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي والشاعر الأريتري الأكاديمي الشهير"ريسوم هايلي" وقصيدة (النشيد الأفريقي) حيث يخاطب الشاعر هذي الظاهرة الطبيعية (قوس قزح) مطالبا إياه أن ينسج من نفسه وشاحا وثوبا من النور يقدمهما لأمه ..!! لقد كان من الممكن أن نذهب بالقصيدة التي تقدم هدية للأم أعظم حب في حياة الشعراء ... إلا أن عنوان النص (النشيد الأفريقي) وهو إحدى عتبات النص يأبى إلا أن يذهب بالنص بعيدا ويعطي أبعادا أكثر رحابة ليدخل في دائرة الاحتمال أن تكون الأم هي (أفريقيا) التي تتسم بمثل صفات الأم التي أنجبته ... فمع الأريتري "ريسوم هايلي) وقصيدته ( النشيد الأفريقي ):
قوس قزح , قوس قزح ... أين كنت ؟
أمي بحاجة إلى وشاح ... يليق ببشرتها ... سيل من الألوان ... لتسترعي انتباهها .
ثوب من النور عبْر الفلك مشرقاً مثل وجهها ... منبجساً من الشمس سبعة ألوان مختلفة لتظهر به المتميزة لدي .
لون واحد لا يكفي... ولاواحد منها دون الآخر .. بل كلها مجتمعة معاً ينبغي أن تكون جديرة بأمي .
قوس قزح , قوس قزح ...أين أنت ...!! ؟