الإثنين 20 مايو 2024

رفاعة الطهطاوي.. المنبع والامتداد والانتماء


حسين القاضي

مقالات11-8-2023 | 10:40

حسين القاضي

 

  • احتفظ رفاعة بشخصيته المصرية والعربية والإسلامية، ورجع إلى وطنه كامل الثقافة، صحيح العقيدة، سليم الوجدان، بما يرضى عقل العالم وقلب الأديب وضمير الوطني
  • كان الطهطاوى يحاكى نموذجا ناجحا، ولم يحاك عقائد دينية، وبقيت معايير الاحتكام السائدة عنده تصدر عن الإسلام ومقاصده، ووطنيته ومصريته وعروبيته
  • ترجم رفاعة نشيد المارسلييز من الفرنسية إلى العربية، وترك ثروة من المنظومات أطلق عليها الوطنيات، (الأناشيد الوطنية)، وابتكر هذه المنظومات فى الأدب العربى

 

حُقَّ لنا - نحن أبناء مركز طهطا بمحافظة سوهاج - الافتخار برائد النهضة الحديثة رفاعة رافع الطهطاوى (1801 – 1873م)، والافتخار حق لكل منتمٍ للحضارة العربية والإسلامية، وما ذكره محمد قطب فى كتابه: (واقعنا المعاصر) - وهو كتاب يمتلىء بالصدام والمغالطات والأكاذيب، ومن هذه الأكاذيب أن رفاعة حين رجع من البعثة أشاح عن أهله الذين استقبلوه بازدراء، ووسمهم بأنهم فلاحون، لا يستحقون شرف استقباله"،! هو كلام منافٍ للواقع، ولأخلاق رفاعة وأصوله الصعيدية وأخلاقه المصرية والأزهرية، وتلك سقطة واحدة من سقطات غير محصورة للكاتب، وسبق أن قيل مثل هذا في حق الدكتور محمد عبد الله دراز"، ولعل باحثا ينهض ليجمع دراسة مستقلة عن أخلاق وكرم ومروءات رفاعة، واليوم تُصدر مجلة (الهلال) عددا مخصوصا عنه، لأنه أول من سلك سبيل التنوير بمعناه الحقيقى.

فى طهطا - تلك المدينة العريقة المعروفة بالعلم والطب والتجارة - نشأ رفاعة من أبوين فقيرين، وانتمى نسبا إلى سيدنا الإمام الحسين بن على - رضى الله عنهما-، وتعلم فى الأزهر الشريف، وتحول من واعظ  فى بعثة علمية إلى إمام لنهضة حديثة، وهذه البعثة بلغ عددها 114 دارسا، كان إمامهم وأكثرهم نبوغا رفاعة الطهطاوى، الذي مثَّل الإطلالة الحقيقية لمصر والعرب على الحضارة الغربية، لأنه صنع رؤية أزهرية مصرية عملت على بناء الجسور بين حضارتين.

 وفى تأبين الابن الأصغر لرفاعة الطهطاوى، قال  أحمد شوقى:

يا ابن الذى أيقظت مصر معارفهُ ... أبوك كان لأبناء البلاد أبا

ولولا الضرورة الشعرية لقال شوقى: أيقظت معارفُهُ مصرَ والوطنَ العربى والعالمَ الإسلامى، بما قدمه لأمته فى التمدن والحضارة، فاستحق لقب الأب المؤسس لمصر الحديثة.

انتمى رفاعة إلى مدرسة أستاذه حسن العطار، وهى مدرسة منحت الأجيال  قدرة حقيقية على التفكير والانطلاق، وأثبتت أن مصر لا يمكن أن تدور في دوائر محلية مغلقة، وهى تملك كل مقومات التقدم، والحديث عن رفاعة إنما هو حديث عن فصل من فصول النهضة فى تاريخ مصر الحديثة، فهو من كبار رواد النهضة  التى خرجت للدنيا من خلال العمائم الأزهرية، واستطاعت تجديد حضارة الإسلام، بوصل الدين بالعلم والفن والعمارة والغرب، لأن بناء الحضارة الأنسانية لا يمكن أن يقوم به المسلمون وحدهم، بل يشاركهم فيها إخوانهم من مختلف الأديان والمعتقدات والتوجهات.

 سأعطيك صورة موجزة جدا عما كان عليه الوضع قبل مجىء رفاعة؛ لتتصور كيف أحدثت مدرسة العطار وعلى رأسها رفاعة الطهطاوي نهضة حقيقية، إذ كان الجمود قد أصاب الأزهر وغيره، وغرقت الأغلبية الساحقة في الوطن العربى والإسلامي -قبل سنوات من مولد رفاعة - في ظلمات التخلف والجهل والرجعية والشعوذة والخرافة، وهاك أمثلة:

عين أحمد باشا واليا على مصر سنة 1748م وكان من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرياضية، فذهب إليه الشيخ عبد الله الشبراوى شيخ الأزهر مع وفد من العلماء لتهنئته بالولاية، وناقشهم في مسائل العلوم، فلما انتقل بهم إلى العلوم الرياضية أحجموا، وقالوا: لا، لا نعرف هذه العلوم، فلما التقى الشيخ الشبراوى فى جلسة أخرى، قال له: المسموع عندنا أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجىء إليها، وقد سألتكم عن مطلوبى من العلوم، فلم أجد عندكم منها شيئا، وغاية ما عندكم الفقه والمعقول؟! فقال له الشيخ الشبراوى: هذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وحسن الوضع والخط والرسم، وأهل الأزهر بخلاف ذلك، ويندر فيهم القابلية لذلك"، مع أن الوالى وجد اهتماما بهذه العلوم عند الشيخ حسن الجبرتى، والد المؤرخ عبد الرحمن، فخفتت حدة غضبه من الأزهر.

والسائح الفرنسى (مسيو فولني)، زار الشرق قبل سنوات من مولد رفاعة، ووصف الحالة آنذاك قائلا: "إن الجهل فى هذه البلاد عام وشامل، مثل سائر البلاد التركية، ويتجلى فى كل جوانبها الثقافية، والصناعات فيها فى أبسط حالاتها، حتى إذا فسدت ساعتك لم تجد من يصلحها، إلا أن يكون أجنبيا".

وذكر على نجل رفاعة الطهطاوى، أن إسماعيل باشا  طلب من والده الذهاب إلى شيخ الأزهر لإقناعه بإصلاح نظام المحاكم، بدلا من الجمود على الفقه القديم، وقال له: إنك منهم، وأقدر على إقناعهم، فقال له رفاعة: "إننى يا مولاى قد شخت، ولم يطعن أحد في دينى، فلا تعرضنى لتكفير مشايخ الأزهر إياى فى آخر حياتى، وأقلنى من هذا الأمر".

لم يكن  رفاعة يفكر بنفس طريقة الجبرتى، الذي شاهد المعهد العلمى الفرنسى الذى أنشأه نابليون أثناء الاحتلال الفرنسى لمصر، فقال: "فى المعهد أمور وتراكيب غريبة، تنتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا"، ولا الشيخ الألوسى المفسر الذى قال كلاما أظهر صدمة من الأوربيين عند تفسيره لقوله تعالى: (وَلِسُلَیۡمَـٰنَ ٱلرِّیحَ عَاصِفَة تَجۡرِی بِأَمۡرِهِۦۤ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَاۚ)، الأنبياء: 81.

فها هو التعجب والاستغراب والصدمة من الجبرتى -وهو مؤرخ كبير-، والألوسى -وهو مفسر عظيم-، ومن هنا تعرف مدى عظمة رفاعة الطهطاوى الذى هزم العجز، وفهم الواقع، ولم تحدث له صدمة حضارية فى معتقده ولا حضارته ولا نفسيته، عندما رأى ما رأه الجبرتى والألوسى وعلماء الأزهر.

ببساطة عرف الطهطاوى – ومن قبله شيخه العطار- أن الفارق بين علومنا وعلوم الفرنسيين ليست بالبعد والاستحالة التى يتصورها الجبرتى، بل خطوة يمكن استدراكها والنهوض لتجاوزها، وفى استدراكها انقسم الناس، فريق رأى أن التقدم مرهون باحتذاء النموذج الغربى بخيره وشره، بينما رأى آخرون التوفيق بين حضارة الغرب وحضارة الشرق، ورأى فريق ثالث قطع الصلة مع الحضارة الغربية بل معادتها، إنه موقف اغترابى، وموقف تلفيقى، وموقف غير مدرك للواقع، بل ومتطرف، وكانت نظرية رفاعة: التواصل والانفتاح وفق أصول منهجية لا تلفيقية، فانطلق من النموذج المعرفى العربى والإسلامى، وهو نموذج يتسع لسائر الملل والنحل والمذاهب.

لقد احتفظ رفاعة بشخصيته المصرية والعربية والإسلامية، ورجع إلى وطنه كامل الثقافة، صحيح العقيدة، سليم الوجدان، بما يرضي عقل العالم وقلب الأديب وضمير الوطني، والاحتفاء برواد التنوير وأئمة النهضة هو في الحقيقة تبديد لجيوش الظلام والتطرف والتخلف، وانطلق محترما للعقل، فكان سببا فى تطور ثقافتنا الحديثة، ونقل التنوير ليكون هدفه الأسمى فى كل جوانب حياتنا.

أليس هو الذى ترجم نشيد المارسلييز من الفرنسية إلى العربية، وترك ثروة من المنظومات أطلق عليها الوطنيات، (الأناشيد الوطنية)، وابتكر هذه المنظومات فى الأدب العربى، واشتهرت الأناشيد الوطنية فى مصر خلال ثورة 1919، ولكن بدايتها كانت على يد رفاعة، الذي أنشد:

محبة الأوطان .. من شعب الإيمان

وقد نسب المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى هذه الظاهرة إلى الوطنية المتدفقة عند الطهطاوى.

وعندما ذكر قدرى باشا للخديوى إسماعيل أن القانون الذي يعمل به الفرنسيون مأخوذ فى بداية الأمر من الأندلس، ومنها جاءت القوانين التي أخذتها فرنسا، وقوانين الأندلس مأخوذة من الفقه المالكى، ومن هنا كان المطلوب ترجمة قانون نابليون، المسمى عند أهل القانون "كود نابليون"، وهنا أمر رفاعةَ أن يفعل ذلك نقلا من الفرنسية إلى العربية، وطبع فى مجلدين، وبعدما ترجم الطهطاوى كود نابيليون أمر الخديوى إسماعيل الشيخ مخلوف حسانين بمراجعة ما ترجمة الطهطاوى، ومن خلال اشتراك رفاعة ومحمد قدرى فى ترجمة (قانون نابليون) قدم قدرى للثقافة القانونية والعربية كتاب (مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان)، وهو الكتاب الذي وضع قواعد الشريعة فى مواد قانونية على النمط الحديث وعلى مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان.

يقول المفكر الأستاذ سامح كريم: ما الذى كان يعنيه رفاعة من درس نظام الحكم بفرنسا وترجمة دستورها والتعليق على مواد الدستور غير الميل الفطرى إلى تطبيق مبادىء الحرية في بلده، وما الذي كان يعنيه من الاهتمام بالصحافة الفرنسية غير أنه يريد لبلده لبلده صحافة جديدة، وما الذى كان يعنيه من الاهتمام بالتعليم فيستحدث منظومة في التربية والتعليم يصب فيها عصارة علمه وفلسفته غير أنه كان يريد لأمته التقدم، وما الذى كان يعنيه من وراء دعوته إلى تعليم المرأة وتثقيفها، ويخصص لذلك كتاب (المرشد الأمين للبنات والبنين)، لتحرير المرأة غير الخروج بها من البؤر المتخلفة التي عششت فيها قرونا لتسهم مع الرجل في بناء المجتمع، وما الذى كان يعنيه من وراء كل ذلك غير التنوير فى كل جوانب حياتنا.

إذن: كانت الرؤية الوطنية والاجتماعية والدينية والفلسفية عنده تصدر عن الأصول الإسلامية، وكان يحاكى نموذجا ناجحا، ولم يحاك عقائد دينية، وبقيت معايير الاحتكام السائدة عنده تصدر عن الإسلام ومقاصده، ووطنيته ومصريته وعروبيته، وما ذكره فى (تلخيص الإبريز) من مشاهد تنافى المجتمع الشرقى، إنما ذكرها من باب التدوين لا الإقرار، وقد نص على ذلك فى غير ذى موضع.

"وإذا كانت هذه أهمية رفاعة ودوره فى البعث والإحياء، فالمنتظر من مؤسساتنا الثقافية والعلمية والصحفية والفكرية أن تهتم بتقديم رفاعة للأجيال، لكن الواقع غير ذلك من العرب وغيرهم، فالمستشرق الألمانى الشهير "كارل بروكمان" عقد قسما فى كتابه الكبير (تاريخ الشعوب الأسلامية)، تناول النهضة فى عهد الخديو إسماعيل، ولم يشر لرفاعة، والدكتور فيليب حتى وضع مع جورجي زيدان وجبرائيل جبور كتاب (تاريخ العرب) ولم يشر لرفاعة، وكذلك فعل "تيودور رتشنين" صاحب كتاب (تاريخ المسألة المصرية)، والأمثلة كثيرة، ونحن إذ نستسيغ تعليل هذا الموقف حين يصدر من المعادى للتطور العقلانى للعرب، وأن العرب من ضمنهم مصر لا يصلح لها إلا الحكم العثمانى، ومن ثم يكون التجاهل ثمرة لهذا الموقف غير الأمين، لكن الأمر يتعلق بمسئوليتنا نحن العرب عن هذا التجاهل لرفاعة فى جامعاتنا ومدارسنا".

وقل مثل هذا فى الشيخ حسن العطار، ومازالت المكتبة العربية تنتظر الجهد الذى أعلن عنه العالم المصري الدكتور أسامة الأزهري في مقالة له بمجلة (الهلال)، حين قال: "سعيتُ فى جمع ما يمكنني الوصول إليه من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة للإمام حسن العطار، وبدأت منذ عدة سنوات تأليف كتاب (موسوعة) سمتُه: (صانع الحضارة الإمام حسن العطار، شخصيتُه وعقلُه ومواردُه واختياراتُه من خلال مؤلفاته).