الأحد 5 مايو 2024

رفاعة الطهطاوي وفلسفة المستقبل


رفاعة الطهطاوى

مقالات11-8-2023 | 10:56

د. سيد حنفى

 

  • كان الطهطاوى هو أول من نشر مفاهيم الدولة الحديثة, وأسهم فى بناء الدولة المصرية على مستوى السياسة والتربية والتعليم, والترجمة, والتأريخ
  • راح الطهطاوى يؤرخ للحاضر, ويؤكد على ثقافة الأمل والإنجاز, ويؤسس لأركان التمدن والتخطيط للمستقبل في تأريخه للتمدن
  • اهتم الطهطاوى بقضية النيل والأمن المائي والقومى المصرى, فعنده أن منبع سعادة مصر بالأصالة هى الزراعة، التى  هى أهم مصادر ثروتها

 

 إنّ الحديث عن المستقبل يأتى فى إطار تقرير المصير والسيطرة على الكون والذات. ولا يتأتى ذلك إلّا بحدوث الوعى بحركة التاريخ والتفكير في المستقبل والتواجد فى حركة الحضارة, وفي هذا السياق يذكر الدكتور حسين مؤنس أن هناك قصة لطيفة تمثل نظرة الشرق للمستقبل, وتمثل جماع فلسفة الحياة, ويرويها الغربيون عنا على أنها جماع الغفلة عن سر البقاء, هي قصة الإسكافى الذى أتاه رجل بنعل يخصفه, فنادى زوجته وسألها: هل بقى لدينا شىىء؟ فقالت:(لدينا ما يكفى اليوم وغدًا), فنظر الإسكافى إلى الرجل وقال له: (إذًا تأتينى بعد غد) ثم استلقى على الأرض وأرسل بصره يتأمل جمال السماء, فقد تعودنا أن ننظر ليومنا فحسب, وعلى ألا تترامى أبصارنا إلى ما وراء ما يبدو ماثلاً لأعيننا.

    يعد رفاعة الطهطاوى(1801-1873) -الذى ولد في عام جلاء الحملة الفرنسية - أول من قلب معنى هذه القصة بل وقلب حياتنا الفكرية فكان أول من نشر مفاهيم الدولة الحديثة مثل الحرية والديمقراطية والمساواة, وأسهم في بناء الدولة المصرية على مستوى السياسة والتربية والتعليم, والترجمة, والتأريخ, واضعًا نصب عينيه تقدم الوطن ومستقبله كفريضة أولى من خلال بذل الجهد في دراسة وطرح الرؤى المستقبلية لترقية الوطن, وما أحوجنا الآن إلى هذا الدرس حيث نجد أن كثيرًا من المتصدرين منابر الثقافة والقول جعلوا كل جهدهم منصبًا على تشويه الرموز التاريخية والوطنية, أو إثارة بلبلة دينية, أو إشاعة الإحباط واليأس من كل إصلاح وتقدم ممكن.  

القرن الثامن عشر وفلسفة الموت

       أدرك الطهطاوى أن واقع الأزمة كفيل بالقضاء على أي حداثة ممكنة, وأن الحديث عن مستقبل الحضارة ووعي حركة التاريخ يظهر مع ثقافة الأمل وليس فلسفة الموت والفوضى التي أشاعها الحكم العثماني المملوكى فى القرن الثامن عشر وصارت مصر تفقد كل يوم عناصر حياتها على التدريج بانحلال الانتظام كما يقول الطهطاوى.

    كان الوضع في القرن الثامن عشر مثالاً للفوضى, والفوضى كما يرى حسين المرصفى معناها تفكك الدولة إلى جماعات متقاتلة تنحط بالدولة وتقضي على كل إصلاح, ومن ثم جاء كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي(1753-1825) مؤرخًا للموت والموتى باعتبار طبيعة الأزمة المادية الاجتماعية التي شغلته واعتبرها موطن الداء, فقد كان مأخوذًا في تأريخه بالأوضاع الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية المتأزمة, مركزًا على ظواهر الموت وغلاء المعيشة والجوع والاحتكار والعنف والفوضى التي خلفها تقاتل المماليك على الحكم. حتى حديث الحاضر حينما أرخ الجبرتي للحملة الفرنسية كان تأريخًا للأزمة يقول عن سنة 1798 "وهي أول سنى الملاحم العظيمة, والحوادث الجسيمة...وتوالى المحن, واختلال الزمن...وفساد التدبير, وحصول التدمير, وعموم الخراب, وتواتر الأسباب". ومن هنا نفهم كيف أنّ تاريخ الجبرتى كان تعبيرًا عن الأزمة, ونفهم أيضًا لماذا لم تتطوّر حركة التجديد التي بدأت في نهايات القرن الثامن عشر, كما تحدث عنها أحمد عزت عبد الكريم, وجمال الدين الشيال, وعصمت نصار, وغيرهم من مفكرى ومؤرخى الفكر العربى الحديث.

القرن التاسع عشر وفلسفة المستقبل

    مع الدخول فى القرن التاسع عشر ومع  تطوّر الوعة عند الجبرتي على مستوى الاهتمام بالتاريخ والكتابة التاريخية، وعند حسن العطار على مستوى الدعوة التجديدية للعلم ومعاهده, ظهر رفاعة الطهطاوى الذى كان نتاج سياق عصر جديد, ومرحلة تاريخية مختلفة بدأت بوعي مشايخ الأزهر بقدرتهم على اختيار حاكم بعينه, فجاء حاكم على وعي بالواقع ويحمل نظرة إلى المستقبل, فعمل على استقرار الحكم وبدأ حركة الإصلاح والإنشاءات التحتية والتطوير على مستوى الجيش والتعليم, وأنهى حالة العزلة التى عاشتها مصر وأحدث الاحتكاك بالغرب من منطلق التبادل العلمى, شراكة من أجل التطوير والترقى؛ ومن ثم فإن الطهطاوى ينتمى كما يقول غالى شكرى إلى المستقبل المتجرثم فى أحشاء الحاضر, وكان يجسد طموحات عالم جديد, وجوهر النهضة القائمة على الاحتياجات الموضوعية, الأمر الذى جعل باحثى التاريخ يعتبرون أنه أول من أرسى حجر الأساس للإنجازات التاريخية فى القرن التاسع عشر.

     وبينما اتخذ أهل القرن الثامن عشر فى مصر موقفًا معاديًا للتاريخ فيما يقول الجبرتي:"إلى أن نبذه أهل عصرنا وأغفلوه، وتركوه وأهملوه، وعدُّوه من شغل البطالين، وقالوا أساطير الأولين". رأى الطهطاوي أثناء رحلته إلى فرنسا أن الأوربيون عرفوا فلسفة التاريخ التي تحددت معالمها بفضل كتابات مونتسكيو(1689-1755) وفولتير(1694-1778) وكوندريسيه (1743-1794), حيث آمنوا بفكرة التقدُّم, وتمجيد المدنية, وفي قانون الترقى الذى يحكمها, الذي يقول إنّ كل جيل من الناس يرقى على أكتاف الجيل السابق له, ويسمو عليه في العقل والثقافة, والعلم والصحة, والسعادة والثروة ووسائل الراحة.

     ومن هنا تولّد عند الطهطاوى وعى جديد يؤرخ للحاضر والمستقبل وثقافة الأمل ومستقبل الحضارة, فبجانب إطلاعه العميق على التاريخ الإسلامي, فقد درس في فرنسا تاريخ الحضارات القديمة, وتاريخ الفلسفة الإغريقية, والأساطير اليونانية, وتاريخ منتسكيو عن الإمبراطورية الرومانية, ودرس أيضا الفلسفة فقرأ العقد الاجتماعي لجان جاك روسو, وتاريخ الفلسفة, والأساطير اليونانية, وأطلع على أعمال فولتير, وكوندياك.

  ثم راح الطهطاوى يؤرخ للحاضر, ويؤكد على ثقافة الأمل والإنجاز, ويؤسس لأركان التمدن والتخطيط للمستقبل في تأريخه للتمدن, فقد آمن بالدورات الحضارية وأن لكل حضارة دورًا يتحقق إذا ما تأصلت فيهم الوطنية وتمسكوا بالفضائل الدينية والإنسانية, وأسسوا للعلوم الحديثة, ورأى أنّ مصر بما لها من موقع جغرافى وعمق حضارى, يمكن أن تأخذ دورها الحضارى إذا ما تحققت تلك الشروط. فقد كان الطهطاوى قوميًا ظهرت القومية عنده وتركت وشمًا لا يمحى في كتاباته, فيقرر في كتاب مناهج الألباب أنه كتبه كخدمة للوطن, كما أنه لم يهد العمل للحاكم بل أهداه لمصر, التى هى عنده أم الدنيا.

    كان رفاعة أول من قدَّم مفهوما للتقدم يرتبط بالعلوم والفنون فعرَّفه بأنه:"عبارة عن تحصيل ما يلزم لأهل العمران من الأدوات اللازمة لتحسين أحوالهم حسا ومعنى, وهو فوقانهم فى تحسين الأخلاق والعوائد, وكمال التربية, وحملهم على الميل إلى الصفات الحميدة, واستجماع الكمالات المدنية, والترقى فى الرفاهية", وأوضح أن التقدم يتحقق بواسطتين, إحداهما: تهذيب الأخلاق بالآداب الدينية والفضائل الإنسانية , والثانية: المنافع العمومية التى تعود بالثروة والغنى وتحسين الحال وتنعيم البال على عموم المجتمع.

   وقد أنجز الطهطاوى ثمانية وعشرين عملًا ما بين تأليف وترجمة أو إشراف على تحريرها من بينها خمسة  كتب مهمة تختص بالتاريخ ووضع سبل ووسائل التقدم وهي تخليص الإبريز فى تلخيص باريز, ومناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية, وأنوار توفيق الجليل فى أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل, والمرشد الأمين, ونهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز الذى كان قد نشره على هيئة فصول فى مجلة روضة المدارس.

   أستطاع الطهطاوى من خلال هذه الأعمال أن يحقق أمرين: (أولهما): أنه هز البنية المجدبة للتاريخ الحولى Chronicle, ونحى نحوًا جديدًا في الكتابة التاريخية, وجعل أعماله متفقة مع المقاييس التاريخية الحديثة, فوسع من قائمة مصادره لتشمل المصادر الأوربية, والاكتشافات الأثرية, وحاول أن يعلل الأحداث ويحللها ويذهب إلى ما وراءها, وفي ترجمته للنبى صلى الله عليه وسلم في كتاب نهاية الإيجاز لم يكتف الطهطاوى بالوقوف عند التاريخ الحولى فضمن كتابه دراسة مستفيضة عن المؤسسات الإسلامية المبكرة.

(وثانيهما): أنه كان يؤرخ للحضور والبقاء والإنجاز ففة كتابه مناهج الألباب المصرية بدأ بإثبات الأنا فى التاريخ فتحدث فى التمهيد عن مصر الوطن ودورها في التاريخ وتقدمها, وراح يُذكِّر بالتمدن العربى فى العصر الأموى والعباسى, مركزًا على اختراعتهم الخالصة مثل البوصلة والساعة  ليقود القارىء إلى نتيجة مفادها أنّ العرب إذا كانوا قد تقدموا تقنيًا وعلميًا وأدبيًا فى الماضي فإنهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك في المستقبل,  وفي الأبواب الأول والثانى والثالث تحدث الطهطاوى عن المنافع العمومية ودورها في التقدُّم فتحدث عن الصناعة والزراعة والتجارة, ثم أرخ فى الباب الخامس  لتقدم مصر في عصره بفضل محمد علي, فقارن بينه وبين غيره من الحكّام الذين غيَّروا واقع أممهم وأثروا في مجرى التاريخ وحركته, ثم يختم كتابه بفصلٍ عما يجب "للوطن الشريف على أبنائه من الأمور المُستحسَنة", ليحث الأنا على استمرار العمل في التاريخ والتخطيط نحو المستقبل.

الطهطاوي ونيل مصر المبارك  

   ومن الأمثلة العملية التى تؤكد اهتمام الطهطاوى بالتخطيط المستقبلي وأثره العظيم هو اهتمامه بقضية النيل والأمن المائى والقومي المصرى, حيث اهتم بهذه القضية ونبه على ضرورة الاهتمام بها في كتاب أنوار توفيق الجليل, وكتاب مناهج الألباب المصرية, فعنده أن منبع سعادة مصر بالأصالة هى الزراعة، التي هي أهم مصادر ثروتها، ولكن هذا الأمر موقوف بالاهتمام بالنيل ومائه, فمصر أقرب أقاليم الدنيا إلى التلف؛ إذ أراضيها أَشَدُّ عُرْضَة للفساد بفساد النيل، فهى تابعة له وجودًا وعَدَمًا, ومن ثم نبه الطهطاوي على وجوب الاعتناء بحفظ مجرى النيل، وتَنْظِيم القناطر والجسور والترع والخلجان لمصلحة الري في كل طريق وسبيل, وهو ما أهْمَلَهَ المماليك فظلت مصر نحو خمسين سنة بدون عملية نيلية، فكانت الأراضى تَفْسُدُ فى كل عام فى كثير من الأقاليم حتى هَجَمَ التصحر على وادى النيل الصالح للزراعة وأوضح الطهطاوى أن محمد على لم يَلْتَفِتْ فى بداية حكمه لرواج الزراعة إلا التفاتًا ثانويًّا، ولم يَصْرِف عليها إلا القليل بالنسبة لما صَرَفَه على تأسيس العسكرية, التي كانت الأولوية الأولى من أجل الاستقرار والقدرة على تنفيذ الخطط الإصلاحية, ووضع الطهطاوى مجموعة من الملاحظات من أجل الحفاظ على مياه النيل وهى:

- أنه يجب عَمْل أقفال وسدود  لفرع رشيد، وفرع دمياط، بطريقة تقتضى ألا يَنْصَب ماء النيل فى البحر الأبيض إلا ما لا يُمْكِن تركه، فبهذا تَتَّسِع الأرض الصالحة للزراعة.

- الاعتناء بتطهير التُّرَع والخلجان كما ينبغى، بحيث تَمْكُث المياه على الأراضي طوال العام , فيَتَّسِع وادى النيل ومَجْرَاه، ويَمْتَد فيروى الأراضى الصحرواية الصالحة للزراعة.

- أن مصر إذا تَوَفَّرَتْ فيها شروط انتظام الحكومة، وإصلاح النيل، وسهولة وسائل المنافع العمومية، ودَفْع المضار النيلية؛ كَثُرَ خَيْرُها وبِرُّهَا، بخلاف ما إذا أُهْمِلَتْ جسورها على عَمَلِهَا المعتاد، وتُرِكَت الترع بدون تطهير، فإن ذلك يوجِب تَلَف الإقليم بتمامه.

  لابد أن يواصل النيل, بالعمليات الهندسية, تلك الصحاري, حتى تصير كوادى النيل الأصلى, فالنيل المبارك في الحقيقة, هو روح مصر, وحياة جثمانها, فالنيل لمصر محب ودود, وبه مصر منجبة ولود.

   وفي النهاية فإن الحديث عن فلسفة المستقبل عند الطهطاوى يؤكد أثره التنويرى فى مصر والعالم العربي, وأن مسئولية المفكر والمورخ ليست مجرد تسجيل الحوادث, بل مسئولية قومية قيادية, تنويرية وتخطيط مستقبلى, وبحث عن عوامل النهوض وأسس التقدُّم.