الأحد 5 مايو 2024

رفاعة رافع الطهطاوى من صعيد مصر إلى فرنسا


د. عزة أحمد هيكل

مقالات10-8-2023 | 18:56

د. عزة أحمد هيكل

● رأى الطهطاوي أن التعليم هو نافذة الأمة إلى المستقبل والتطور والنهوض من كبوتها بعد الحملة الفرنسية وما فعله بها المماليك من قهر وظلم وتخلف وجهل

حين تطأ أقدامك مدرجات كلية الألسن بجامعة عين شمس بالعباسية تتداعى فى مخيلتك أطياف ذلك الشيخ المهيب "رفاعة رافع الطهطاوي" مؤسس هذا الصرح العلمى العظيم والذى تأسس على يده عام 1835 فى مدينة عين شمس بالزيتون حالياً.. ثم انتقل إلى مقره الجديد فى الجامعة الكبيرة عين شمس في تسعينيات القرن الماضى، من مجرد مدرسة لدراسة اللغات والترجمة إلى كلية كبيرة لها أفرع في محافظات مصر ولها كليات ومعاهد فى جميع ربوع الوطن العربى تنتهج ذات النهج الذى يدرس اللغات الأجنبية والشرقية والإفريقية حتى الصينية والكورية ولغات أخرى حتى العبرية..

فلقد انطلقت حركة الترجمة والبحث والدراسة من هذه المدرسة التى أسسها "رفاعة رافع الطهطاوى" مع على مبارك ... فى عصر "محمد على باشا" والى مصر الذى أراد أن ينهض بولايته مصر ويجعلها فخرا للإمبراطورية العثمانية، فقد رأى أن التعليم هو نافذة الأمة إلى المستقبل والتطور والنهوض من كبوتها بعد الحملة الفرنسية فى ١٧٩٨ وما فعله بها المماليك من قهر وظلم وتخلف وجهل..

"رفاعة رافع الطهطاوى" جاء من "طهطا" بصعيد مصر ليدرس فى الأزهر الشريف على ايدى شيوخه العظام أمثال الشيخ "حسن العطار" الذى رشحه للسفر إلى فرنسا مع البعثة التى اختارها "محمد "على باشا " من البهوات وأبناء الأمراء العثمانيين للدراسة فى فرنسا ولم يكن بينهم إلا  ١٨فقط من الذين يتحدثون العربية بينما الباقى لا يعرفون إلا التركية والفرنسية وكان اختيار "رفاعة الطهطاوى" من قبل  شيخه العطار بمثابة المكافأة له لتميزه فى علوم النحو والفقه لأصوله الممتدة إلى نسب "الأمام الحسين سبط الرسول... وسافر رفاعة إلى فرنسا إماماً وواعظاً ومعلماً للغة العربية مع اثنين آخرين من شيوخ الأزهر عام.

فى فرنسا تعلم رفاعة اللغة الفرنسية وعلوم الطبيعة والرياضيات والمحاسبة بالإضافة إلى علوم اللغة والأدب وعندما عاد إلى مصر  اشتغل مدرساً للترجمة بمدرسة الطب التى أنشأها "على مبارك باشا" وفى عام ١٨٤٢ افتتح "مدرسة الألسن" للترجمة وعمل بها مدرساً ومترجماً، ولكن مشروعه الثقافى والتنويرى كان أكبر من مجرد مدرسة لدراسة اللغات والترجمة فقد كون مع "على مبارك باشا " فريقاً فكرياً للنهوض بمصر من كبوة عصور الجهل والظلام والمماليك فهو أول من أصدر مجله مصرية باللغة العربية تسمى "الوقائع" بدلاً من اللغة التركية التى كانت تصدر بها من قبل فهو بحق أحد رواد الصحافة المصرية المعاصرة حتى وإن ظل متأثراً بالفلسفة والفكر الفرنسى والأوروبى إلا أنه كان غيوراً على لغته العربية وآدابها وعلومها فاهتم بعلوم الترجمة فى  الرياضيات والطبيعة والإنسانيات، أنشأ مدرسة للمحاسبة أو ما يسمى الاقتصاد وإدارة الأعمال بالمفهوم الحديث .. وبالإضافة إلى كتبه وترجماته لمسرحية "تليماك"الفرنسية وكتابه الشهير "تلخيص الإبريز فى تلخيص باريس" والتحفه المكتبية لتقريب اللغة العربية فله أيضا ديوان جمعه ودرسه "د. طه وادى" ١٩٧٩   ومن اهم كتاباته فى التعليم والتربية الحديثة  كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين" ويعد دليلا للأسر المصرية آنذاك لكيفية التعامل مع  الصبية والبنات  وحثهم على التعليم والتعلم  والآداب والسلوكيات العامة … ومن أروع ما قال عن المرأة أنها استعصت عن ضعفها البدنى بقوة العاطفة والإحساس وأن حب الأوطان جزء من الإيمان، كما أن البنت من حق الأم إن كان هناك طلاق.

وقد  تعرض "رفاعة" للظلم على يد عباس وسعيد باشا إلا إنهما قد قدما له الكثير من الأراضى والمنح والألقاب، سواء بهوية إلى بشوية، حتى نفيه إلى السودان بحجة تولى أمور التعليم هناك لم يكن نفياً بالمعنى السياسى الحرفى، وإنما استبعاد مؤقت رفضه "رفاعة" فى قصيدة شهيرة هجاء  لأرض النفى تلك.

وفي عهد الخديوى إسماعيل عاد "رفاعة" إلى مشروعه الثقافى من ترجمة وتعليم ومحو أمية وأصدر أول مجلة ثقافية فى تاريخنا المعاصر "روضة المدارس" ومع تعدد كتابته التعليمية والترجمة وكذلك كتبه في علم الاجتماع والتاريخ والآداب إلا أنه لم ينس أن يكتب في السيرة النبوية "نهاية الإيجاز فى تاريخ ساكن الحجاز"...

كل هذا التنوير والتجديد تسبب فى نقد رفاعة، وذلك لميله الشديد إلى الفكر والحياة الفرنسية وخاصة أفكار الثورة الفرنسية عن المساواة والحرية والإخاء فقد كان "جان جاك روسو" مؤثراً فى أفكاره وكتاباته بنظرية العقد الاجتماعى إلا أن ولعه وحبه  وإيمانه باللغة العربية وأهمية التعليم ومحو الأمية وضرورة دراسة العلوم والمعارف  باللغة العربية تظل تأكيداً على تفرده وتميزه  كأحد رواد نهضة مصر الحديثة وأحد من شكلوا الوعى المصرى الحديث … إنه "رفاعة رافع الطهطاوى" من صعيد مصر إلى فرنسا  إلى تولى أكبر صروح العلم  وروافد الفكر فى مصر المحروسة… ومقولته الشهيرة "الناس على دين ملوكهم" ظلت حكمة يتداولها المفكرون والساسة عن أن النهضة والتنوير تبدأ بإيمان الحكام بأهمية التعليم والثقافة فى التطور الاجتماعى والاقتصادى والتمكين السياسى … رحم الله رفاعة ومن سانده لإنجاز مشروعه الثقافى.