● من يطالع نَتاج الطهطاوى الأدبى والتأليفى يجد الأساليب الأدبية المُرسَلة المُنطلقة، والرؤى الوطنية النهضوية فى قوالب مقالية أدبية طريفة، وقصائد وطنية صادقة
● انتقل الطهطاوى بالأسلوب فى إبداعه الأدبى نقلة جديدة فصار سهل المفردات، سلس التعبير، مرسلاً، خاليًا من أية كُلَف، فحمل زادًا فكريا عميقًا، وعبر عن تجارب إنسانية حية
● لعل الأدب العربى الحديث لم يعرف ترجمة لرواية فرنسية قبل ترجمة رفاعة لرواية مغامرات تليماك، التى تعد أول مظهر من مظاهر النشاط الروائى فى مصر
● كان الطهطاوى يتقد وطنيةً وغيرةً على بلاده، في شعر ونثره، حيث مدحُ مصر والفخرُ بها، وتفضيلها، ومدح جيشها، ونظم قصائد سجلت انتصارات الجيش الوطنى
ليس تجديد الأدب العربى خاصًّا بمرحلة ظهور المدارس الأدبية في مطلع القرن العشرين، من ديوان ومهجر وأبوللو وغيرها، بل إن بواكير التجديد الأدبى وُجِدت فى النصف الأول من القرن التاسعَ عشرَ، على يد الشيخ المصرى الأزهرى رفاعة رافع الطهطاوى(1801-1873م) الذى عده الدارسون رائدًا في التنوير والتجديد للعالم العربى فى بَدْء دخولنا العصر الحديث؛ لا سيما فى المجال الأدبى؛ فالمؤرخ لحالة الأدب العربى قُبَيل العصر الحديث، يجد أنه قد أُصيب معظم الأدباء بتبلُّد الذهن، وجَدْب العاطفة، ونُضوب القرائح، وكساد البضاعة، فانزلقوا إلى دائرة ضيقة من التقليد الضعيف والتكلف الممجوج: شكلاً ومضمونًا؛ مما أنتج ضربًا من العبَث الأدبى، والصياغة الزخرفية والسطحية، فى نصوص خالية من أى معنى، ونائية عن أي روح، لا تُثير عاطفة ولا تنبِّه إحساسًا، ولا غَناء فيها إلا في القليل أو النادر الذي يجود به الزمن فى أقسى أيامه وأشقى أحواله!
وظل حال الأدبى العربى على هذا النهج الشكلى الساكن الجامد، إلى أن جاء شيخنا رفاعة الطهطاوى، بكل ما فيه نهضة وتحديث وتجديد في أجناس الأدب المختلفة، عن وعي وقصد، وأخذ بأسباب التجديد، يقول عنه الأستاذ عمر الدسوقي:" هو إمام النهضة العلمية في مصر الحديثة غير مدافع، وهبه الله لمصر كى يزوّدها بنور العلم؛ فكان مشعلًا ساطعًا بدَّدَ الجهل وسُدْفَته، وأنار الطريق لآلاف العقول والقلوب, ووضع اللبناتِ الأولى القويةَ فى صرح ثقافتنا الحديثة. أُوتِى القلب الذكي، والعقل الصافى، والنشاط الموفور، والبصيرة النفاذة، والعزيمة المُبرَمة؛ فما أضاع ساعةً منذ وضع رجليه على سُلَّمِ الباخرة التي أقلته إلى فرنسا إلّا وأمامه الهدف الذي رسمه لنفسه ولوطنه، وظلَّ هذا دَأْبَه إلى أن انطفأ مِشعَلُ حياته"، و لذا نجد شيخنا رفاعة يقول مفتخرًا:
وآدابِي تُسامي بيَ الدراري على شَعَثِي وتُبلغُني مُرادي
عِصـامـيٌّ طـريفُ المجدِ سَعْيًا عِـظَـامِـيُّ شَـرِيـفٌ بـالتّـِلادِ
فقد عاصر شيخنا رفاعة مجموعة من الأدباء المحافظين محافظة تقليدية خالصة؛ أمثال علي أبى النصر المنفلوطي(1811- 1881م(، ومحمود صفوت، المعروف بالساعاتى(1825-1881م)، وعبد الهادي نجا الأبيارى (1821-1888م)، وشهاب الدين الحُلوانى(1833-1891م)، وحسن بن رضوان الحسيني الخالدي(1822-1893م)، وعلى بن حسن بن على الليثى(1830-1896م)، ونجيب سليمان الحداد(1867-1899م)، ومحمد بن عبد الجواد القاياتى )1838-1902)، و عبد المجيد شوقي الحسيني(1850-1906م)، ومحمد إمام العَبْد(1862-1911م)، وأحمد بن مفتاح العُمَاري(1858 - 1911)، وأمينة بنت محمد نجيب(1887-1917م)، والشيخ حمزة فتح الله(1849-1918م)، ومحمد إبراهيم بك هلال(1885-1932م)، ، وقسطنطين كفافيس(1863-1933م)، وتادْرُس وَهْبي بك الطهطاوي(1856-1934م)، و سلامة بن حسن الراضي الحسني الحسينى(1867-1939)، ومحمد حسين محمد الهَرّاوى(1885-1939م)، وعثمان بن زناتى بن سراج الحسنى)1863-1940م)، ومراد فرج(1867-1956م)... وغيرهم.
كما عاش في زمن شيخنا رفاعة من تبعه فى التجديد الأدبى، فكانت لهم مشاركة جزئية مبكرة فى ذلكم التجديد، مثل تلميذه صالح مجدى بك(1826-1881م)، إضافة إلى رائد مدرسة الإحياء والبعث للشعر العربي، الأستاذ محمود سامي البارودي (1839-1902م)، ومعه الشعراء الأصلاء: عائشة التيمورية ) 1840-1902م)، وإسماعيل صبري(1854-1923م)، ومحمد عبدالمطلب(1870-1931م)، والسيد توفيق البكرى(1870-1932م)، وغيرهم، وفى النثر نجد التجديد الأدبى والنقدى عند الشيخ حسين المرصفى( 1815-1889م)، والشيخ محمد عبده(1849-1905م) والأستاذ مصطفى لطفى المنفلوطى (1876-1924م)، والأستاذ مصطفى صادق الرافعى(1880-1937م)... وغيرهم.
فمن يطالع نَتاج الشيخ رفاعة الطهطاوي الأدبى والتأليفى يجد الأساليب الأدبية المُرسَلة المُنطلقة، والرؤى الوطنية النهضوية في قوالب مقالية أدبية طريفة، وقصائد وطنية صادقة، وأناشيد حماسية، وجهادية ثائرة، مُعبِّرة عن الروح المصرية الوثَّابة؛ بسبب ما أتيح له من الثقافة الفرنسية الجديدة، وما أتيح له من الاتصال بحياة أكثر رحابةً وأعظم انفساحًا، وما عاناه من تغلغل الاحتلال الغشوم في مجريات الوطن والمواطنين واستنزاف المحتلين المعتدين لمواردنا ومُقَدَّراتنا.
وبتدبر مجمل آثار شيخنا في المجال الأدبي يمكننا أن نحدد معالم التجديد الأدبي عنده في الآتي:
1-التجديد فى النثر الفنى:
بدأ الشيخ رفاعة الطهطاوى مع الإبداع الأدبى ناثرًا مقلدًا، متأثرًا فى أدبه روح عصره، خاضعًا للتعمُّل، متكلفًا أعشاب البديع، متهافتًا على أصباغه، مقلدًا من سبقه من شيوخه، ثم انتقل بالأسلوب نقلة جديدة فصار سهل المفردات، سلس التعبير، مرسلاً، خاليًا من أية كُلَف ومبتعدًا عن الأغراض الحياتية الساذجة، فحمل زادًا فكريا عميقًا، وعبر عن تجارب إنسانية حية؛ بفعل مشاركته الفاعلة في تحرير جريدة الوقائع المصرية، وإدارة مجلة روضة المدارس وتحريرها، وبسبب اطلاعه على الأساليب الرائعة عند كبار الكتاب في العصر العباسى عن طريق مشروعه الخاص بإحياء التراث العربى والإسلامى، حيث نجح فى إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربى على نفقتها، من خلال مطبعة بولاق، مثل: مقامات الحريرى (ت516هـ)، وتفسير القرآن للفخر الرازى (ت606هـ) المعروف بمفاتيح الغيب، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص في البلاغة لعبدالرحيم العباسي(ت963هـ)، وخزانة الأدب ولُبّ لُباب العرب للبغدادى (ت1093هـ)... وغير ذلك من الكتب التراثية البانية التى كانت نادرة الوجود فى ذلك الوقت. ونجد الأسلوب السهل الممتنع فى مؤلفات الشيخ رفاعة، ذلك الذى يشبه أجود أساليب الصحف اليومية منذ وجدت، فنتنسم منه روح الترسُّل والاطراد، ومن أبرز نماذج ذلك الأسلوب قوله في مقدمة كتابه"مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية :" قد تَحَقَّقَ في مصر اسمها بالمعنى المتعارف أكثر من غيرها؛ لمصير الناس إليها واجتماعهم فيها لمنافعهم ومكاسبهم، وما ذاك إلا لحسن موقعها العجيب الذي أَسْرَعَ في اتساع دائرة تَقَدُّمِهَا في التأنس الإنسانى والعمران، وإحرازها أعلى درجة التمدن من قديم الزمان وعلى مَرِّ العصور وكَرِّ الدهور، انصَقَلَتْ في مرآة جوهرها صور أخلاق الخلائق، وتَهَذَّبَتْ طباعهم على التدريج وتشبَّثوا بثمرات العلوم والمعارف ووقفوا على الحقائق، وبمخالطة غيرهم من الأمم ذاقوا حلاوة الأخذ والعطاء وكثرة العلائق، وكما تَمَدْيَنُوا بصنائع العمران تَدَيَّنُوا بما اتخذوه من الأديان، وكان يُعْرَف خواصهم وحكماؤهم في الباطن بوحدة الملك الديان". وهذا الأسلوب ديدنه في بقية كتبه؛ وإن قلنا: إن نثر الشيخ رفاعة التأليفي محطة بارزة فى تطور الأسلوب العربى، في العصر الحديث، لم نكن مبالغين!
هذا إضافة إلى كتابه الفذ (تخليص الإبريز في تلخيص باريز[ الذى طبع أول مرة سنة 1834م])، والذي يعد أول أنموذج لأدب الرحلة في العصر الحديث؛ فقد وصف بأسلوبه المسترسل كثيرًا من انطباعاته ومشاهداته، كما نقل عديدًا من المعارف والنظم، والقوانين التى أعجب بها فى فرنسا، وهو أنموذج أول لفن السيرة الذاتية في تاريخ أدبنا الحديث أيضًا، وهذا الكتاب دليل أدبى على جُرأة مثقف مصرى أزهرى فى وصف قيم ديمقراطية، وأنظمة دستورية، غربية، أُعجب بها وأعلن عنها فى عصر محافظ شديد المحافظة!
وكذا نجد للشيخ دورًا في تجديد كتابة السيرة النبوية بكتابه الختامى الجميل (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز)؛ إذ استخدم المنهج العقلى في تحليل وقائع هذه السيرة العطرة، وفيه رد على الصورة المشوهة التى رسمها الكتاب الغربيون عن الإسلام. وقد تأثر بنهجه كثير من الأدباء المحدثين الذين كتبوا في السيرة النبوية بطريقة أدبية عقلانية، أمثال الأستاذ محمد حسين هيكل(1888-1956م) والأستاذ العقاد(1889-1964م)، والدكتور طه حسين(1889-1973م)...وغيرهم.
2-إدخال فن القصة في الأدب العربي:
للشيخ رفاعة عمل قصصي رائد هو ترجمته (مغامرات تليماك Les Aventures de Tedlemaque )، التة كتبها القس الفرنسي (فينيلونFenellone)، وقد سمى رفاعة الترجمة "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك"[ طُبِعت أول مرة سنة 1867م]، ولعل الأدب العربى الحديث لم يعرف ترجمة لرواية فرنسية قبل ترجمة رفاعة تلك الرواية، التى تعد - في نظر مُؤَرِّخى تطور الفن القصصى عند العرب- أول مظهر من مظاهر النشاط الروائى في مصر، خلال العصر الحديث، ولقد أراد شيخنا رفاعة بهذا الكتاب القصصى أن يوجه أذهان الناشئة إلى أهمية القصة فى الأدب، وأنها لونٌ من ألوانه, لم يعبأ به العرب من قبل، وأنها ستكون جليلة الشأن في التربية. يقول في مقدمة كتابه هذا: "إن تعريب تليماك، بكل من فى حماك، أو ليس إنه مشتمل على الحكايات النفائس، وفى ممالك أوربا وغيرها عليه مدار التعليم في المكاتب والمدارس، فإنه دون كل كتاب، مشحون بأركان الآداب، ومشتمل على ما به كسب أخلاق النفوس الملكية، وتدبير السياسات الملكية"، ثم إن هذه الترجمة تشتمل على فكر سياسى إيجابى، حيث الدعوة المُحجَّبة للمصريين إلى التآزر والاتحاد للمقاومة والخلاص من الاستعمار وأذياله، وتقديم بعض قيم الديمقراطية، ومبادئ الحرية؛ فقد ذكر رفاعة أنه قصد بترجمة تليماك:"إسداء نصائح إلى الملوك والحكام، وتقديم مواعظ لتحسين سلوك عامة الناس"، ولكن يلاحظ بوضوح أنه اختار هذه الرواية بالذات لكونها أنسب الأعمال لحاله، وموقف الخديوى عباس منه، حين اضطهده ونفاه إلى السودان، يقول: "الملك هو وليُّ الأمر في الرعية، يأمر وينهى، وأحكامُ المملكة وقوانينُها تجري عليه.. وإذا أساء الاستعمال تُغلُّ يده؛ فإن الأهالي سلمته الشرائع وديعةً بشرط أن يكون أبًا للرعايا بموافقتها" (انظر: وقائع تليماك ص66)، وفي موضع ثان يقول: " فالحكمة الإلهية التي أوجدت البرية من العدم. تحب أن تكون بينهم رباطة تربطهم بالاتفاق والاتحاد، وأن يكونوا إخوانًا؛ فإن جميع البشر أبناء رجل واحد، انتشروا في جميع جهات الأرض،... فويل لأهل الجحود الذين يتطلَّبون الفخار بسفك الدماء"(وقائع تليماك ص197). وفى ذلك ما فيه من دعوة إلى التجميع، وتعريض بالطغاة. و نلاحظ أهمية أخرى لهذه الترجمة، وهي أن لغتها أسلس وأقرب إلى الجمال المطبوع من لغة تخليص الإبريز؛ وذلك لتقدم أسلوب شيخنا رفاعة فى الفترة التي بين الكتابين، ومن هنا يعد الكتاب خطوةً في سبيل تحسين النثر العربى وتطويره. وأخيرًا هناك ظاهرة جديرة بالتسجيل تتعلق بالأدب في تلك الحقبة، وهى الالتفات من بعض الكتاب إلى موضوع المفهوم الحديث العميق للوطن والوطنية والمواطنة، ومن ثم يعد هذا الكتاب حجر الأساس فى الأدب المصرى القومى فى العصر الحديث، كما يرى الأستاذ عمر الدسوقى.
3-التجديد فى فن المسرح:
اهتم الشيخ رفاعة بفن المسرح اهتمامًا مبكرًا وواعيًا؛ منذ بعثته إلى فرنسا؛ انطلاقًا من إيمانه بأن فن المسرح يصلح الشعوب؛ فكان صاحب أول موضوع مسرحى متكامل، مطبوع باللغة العربية، في عالمنا العربي-كما يقرر الدكتور سيد علي، المُؤَرِّخ الأول لفن المسرح في عالمنا العربي الآنَ- والمنشور فى مصر سنة 1833م، وهو ترجمته كتاب (ديوان قلائد المفاخر فى غريب عوائد الأوائل والأواخر) للمؤلف الفرنسى (ديبنج (Depping، والذى عرّفنا فيه – ولأول مرة – معنى المسرح من خلال شرحه – وليس ترجمته - لكلمة (سبكتاكل) - والمقصود بها المسرح باللغة الفرنسية – قائلاً عنها: "... اسم لمَلْعَبَةٍ ببلاد الإفرنج، يُلعَب فيها تقليدُ سائرِ ما وقع. وفي الحقيقة إن هذه الألعاب هى جِدٌّ في صورة هَزْل؛ فإن الإنسان يأخذ منها عِبَرًا ... إلخ". أما الجزء الخاص بتاريخ المسرح العالمى الموجود في الكتاب نفسه، وقام الطهطاوى بترجمته، فكان أول تأريخ للمسرح العالمى باللغة العربية!! ولم يكتف الشيخ الأزهرى رفاعة الطهطاوي بذلك، بل نشر كتابه المؤلف (الديوان النفيس بإيوان باريس)، المشهور باسم (تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز)، وضمّنه تفاصيل مشاهداته للمسرح الفرنسى، الموجودة في الكتاب تحت عنوان (متنزهات مدينة باريس)، عام 1835م. ولم يكتف الشيخ الأزهرى رفاعة الطهطاوى بذلك أيضًا، بل كان أول من نشر باللغة العربية ترجمة نص مسرحى كامل من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، ونشره في مصر عام 1868م؛ ليكون أول نص مسرحي منشور باللغة العربية في تاريخ مصر بأكملها، وفي تاريخ المسرح العربي كله، وهو نص مسرحية (هيلانة الجميلة)" لكل من "هنرى ميلهاك ولدوفك هاليفري"...
4-التجديد في فن الشعر:
لم يكن شيخنا رفاعة بالشاعر الفحل، ولم يكن يفتخر به، ويعده من بضاعته الجيدة، يقول:
وما نَظْمُ القَريضِ برأسِ مالى ولا سَنَدى أراه ولا سِنادى
ولكنه سخر موهبة الشعر لبث بعض آماله وآهاته عن طريقها، فكانت له تباشير فى الشعر الجديد، فى المضمون حيث نجد فى ديوانه المديح النبوى، والشعر الوطنى، والشعر التربوى، والشعر الذاتى، والشعر الوصفى للمظاهر الحضارية الجديدة، والشعر التعليمى. وفي مجال شكل الشعر نجد له الأراجيز، والموشحات، والأناشيد، والأوزان القصار، وفي بعض تجارب شيخنا الشعرية تلوين موسيقي في الوزن والقافية، يجعله من رواد التجديد في موسيقى الشعربي العربى. ويتميز شعر شيخنا ونثره بعاطفته الوطنية الصادقة الحارة، وكان يتقد وطنيةً وغيرةً على بلاده، حيث مدحُ مصر والفخرُ بها، وتفضيل مصر، ومدح جيش مصر، ونظم قصائد سجلت انتصارات الجيش الوطني ضد الأتراك و الأوروبيين، ومدح آثار مصر، والحنين إلى مصر وقت غربته، والدعوة إلى الجهاد والمقاومة والأخذ بأسباب القوة العسكرية لأجل الحفاظ على تراب الوطن ومقدراته، والحث على افتدائه، وبذل كل شىء في سبيله، وهو صاحب أول تجربة لنشيد وطنى؛ متأثرًا في ذلك بترجمته نشيد المارسيلييز، نشيد الثورة الفرنسية المعروف!
ومن جميل شعر رفاعة الوطني قوله:
ولَئِنْ حلفتُ بأنَّ مِصرَ لَجَنَّةٌ وقطوفُها للفائزينَ دَوَانى
والنيلُ كوثرُها الشهيُّ شرابُه لَأبَرُّ كلَّ البِرِّ في أيمانى
ومن نماذج فن الأناشيد الحماسية قوله:
يا أيها الجنودْ والقادة الأسودْ
إن أَمَّكم حَسُودٌ يعودُ هامى المدمعِ
فكم لكم حُروبٌ بنصرِكم تؤوبْ
لم تُثنِكم خُطوبٌ ولا اقتحامُ مَعْمعِ
وكم شهدُتم مِن وغًى وكم هزمتُم مَن بَغى
فمَن تعدَّى وطغى على حِماكم يُصرعِ
ومن شعره المُمَجِّد لجيش مصر قوله من موشحة نشيدية:
يا حِزْبنا قُمْ بنا نسودْ فنحنُ فى حَرْبِنا أسودْ
عندَ اللِّقا بأسُنا شديدْ هامُ عِدانا لنا حَصيدْ
حامى حِمَى مِصرِنا سعيدْ في عصرِه مجدُنا يعودْ
بجندِه المجنَّدِ وسيفِه المُهنَّدِ
ونصرِه المُؤيَّدِ وعزِّه المُشيَّدِ
في عصرِه مجدُنا يعودْ
فالشاعر فضلًا عن تلوينه للقوافى في هذا النشيد، قد استخدم بحرين، إذ استخدم مخلع البسيط فى الأشطر الطوال، واستخدم مجزوء الرجز فى الأشطر القصار، وهذا ما لم يجرؤ عليه إلا أئمة التجديد من الوَشَّاحين أنفسِهم، كما يقول الدكتور أحمد هيكل فى كتابه "تطور الأدب الحديث فى مصر."
5- ترجمة الأدب الغربى:
لشيخنا الطهطاوى سُهمة باكرة في إطلاع المثقف العربى على نماذج من الأدب الفرنسى؛ فقد ترجم أكثر من خمسة وعشرين كتابًا، في مجالات علمية متنوعة، وكان كتاب «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» تأليف دبنح (باريس 1826م)، وهو أول كتاب يُترجَم من لغة أوروبية حديثة، وينشر باللغة العربية عام 1833م، وقد جعله على قسمين: الأوّل فى أخلاق أهل بلاد أوروبا، ترجمها عن كتاب العلامة دبينغ في عوائد الأمم وأخلاقها، والثانى معجم الاصطلاحات الجغرافية والتاريخية أخذه عن الفرنساوية. ويرى الدكتور طه وادى-محقق ديوان شيخنا رفاعة- أن شيخنا رائد فى ترجمة الشعر شعرًا؛ فهذا مجال لم يَكتب فيه أحد قبله، فترجم قصائد فرنسية فى المدح، وقصائد من حصاد الثورة الفرنسية، مثل القصيدة الباريسية، ونشيد المارسيليز، الذى ألفه "روجيه دي لوارل"، والذي مطلعه:
فهيّا يا بنى الأوطانِ هَيَّا فوقتُ فَخَارِكم لكمُ تَهَيَّا
أَقِيموا الرايةَ العُظمَى سَوِيَّا وشُنُّوا غارةَ الهَيْجا مَلِيَّا
ولشيخنا (نظم العقود في كسر العود)، وهى قصيدة طُبِعت في باريس ١٨٢٧م، وهى معرّبة عن شعر نظمه العلّامة يوسف أغوب، يدور حول مقدمة غزلية، ثم حنين إلى مصر وتفاخر بها، ومدح لها، هذا إضافة إلى كتابه (مواقع الأفلاك فى أخبار تليماك)، السابق ذكره...
وهكذا نرى شيخنا رفاعة الطهطاوي-رحمه الله، ورضى الله عنه- قد حمل لواء النهضة الجديدة في الأدب العربى، فجدد فى أسلوبه وأجناسه وأغراضه، وكانت له تجارب إبداعية أولى في فنون حديثة، مثل: السيرة الذاتية، وأدب الرحلة، والرواية، والمسرح، والنشيد الوطنى، وترجمة الشعرِ شعرًا، والتجديد في موسيقى الشعر العربى وزنيًّا وقافويًّا! فنحن إذن، في تتبعنا مسيرة الشيخ رفاعة الطهطاوى وقراءتنا آثاره، أمام أديب متكامل، جمع بين الكتابة، والبحث، والتأليف، والسرد، والشعر، والترجمة، بنهج خاص، وطريقة طريفة، وتأثير ممتد واسع، في تلاميذ وأتباع، تَكَوَّنت منهم مدرسة عَمِلت على الإحياء للجديد الموروث، وأسهمت في إدخال الفنون الأدبية المستحدثة؛ تحقيقًا لأصالة عربية معاصرة، في مجال الأدب وصفًا وإبداعًا!