- سهام صاعدة وسهام هابطة في مسيرة رجل آمن بقيمة العلم ومزايا الترجمة !
- عاد رفاعة من فرنسا عام 1831 ، مسلحا بإرادة من حديد، حاملا داخل نفسه الأمل في أن يطبق ما رآه في البلاد الفرنساوية إلى البيئة المصرية
- عكف الطهطاوى على ترجمة الكتب والمراجع الفريدة، واختار منها ما رآه يخطو بالبلاد خطوات نحو النور فى شتى مجالات المعرفة
- لم يعرف رفاعة الكسل أو الخمول فى الفترة التى قضاها رفاعة فى منفاه بالسودان بل قضاها في ترجمة عدة أعمال ، منها مسرحية "تليماك"
ماذا يمكننا أن نقوله في عام 2023 عن رفاعة الطهطاوى بعد تلك الفترة من الزمن التى مررنا بها ؟ وماذا يمثل لنا وسط حالات التراجع والنكوص التي نمر بها في تلك الأزمنة القلقة التي نعيشها بعد أن غابت القيمة، واهتزت الرموز، بل واختلت المعايير بشكل واضح ودال؟
ولد رفاعة رافع الطهطاوى عام 1801 أى فى السنة التي أجليت فيها الحملة الفرنسية عن مصر، وهنا لابد من التوقف أمام تفريعة صغيرة تتمثل في دخول " المطبعة " مصر، وهو أمر شديد الأهمية، لابد أن نوليه اهتمامنا. كما أننا نتذكر الكتاب العظيم "وصف مصر" الذى كتبه علماء الحملة عن الإنسان والنباتات والطيور، وكل ما تحويه البلاد من كنوز.
حين ثار الشعب على حكم خورشيد باشا، تولى محمد على حكم مصر عام 1805بمعاونة المشايخ وأعيان البلد، بعدها سعى لتقوية جيشه، وتحديث دولته خاصة بعد أن نجح في القضاء على المماليك عام 1811، نتيجة خطة محكمة، فقد أعلن الباشا عن احتفال فى القلعة بمناسبة إلباس ابنه طوسون خلعة قيادة الحملة على الوهابيين بالأراضى الحجازية المقدسة، وحدد له الأول من مارس سنة 1811، وأرسل يدعو المماليك لحضور الاحتفال. وقد لبى المماليك الدعوة، وما أن انتهى الاحتفال حتى دعاهم محمد على إلى السير فى موكب ابنه. حيث تم الترتيب لجعل مكانهم في وسط الركب، وما أن وصل المماليك إلى طريق صخرى منحدر يؤدى إلى باب العزب المقرر أن تخرج منه الحملة، حتى أغلق الباب فتكدست خيولهم بفعل الانحدار، ثم فوجئوا بسيل من الرصاص انطلق من الصخور على جانبي الطريق ومن خلفهم يستهدفهم. راح ضحية تلك الحيلة كل من حضر من المماليك، وعددهم 470 مملوكا، ولم ينج من المذبحة سوى مملوك واحد يدعى «أمين بك»، الذى استطاع أن يقفز من فوق سور القلعة.
بدأ محمد على فى تقوية جيشه وتحديثه، وراح يفكر فى تدريب الفرق التى أنشأها تدريبا حديثا، واختار لذلك عدة بعثات ذهبت إلى فرنسا، وبعض البلدان الأوربية الأخرى.
كان رفاعة الطهطاوي القادم من سوهاج قد التحق بالأزهر، وهو فى السادسة عشرة من عمره عام 1817 وشملت دراسته في الأزهر الحديث والفقه والتفسير والنحو والصرف، وغير ذلك. خدم بعدها إمامًا فى الجيش النظامى الجديد عام 1824.
وقد اختير للسفر إلى فرنسا لأول مرة عام 1826م، ضمن بعثة عددها أربعون طالبًا أرسلها محمد علي على متن السفينة الحربية الفرنسية (لاترويت) لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة، وكان عمره حينها 24 عامًا وكان الشيخ حسن العطار ـ الذي لمس نبوغه المبكر ـ وراء ترشيحه للسفر مع البعثة إماما لها، وما حدث هو أن هذا الشاب الطموح رأى أن يجتهد ويدرس اللغة الفرنسية إلى جانب صفته كإمام وهذا يدل على نباهته وشغفه بالدرس العلمى.
بعد مضي خمس سنوات أدى رفاعة امتحان الترجمة، وقدم مخطوط كتابه الأشهر "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، رغبة منه فى أن ينقل تجربة تلك الأمة الفرنسية فى التقدم الذي شاهده بنفسه ورآه رؤية العين، إلى وطنه مصر.
ثمة ملاحظات تخص هذه الخطوة الاستثنائية:
الملاحظة الأولى: أن رفاعة الطهطاوى هو الذي اختار أن يكتب مشاهداته بمبادرة منه، نتيجة شغف وحب مضمنا إياها جزءا وصفيا تحليليا.
الملاحظة الثانية: إيمان رفاعة الطهطاوى بكون الأمة المصرية يمكنها أن تتقدم فى شتى معارف العصر إذا ما طوع العلم لتطوير الدولة، وتحديث آلياتها.
الملاحظة الثالثة: ظل رفاعة نفسه ملتزما بالسلوك الدينى المتزن، ولم يجد تعارضا بين دعوته للأخذ بأسباب الحضارة وبين التمسك بالهوية العربية. وسوف نضيف هنا أن بعض طلاب بعثته كانوا يتحدثون التركية.
عاد رفاعة إلى مصر عام 1831، مسلحا بإرادة من حديد، حاملا داخل نفسه الأمل في أن يطبق ما رآه في البلاد الفرنساوية إلى البيئة المصرية، وحدث أنه اشتغل بالترجمة في مدرسة الطب، وعمل كل ما بوسعه لتطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية.
ولم تكن مصادفة أن تفتتح مدرسة الترجمة عام 1835 ، والتي صارت فيما بعد " مدرسة الألسن "، حينها عين مديرا لها إلى جانب عمله فى سلك التدريس.
منذ هذا الحين تفتق ذهن رفاعة على مشروع ثقافى قومى حيث وضع الأسس الراسخة لحركة النهضة الحديثة.
لم تكن وثبة في الفراغ، بل هو مشروع مبني على تخطيط حديث وثقة فى إمكانيات المبتعثين، وقد عكف الرجل على ترجمة الكتب والمراجع الفريدة التى رأى أنها تخدم مشروعه الطموح، بمعنى أنه اختار من الكتب ما رآه يخطو بالبلاد خطوات نحو النور فى شتى مجالات المعرفة.
ومن النقاط المضيئة في تجربة رفاعة الطهطاوى أنه ترجم فى التربية، والفلسفة، وحقوق الأمة، ونزعات الحرية، واهتم بجمع الآثار المصرية، وظل يطرق الأبواب حتى استصدر أمرا بصيانتها وحفظها بعد ان كانت عرضة للتهريب والبيع والإهداء .
مثل هذا الحس الوطنى المبكر لازم خطوات رفاعة الطهطاوى الرجل النبيل الذي لم تغيره المناصب بل إنه وضع نفسه ومناصبه المتتالية في خدمة الأمة وصيانة تراثها خاصة فى فترات الضعف التي لازمت بعض الحكام المغرورين بقوة السلطة، وبهرج الصولجان.
لم تقف جهود رفاعة عند وظيفته الأساسية فى تحديث العلوم العصرية فنراه قد ساهم بدور كبير في الإشراف على إنشاء عدة أقسام متخصصة في الترجمة لبعض العلوم العصرية ومنها: الفيزياء والجيولوجيا، الرياضيات، الطبيعيات، والعلوم الإنسانية كما أنه سعى لإنشاء مدرسة الإدارة ، والعلوم السياسية، والمحاسبة، والاقتصاد.
وقد نجح بعد محاولات وجهد كبير فى استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية، وقد واجه فى سبيل تحقيق هذا الهدف هجوما كبيرا.
استطاع رفاعة الطهطاوى أن يصدر جريدة "الوقائع المصرية" وهى الجريدة الرسمية باللغة العربية بعد استبعاد اللغة التركية إضافة إلى ترجمة حوالي عشرين كتابا حررها بنفسه، وقام في نفس الوقت بتشجيع الخريجين الجدد على الترجمة، مشرفا عليهم وموجها أمينا لهم.
تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن ، ففي عهد الوالى عباس باشا تم إغلاق مدرسة الألسن وجمد أعمال الترجمة، وقصر توزيع " جريدة الوقائع المصرية " على كبار رجال الدولة من الترك. وكانت الطامة الكبرى أن عباس باشا قد أمر بنفي رفاعة الطهطاوى إلى السودان عام 1850 .
الغريب بل المثير للدهشة أن فترة الأربع سنوات التى قضاها رفاعة في المنفى لم يعرف فيها الكسل أو الخمول بل قضاها فى ترجمة عدة أعمال ، منها مسرحية " تليماك " للكاتب فرنسوا فنلون. وقد حاول مرارا العودة لبلده وتسنى له الأمر بعد موت عباس باشا، وتولية سعيد باشا.
لم يضع رفاعة وقتا طويلا لاستعادة نشاطه فقد عكف على إنشاء "مكاتب محو الامية"، وأكمل عمله في الترجمة عن الفرنسية بنشاط ، وأحدث نقلة نوعية حين أسند إلى " طبعة بولاق" طبع ونشر أمهات الكتب العربية، في عناية واضحة بكتب التراث، الأمر الذى أحدث ردود أفعال إيجابية فاتسعت رقعة المهتمين بالتراث وما يمنحه للمعاصرين من عمق حضاري مميز .
لمرة ثانية يقع رفاعة الطهطاوى بين المطرقة والسندان حين قرر سعيد باشا إغلاق الكثير من المدارس التي أنشئت بجهده وعلمه وخبرته، بل إن السلطة الجائرة أصدرت قرارا بفصل رفاعة من عمله عام 1861 ، وهكذا كانت تدار البلاد بالمزاج ، واستنادا على الدسائس والمكائد .
أسهم هابطة ثم أخرى صاعدة مع تغير الحكام ، وتبدل اهتمامهم في الأسرة العلوية التي كانت تدار بلا سند من العلم أو المعرفة، فمع تولي الخديوى إسماعيل عام 1863 يعود رفاعة الطهطاوى للعمل، مشرفا على مكاتب التعليم مع تولى إدارة "الترجمة" ومن بواعث السرور صدور أول مجلة ثقافية في تاريخ البلاد "روضة المدارس"، ويعاود رفاعة إصدار كتب تربوية مهمة، تنتشر فى أرجاء البلاد، وفى رأيى أن من أهم ما فعله رفاعة الطهطاى فى رحلته المثمرة تعريب " القانون المدنى الفرنسى" ، وقد رحل الرجل في عام 1873 م. ليكون علامة مضيئة في عصر حفل بالتناقضات، والتحولات الدراماتيكية .
من النقاط التى نرى رصدها فى مسيرة رفاعة النقاط التالية:
أولا: إن السلطة السياسية فى بعض الفترات التاريخية ترى فى المفكرين والنبهاء مصدر خطر عليها.
ثانيا: إن قوة الإرادة ووضوح الهدف مكنت رفاعة من تحقيق الأفكار التى يؤمن بها، حتى لو كانت بعيدة المنال.
ثالثا: من الضرورى المواءمة بين النزعة التحديثية وبين التراث القديم وهو ما يعنى أهمية الوعى وتحبيذ فكر الانتقاء (الاصطفاء) .
رابعا: قد يأتى من علماء الدين من يمتلكون الحكمة لتطوير علوم الأمة كما فى حالة حسن العطار ورفاعة الطهطاوى.
خامسا: الترجمة عن اللغة الأصلية يمد الدارس المعاصر بعلوم ومواد تسهم فى الارتقاء بالأمة في شتى مجالات العلم .
سادسا: الجريدة والمجلة قديما، والفضاء الإلكترونى ومنصات النشر السيبرانى حديثا من الأهمية بمكان فى تشكيل وعى الأفراد.
سابعا: ما من عمل جماعى قائم على التخطيط إلا وينتج عنه ثمار ذات مذاق حلو. بينما الاجتهادات الفردية قد تقمع بتدخل أصحاب المناصب العليا .
.. وأخيرا.. سلام على روح المحارب الفذ .. ابن الصعيد العنيد .. رفاعة رافع الطهطاوى.