الأحد 5 مايو 2024

رفاعة الطهطاوى ومدرسة الترجمة


أ.د. دينا محمد

مقالات10-8-2023 | 17:59

أ.د. دينا محمد

● عاد رفاعة الطهطاوى من فرنسا إلي مصر بمشروع كبير عرضه علي محمد علي باشا الذي وافق عليه ودعمه وهو إنشاء مدرسة الترجمة 
● قدم رفاعة الطهطاوى مشروعًا نهضويا عظيمًا أثرى الحياة العلمية والثقافية فى مصر، ولعل أهم أثر تركه رفاعة من هذا المشروع هو مدرسة الألسن


رفاعة رافع الطهطاوى هو أحد كبار المفكرين في مصر الحديثة وأحد رواد التنوير فى العصر الحديث. نشأ رفاعة الطهطاوى الذى ولد فى طهطا بمحافظة سوهاج في 15 أكتوبر عام 1801م نشأة دينية حيث حفظ القرآن الكريم فى سن مبكر ثم التحق بالأزهر الشريف في صباه حيث درس علوم الدين والفقه والشريعة. بدأت مسيرة رفاعة الطهطاوى مع محمد على باشا والذي يطلقون عليه مؤسس مصر الحديثة، حيث أرسله ضمن بعثة تضم أربعين طالبا من أجل الاطلاع علي العلوم الغربية ووقتها لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره. سافر رفاعة باعتباره إماما للبعثة علي متن السفينة الحربية المتجهة إلي فرنسا حيث كان يخدم في الجيش النظامي الجديد الذى أساسه محمد علي باعتباره إمام الجيش. عكف رفاعة الطهطاوى على دراسة اللغة الفرنسية وتعلمها وبالفعل اجتاز كافة الامتحانات التي تؤكد اتقانه للغة الفرنسية. 

عاد رفاعة الطهطاوى من فرنسا إلي مصر بعد خمس سنوات هى مدة البعثة وهنا رجع بمشروع كبير عرضه على محمد علي باشا الذى وافق عليه ودعمه وهو إنشاء مدرسة الترجمة التي تغير اسمها إلي مدرسة الألسن وقد تم تأسسها عام 1935م وتخرجت أول دفعة منها عام 1839م وعمل رفاعة مدرسا بها ومديرا لها. كان مقر المدرسة السراى المعروف اسمها ببيت الدفتر دار بحى الأزبكية حيث يوجد فندق شبرد حاليا. وقد اقترح رفاعة الطهطاوى أن المدرسة ستلعب الدور الأساسى فى عملى الترجمة ليعود ذلك بالنفع علي المواطن المحلى وهنا يمكن الاستغناء عن أى أجنبى أو الاستعانة به.

التحق بمدرسة الألسن لأول مرة ثمانون تلميذا تم اختيار معظمهم من مكاتب الأقاليم وازداد العدد ليبلغ المائة والخمسين. وأصبح دوما في طريقه للزيادة.

بلغت مدة الدراسة بمدرسة الألسن خمس سنوات قد تزداد إلي ست سنوات وكان يتم فيها تدريس ثلاث لغات وهم الفرنسية والتركية والعربية. وقد تم إدخال بعض العلوم فيها للدراسة مثل الرياضيات والجغرافيا والتاريخ. وتم استجلاب بعض الكتب في الأدب والتاريخ من فرنسا. 

تخرج من المدرسة طلاب أصبحوا قادرين علي ترجمة كتبا عديدة في التاريخ والأدب من اللغة الفرنسية وكان أستاذهم رفاعة الطهطاوى يقوم بالتصويب والتحرير لترجمات هؤلاء الطلاب. وقد كان الاهتمام باللغتين العربية والفرنسية هو السائد بالمقارنة باللغة التركية نظرا لأن الدارسين مصريون أما مدير المدرسة والأستاذ الأول بها رفاعة رافع الطهطاوى كان مصريا يتقن اللغة الفرنسية.

لذلك تشكلت المدرسة من مديرها رفاعة وثلاثة أساتذة يقومون بتدريس اللغة الفرنسية وأستاذين لتدريس اللغة العربية وأستاذ لتدريس اللغة التركية. وكانت من مهام زعيم النهضة الحديثة في عهد محمد علي رفاعة الطهطاوي الإشراف علي المدرسة من الناحية العلمية والإدارية وتدريس الأدب والشرائع الإسلامية والقوانين الأجنبية إلي جانب اللغة الفرنسية، وأن يقوم باختيار الكتب التي يرى ضرورة لترجمتها ويقوم بتوزيعها علي المترجمين من الدارسين والخريجين وتوجيههم ومراجعة وتصويب الترجمات.

كان رفاعة الطهطاوى عاشقا لمهنته ولايكل ولايمل من القيام بها وكانت ساعات الدراسة مع تلاميذه تمتد طويلا حتي أنه كان يعقد دروسا ليلية وكانت تلقي شغفا وقبولا لدى الطلاب.

وقد أرهقه العمل ما بين التدريس والتأليف والترجمة فقام بتعيين مدرس فرنسى لمساعدته في إدارة المدرسة. وقد استجلب نخبة من مشايخ الأزهر للتدريس بقسم اللغة العربية وعلى رأسهم الشيخ الدمنهورى.

وبعد تخريج أول دفعة من المدرسة تم تعيين المتفوقين منهم مدرسين في قسمي اللغة الفرنسية والعربية. وبعد أن تم تأسيس قلم الترجمة عام 1841م، لم يكن للخريج أن يمنح الرتبة أو الدرجة إلا بعد أن يقوم بترجمة كتابا يحوز الرضا السامى (ما يشبه مشروع التخرج الآن فى كلية الألسن). وبعد ذلك يتمكن الخريج من العمل بالمدارس المختلفة فى البلاد أو المصالح الإدارية لمختلفة.

منذ عام 1841م بدأ تنمية المدرسة والعمل على توسعها حيث ألحقت بها المدرسة التجهيزية ثم قسم لدراسة الإدارة الملكية للعمل الإدارى فى المصالح والمديريات ثم قسم لدراسة الإدارة الزراعية ثم قسم لدراسة العلوم الفقهية، مما أدى إلي ازدحام المدرسة بشكل كبير، لكن كل هذا لم يستمر طويلا حيث اقتصرت المدرسة فيما بعد علي تعليم اللغات في أوقات لاحقة.

بدأ التفكير في إدخال لغة جديدة إلي مدرسة الألسن وهي اللغة الإنجليزية وقد نبغ من بين تلاميذ المدرسة محمد أفندى سليمان الذي أصبح مدرسا للغة الانجليزية بها وكذلك في المدرسة الحربية.  

توفي رفاعة الطهطاوى عام 1873م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عاما بعد أن قدم مشروعا نهضويا عظيما أثرى الحياة العلمية والثقافية في مصر ولعل أهم أثرتركه رفاعة من هذا المشروع هو مدرسة الألسن.    

تعرضت مدرسة الألسن خلال تاريخها الطويل الذي قارب القرنين من الزمان إلى الإغلاق في بعض الفترات. وأعيدت مدرسة الألسن عام 1951م وكانت الدراسة بها مسائية لتتيح لطلبة الجامعات فرصة إتقان اللغات الأجنبية.

أحاطت ثورة يوليو بعنايتها مدرسة الألسن لما أدركته من أهمية دراسة اللغات وأثرها علي نهضة الدولة المصرية فى نقل ونشر ثقافة الآخر والاستفادة من حضارته، لذلك صدر عام 1957م قرارا جمهوريا بتحويل مدرسة الألسن إلي مدرسة الألسن العليا وأصبحت بمقتضي هذا القرار في مصاف المؤسسات والمعاهد العليا التي تمنح درجة البكالوريوس أو الليسانس. وأصبحت تلك المدرسة العليا هى الوحيدة فى الشرق الأوسط التي تقدم دراسة تخصصية في اللغات بالإضافة إلي الترجمة.   تم فى هذا العام افتتاح أقسام جديدة وتدريس لغات جديدة لأول مرة فى مصر والشرق الأوسط وهي اللغات الإيطالية والإسبانية والألمانية والروسية والتشيكية والصينية وتم استجلاب أساتذة أجانب من بلاد تلك اللغات للتدريس والإشراف على تلك الأقسام.  

فى 20 ديسمبر 1972م وبعد قرن من وفاة رفاعة الطهطاوى أصدر الرئيس الراحل محمد أنور السادات قرارا جمهوريا رقم 1952م بضم مدرسة الألسن العليا إلي جامعة عين شمس كلية مستقلة ذات رؤية ورسالة وأهداف استراتيجية باسم كلية الألسن. 

فى عام 1989م تم إنشاء قسم اللغات السامية وتدريس اللغة العبرية بها وكذلك قسم اللغات الشرقية الإسلامية وتم إلحقاق ثلاث شعب للغات به وهي اللغات التركية والفارسية والأردية. وتم افتتاح قسم اللغات السواحيلية الأفريقية عام 2013م وتم افتتاح قسم للغة اليابانية عام 2000م وافتتاح قسم اللغة الكورية في عام 2005م وهو الوحيد في جميع الجامعات المصرية وقسم اللغة البرتغالية عام 2019م. إلي جانب هذا تم بالكلية افتتاح قسم اللغة العربية لغير الناطقين بها لتدريس اللغة العربية وعلوم القرآن للطلاب الأجانب القادمين من مختلف دول العالم وعلي رأسها الصين وروسيا وكازاخستان ودول أفريقيا.

تقدم كلية الألسن برامج عديدة تدرس مختلف اللغات والتي بلغت سبعة عشر لغة، منها لغات يتم تدريسها كلغة أولى وأخرى يتم تدريسها كلغة ثانية مثل اللغات المجرية والبولندية والسلوفاكية  وذلك من خلال أقسام علمية متميزة بالكلية تقدم كل عام خريجين مهنيين قادرين علي تلبية احتياجات سوق العمل وخدمة المجتمع وكذلك كوادر من الباحثين المتخصصين في الأدب واللغة والترجمة مما يحقق للكلية الريادة العلمية في مجال اللغات محليا وإقليميا وعالميا. تم أيضا مؤخرا افتتاح العديد من برامج اللغات الخاصة بالكلية بنظام الساعات المعتمدة لدراسة الترجمة المتخصصة، كما افتتحت برامج الدراسات العليا للحصول علي الدبلومات ودرجات الماجيستير والدكتوراه حيث قدمت الكلية العديد من المتخصصين ذوى الكفاءات العليا والذين يعملون فى كافة أجهزة الدولة وفى خارج مصر وفى مختلف دول العالم.

يقدم أساتذة كلية الألسن وخريجيها العديد من المشروعات البحثية ويقومون بترجمة العديد من الكتب في الأدب والثقافة من مختلف لغات العالم إلي اللغة العربية والعكس. كما أن طالب الكلية لا يستطيع الحصول علي درجة الليسانس إلا بعد أن يقدم مشروعا ترجميا. 

تطور حلم رفاعة الطهطاوى من مشروع صغير بدأ بمدرسة للمترجمين ليتحول فى العصر الحديث لصرح كبير ونافذة عظيمة على مختلف الثقافات والحضارات في دول العالم المختلفة.

تخلد كلية الألسن اسم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى مؤسسها ومديرها الأول، حيث تم وضع تمثال له من الرخام فى بهو الكلية بالدور الأول حيث مقرات قيادات الكلية وكذلك صورة له فى قاعة مجلس الكلية.

فى عام 2022م، قامت كلية الألسن متمثلة في أ.د/سلوي رشاد عميدة الكلية تحت إشراف أ.د/ محمود المتينى رئيس جامعة عين شمس بتجديد تمثال رفاعة الطهطاوى ليشمل ذلك التجديد بيانات ومعلومات عن الشيخ رفاعة وكذلك تاريخ نشأة كلية الألسن حتي لا ينسى التاريخ.