● فى أول بعثة كبيرة إلى فرنسا، طلب محمد على من الشيخ العطار أن ينتخب إماماً للبعثة يكون من علماء الأزهر، فأختار الشيخ رفاعة لتلك المهمة
● كان السائد هو رفض السماح للمرأة أن تدخل المدارس كالرجال، فاتجهت جهود رفاعة لمناصرة تعليم المرأة، وتحدث عن الآفاق التى يفتحها العلم أمام المرأة، وكيف يثمر تربية صالحة للأولاد
● لاقت دعوة الطهطاوى قبولاً لدى "جشم آفت"، إحدى زوجات الخديوى اسماعيل، لإنشاء أول مدرسة للبنات فى مصر وهى المدرسة السيوفية والتى هى الآن المدرسه السنية
رفاعة الطهطاوى أحد رواد التنوير والمجددين فى مصر فى القرن التاسع عشر، صعد من القرية إلى القمة ليتبوأ مكانة عالية ليس فقط كأحد علماء الأزهر وإنما كأحد المؤثرين الذين قادوا عملية التحول الاجتماعى فى مصر خلال القرن التاسع عشر.
ولد رفاعة الطهطاوى فى طهطا سنه 1216 هـ / 1801 م، فى نفس العام الذى خرجت فيه الحملة الفرنسية من مصر، قضى مراحل تعليمه الأولى في القرية حتى عام 1817 م، و عندما بلغ السادسة عشر من عمره توجه إلى القاهرة والتحق بالأزهر لتكون نقطة تحول كبيرة فى حياة الشاب رفاعة، ظل بالأزهر خمس سنوات من الدراسة فلما أتم الحادية و العشرين من عمره، حصل على الإجازة بالتدريس فدرس بالأزهر، وكان مدرساً متميزاً يتهافت على حلقاته الطلاب و المستمعين.
الشيخ حسن العطار المعلم و القدوة
كان من حسن حظ رفاعة الطهطاوى أن تتلمذ على يد الشيخ حسن العطار، أحد علماء الأزهر الذين سبقوا عصرهم، كان واسع الأفق.
و لما وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر تواصل مع علمائها وأخذ عنهم بعض علومهم و أعجب بما وصل إليه الشعب الفرنسى من رقى و حضارة و قارن فى نفسه بين علوم الفرنسيين التى رأى بعض مظاهرها فى المجمع العلمى و بين علوم المصريين التى يدرسونها في الأزهر، و أيقن بما لا يدع مجالاً للشك، أن لابد لمصر أن تنهض و قال (لابد أن تتغير حال بلادنا، و يتجدد لها من المعارف ما ليس فيها ).
و كانت ولاية محمد علي باشا عام 1805 م ، نقطة انطلاق نحو بناء دولة جديدة على أساس علمى، و هذه النهضة احتاجت الى بعض مشايخ الأزهر للتدريس فى مدارسه الجديدة، أو لتصحيح الكتب المترجمة.
و كانت الخطوة الأولى فى طريق رفاعة الطهطاوى هى ترشيح الشيخ العطار له ليكون إماماً لإحدى فرق الجيش الجديد، وعين إماماً وواعظاً فى آلاى حسن بك المانسترلى، ثم انتقل إلى آلاى أحمد بك المنكلى.
البعثة الكبرى إلى فرنسا 1826
كان العام 1826 نقطة تحول كبرى فى حياة رفاعة الطهطاوى، عندما أوفدت أول بعثة كبيرة إلى فرنسا، وهنا طلب محمد على من الشيخ العطار أن ينتخب إماماً للبعثة يكون من علماء الأزهر، فأختار الشيخ رفاعة لتلك المهمة.
و كانت نصيحة الأستاذ لتلميذه أن يسجل مشاهداته فى رحلته إلى بلاد الفرنج فى كتاب خاص – بالفعل تم -، و ما أن وصل إلى عاصمة النور، راح يصف دور الكتب ومعاهد العلم فى باريس، و تحول رفاعة من إمام للبعثه إلى دارس، راح ينهل من فروع العلم الحديث، فدرس الفرنسية و أتقنها وقرأ كتباً عديدة فى مختلف فروع العلم، وما كاد يفرغ من قراءه كتاب فى أى علم أو فن حتى يقبل على ترجمته، يريد أن ينقل إلى مصر و إلى ديار الإسلام نهضة علمية جديدة.
لذا كانت أولى خطواته بعد عودته من البعثه هي إنشاء مدرسة الالسن و قلم الترجمة، ومن ثم اتسعت حركة الترجمة واستطاع المترجمون فى المرحلة الأولى ترجمة العديد من الكتب التى قرأها رفاعة فى باريس و لم يسعفه الوقت لترجمتها.
وبعد سنه قضاها رفاعه فى البعثة، عقد له ولزملائه امتحان فى نهاية هذه السنة، فنجح بتفوق و أرسل إلية مسيو "جومار" مدير البعثة جائزة التفوق وهى كتاب "رحلة انخرسيس فى بلاد اليونان"، و أرسل له مع الجائزة خطاباً فى أول أغسطس 1827 مشجعاً و مقدراً ما قام به رفاعة من جهد ولما نال من نجاح.
و بعد عام آخر عقد امتحان ثان، فتفوق فيه أيضاً و كانت جائزته فى هذه المرة كتابين من تأليف المستشرق الفرنسي "دي ساسي" الذي تواصل معه بعد ذلك رفاعة الطهطاوى، كما اتصل أيضاً بالمستشرق الفرنسى المسيو "كوسان دي برسيفال".
وبعد خمس سنوات عقد لرفاعة الإمتحان النهائى، وتقدم رفاعة إلى لجنة الامتحان بخلاصة مجهوداته فى الترجمة طوال هذه السنوات الخمس، و هى 12 رسالة ترجمها عن الفرنسية إلى العربية.
جهود رفاعة الطهطاوى عقب عودته
دوره فى تنوير المرأه
و رغم تعدد مجهودات رفاعة الطهطاوى فى عملية التحول الاجتماعى التى قد بدأها محمد علي لاسيما جهوده فى مدرسة الطب، مدرسة المدفعية، مدرسة الألسن، وقلم الترجمة.
و لكن فى السطور القادمة سوف أتحدث عن أحد أهم مظاهر التحول فى المجتمع المصرى وهى دعوة رفاعة الطهطاوى إلى "تعليم البنات"، و كانت آراء الطهطاوى حول قضية المرأه جديرة بالاحترام، فكان يرى أنه كلما كثر احترام النساء عند قوم كثر أدبهم وظرافتهم، فعدم توفية النساء حقوقهن، دليل على الطبيعه المتبربرة!
كما يمكن للمرأه أن تتعاطى من الأعمال ما يتعاطاه الرجال، فالعمل يصون المرأه عما لا يليق ويقربها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة مذمومة فى حق الرجال، فهى مذمومة عظيمة فى حق النساء!
و من القضايا المهمة التى اتجهت إليها جهود رفاعة، هى موقفه المناصر لتعليم المرأه. فمن قبل كان السائد هو رفض السماح للمرأه أن تدخل المدارس كالرجال. و تحدث رفاعة عن الآفاق التى يفتحها العلم أمام المرأه، وكيف يرفع قدرها فى نظر الزوج، و يثمر تربية صالحة و متقدمة للأولاد فيقول (إن تعليمهن فى نفس الأمر عبارة عن تنوير عقولهن بمصباح المعارف المرشد لهن، فلا شك أن حصول النساء على ملكة القراءة والكتابة، وعلى التخلق بالأخلاق الحميدة والاطلاع على المعارف المفيدة، هو أجمل صفات الكمال و هو أشوق للرجال، فالأدب للمرأه يغنى عن الجمال، لكن الجمال لا يغنى عن الأدب، و أيضاً آداب المرأة ومعارفها تؤثر كثيراً فى أخلاق أولادها).
لذا فإن رفاعى الطهطاوى هو اول داع فى مصر والشرق إلى تعليم البنات، حيث اقترحت لجنة تنظيم التعليم عام 1836 والذى كان رفاعة الطهطاوى من أعضائها العمل لتعليم البنات، غير أن هذا الاقتراح لم ينفذ وتم الاكتفاء بإنشاء مدرسه للمولدات القابلات وكان يلتحق بها السودانيات والحبشيات.
وفي عام 1872 وفى عهد الخديوي إسماعيل أصدر رفاعى الطهطاوى كتابه "المرشد الأمين فى تعليم البنات والبنين" وفيه دعا إلى الفكرة ومهد لظهورها فيقول (ينبغي صرف الهمة فى تعليم البنات والصبيان معاً لحسن معاشره الأزواج فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك، فإن هذا مما يزيدهن أدباً وعقلًا ويجعلهن بالمعارف أهلًا ويعملن به لمشاركة الرجال فى الكلام والرأى، فيتعظمن فى قلوبهم ويعظم مقامهن).
وقد لاقت دعوه الطهطاوي قبولاً لدى إحدى زوجات الخديوي إسماعيل "جشم آفت" لإنشاء أول مدرسة للبنات فى مصر عام 1873 وهى المدرسة السيوفية والتى هى الآن (المدرسه السنية).
نحن أمام إنسان متحضر فى نظرته للمرأة امتزج فى عقله الفهم المستنير للتراث بحرص المجدد والمصلح على نهضة المرأة
ويقول الطهطاوى معقباً على إنشاء أول مدرسه للبنات (أنه قد أصبح فى أيام الخديوى إسماعيل مدارس للبنات فلم يجعل العلم قاصراً على الذكور فبهذا سوق المعارف المشتركة قد قامت، وطريق العوارف للجنسين استقامت و خصهن بمدارس كالصبيان يخرجن بها من حيز العدم إلى الوجدان، ومن الوهم إلى العيان، فبهذه الوسائل النفيسة، صدر لى الأمر من ديوان المدارس بعمل كتاب فى الأدب يصلح لتعليم البنين و البنات على السوية).
في الوقت الذى كان الطهطاوى يكتب تلك الأراء فى كتابه المرشد الأمين، لم يكن الدستور الأمريكى الذى وضع سنه 1870 يعترف بحقوق المرأه السياسة، و لم يعترف بها إلا فى التعديل الذى أدخل عليه سنة 1920، و فى إنجلترا بدأت المطالبة بحقوق المرأه السياسية سنة 1801م، و نشطت بعد صدور كتاب "سيتوارت مل" سنه 1869، ولكنها لم تثمر حصول المرأة على حق الانتخاب إلا فى سنة 1928م.
نحن أمام شخصية عظيمة سابقة لعصرها، مجدد، مستنير، ظل يعمل جاهداً حتى وفاته فى عمر الخامسة و السبعين غرة ربيع الثانى عام 1290 هـ / 1873 م، فكتب احمد أمين ( اهتزت مصر لموته، و احتشد لتشييع جنازته الألوف المؤلفة من رجال المعارف والأمراء والنبلاء، وتلاميذ المدارس وازدحمت الشوارع بالناس، يردون بعض جميله، يذكره الأزهريون على أنه ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم، والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على انه مؤسس نهضتهم و كلهم يتوجعون لفقده و يشيدون بذكره.
المرء يفنى .... وبعد الموت تذكره
آثاره الغر بالحسنى و تحييه.