الأحد 5 مايو 2024

1973 الحرب والسياسة في صفحات الرواية

4-10-2017 | 16:08

بقلم: أحمد النجمى

سكتت المدافع وانتهت المعارك، ووضعت الحرب أوزارها، فانطلق الأدباء يكتبون.. عن بطولة الإنسان الذى صنع النصر.. ويسجلون ملامحه.. هذا الإنسان المصرى الذى تحرر من«عقدة» ١٩٦٧ مرتين: الأولى حين أحرز بطولات كبيرة فى حرب الاستنزاف، والثانية حين وثب وثبته العظمى فى حرب العبور المجيدة.. سجلوا هذه الملامح بالمسرح تارة، والفن التشكيلىتارة، والغناء والموسيقى تارة، والسينما تارة، ولعب الأدب دوره الكبير.. ربما كانت معالجة الأدب لنصر أكتوبر الأكثر عمقاً!

فى الأدب مساحات أكبر للبوح، والتفاصيل، والعاطفة - أياً تكن حباً أو كراهية أو بين بين - وفرصة أكبر لكشف الغطاء عن تاريخ الشخصيات فى الرواية، تضيق فى القصة القصيرة، وتتسع فى الرواية، من هنا.. جاء إسهام الرواية فى «التاريخ الإنساني» لحرب أكتوبر أكبر من القصة القصيرة..! وهذا موجود فى سياق آخر.. كسياق الروايات التى تناولت الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩ - ١٩٤٥، فهى أكثر عدداً وأعظم أثراً من القصص القصيرة التى تناولتها.. الأمر يختلف فى السينما -فأفلام الحرب العالمية الثانية أهم وأعظم فنياً وأكثر عمقاً وأكبر أثراً - فى الإنسانية كلها لا فى شعوب الغرب فقط - من كل أفلامنا عن حرب ١٩٧٣.. التى لا تعدو فى مجملها أفلاماً للاستهلاك المحلى تعرضها الشاشات الصغيرة فى ذكرى النصر وحسب.!

دعنا من السينما الآن أيها القارئ الكريم ولنبق فى مساحة الأدب المقروء.. ذلك الذى تصدى بصورة أكثر جدية وشمولاً من سائر الفنون الأخرى لحرب العبور العظيم.

فها هو شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ حين أراد تناول النصر من زاوية رؤيته الاجتماعية.. فى عمله الروائى - إن جازت تسميته بالرواية، فهو خليط من ألوان كثيرة خلطه نجيب محفوظ بعبقرية فذة - «أمام العرش».. يقدم محفوظ جميع حكام مصر من «مينا» موحد القطرين إلى أنور السادات.. والذين يحاكمون هؤلاء الحكام جميعاً هم نخبة من كبار الملوك من العصور الفرعونية مع آلهة الموت فى العقيدة المصرية القديمة.. وحين يأتى الدور على «السادات» فى المحاكمة، تزكيه هيئة المحكمة بوصفه أحرز النصر العظيم فى حرب١٩٧٣، ولكنها تلومه على موقفه من تدشين سياسة «الانفتاح الاقتصادي» وعلى إطلاق التيار الدينى فى البلاد.. وفى النهاية تختار له محكمة الآخرة هذه مصير «الجنة» لأنه قائد الحرب المجيدة فى ١٩٧٣.

يتحسر محفوظ - كثيراً - على نتائج نصر ١٩٧٣ التى أضاعتها السياسات الاقتصادية - الاجتماعية فيما بعد، فهذا النصر العربى الوحيد على إسرائيل، لم يعقبه نهوض اقتصادى ولا نمو اجتماعى، الحقيقة أن انقلاب قيم المجتمع - نتيجة الانفتاح - أصاب محفوظ بدرجة كبيرة من الشعور بالاغتراب تجاه المجتمع.. وهو الاغتراب الذى يبدو واضحاً فى رواية دالة مثل «الباقى من الزمن ساعة»، أو رواية مثل «يوم قتل الزعيم».. كان محفوظ يتوقع الكثير لهذا البلد بعد نصر ١٩٧٣، فلم يجد من هذا الكثير شيئاً، بل العكس هو الصحيح.!

نفس هذه الحسرة المحفوظية على ثمار حرب ١٩٧٣ التى كان يجب أن تكون، هى ذاتها التى تجدها فى روايته الجميلة «الحب تحت المطر»، وإن كانت هذه الرواية تتحسر على شىء آخر: فالمجتمع هنا فى حالة حرب استنزاف، قبل نشوب حرب العبور المجيدة بنحو ٣ سنوات، وفيما يحقق الجيش بطولات خالدة، وتستيقظ روحه الوثابة وتتطلع إلى نصر حاسم على العدو الصهيونى، فإن المجتمع هنا فى القاهرة بعيد عن خط النار غارق فى العلاقات الجسدية والمخدرات والسهرات الخاصة والمزاج والمجوهرات والثياب الجديدة، غير مبال بما يحدث على خط النار..!

ومن هذا المعطف نفسه - المعطف المحفوظى - جاءت أعمال الروائى الكبير «يوسف القعيد» التى تناولت الحرب - ١٩٧٣ - من زاوية اقتصادية اجتماعية.. مثلاً رواية «الحرب فى بر مصر» إحدى أهم روايات القعيد وأقربها إلى ما نتكلم فيه..!، هذه الرواية هى ما يعرفها عموم الناس - ممن لا يقرأ غالبهم الأدب! - من خلال فيلم «المواطن مصري» الذى تم إنتاجه قبل نحو ٢٣ عاماً، واضطلع ببطولته النجم الراحل عمر الشريف والفنان الكبير عزت العلايلى والراحل عبدالله محمود وصفية العمرى وخالد النبوى وأخرجه العملاق الراحل صلاح أبوسيف.. ابن الفلاح - الشاب «مصري» - الفقير المعدم المنحدر من نسل أسرة معدمة، يدخل الجيش بدلاً من ابن العمدة المدلل، مقابل مكسب وهمى يسديه العمدة لأهله.. والعمدة إقطاعى سابق ممن تضرروا من قوانين الإصلاح الزراعى حاقد على ثورة ٢٣ يوليو، يريد كل شىء: استرجاع ما أخذ من أرضه، إعادة الفلاحين لأوضاعهم القديمة عبيداً فى الأرض، وأن يظل ابنه مدللاً آمناً سعيداً هانئاً بعيداً عن القتال والدم، فيحمل الشاب «مصري» اسم ابن العمدة ويستشهد بدلاً منه.. يوسف القعيد يريد أن يقول هنا إن من صنعوا النصر قوم، ومن حصدوا ثماره قوم آخرون..! .

ليس بعيداً عن هذا المعنى بكثير.. كتب الراحل الكبير «جمال الغيطاني» عمله الفذ «حكايات الغريب».. لا يعرفه عموم الناس أيضاً كنص مقروء - فأغلب المصريين مع الأسف لا يتعاطون قراءة الأدب، وتلك مأساة أخرى - وإنما يعرفونه فيلماً أنتجه التليفزيون المصرى - قطاع الإنتاج تحديداً فى عصر «ممدوح الليثي» - فى منتصف التسعينيات، بطولة محمود الجندى ومحمد منير وشريف منير وآخرين وإخراج إنعام محمد على.. «الغريب» هو هذا المواطن المصرى الذى انسكر نفسياً فى ٥ يونيو ١٩٦٧، حتى يئس أهله من عودته إلى حيويته التى كانت.. ضاع منه كل شىء، استشهدت ابنة أخته الطفلة فى مجزرة «بحر البقر» اللا إنسانية، وأخذ خصمه خطيبته منه وتزوجها، ضاع منه كل شىء إلا سيارة نقل الصحف - سيارة «التوزيع» كما نسميها فى مهنة الصحافة - التى كانت تعمل لصالح مؤسسة «أخبار اليوم»، وهى نفس المؤسسة التى كان جمال الغيطانى صحفياً ومراسلاً حربياً لها خلال حرب ١٩٧٣ المجيدة، دخلت السيارة السويس قبل أن يفرض عليها الإسرائيليون حصارهم فى أواخر الحرب ولم تخرج.. فتنطلق بعثة أخبار اليوم - والتى تكونت من اثنين من الإداريين إلى السويس لتفتش عن السيارة فى السويس.. لكنها تعثر عليها حطاماً، كما أن الغريب نفسه اختفى.. تجسد فى كل صور المقاتلين الشرفاء الفدائيين الذين دافعوا عن السويس فى حصارها.. جعله جمال الغيطانى رمزاً للإنسان المصرى الذى انتفض واستعاد ذاته فى حرب ١٩٧٣ المجيدة، كل فرد من أهالى السويس يعرفه باسم مختلف وقصة مغايرة.. حل الغريب فى أرواح كل الشهداء، أو لنقل إن أرواح كل شهداء السويس حلت فيه!

ولكن الأدب برغم هذه الأعمال المهمة التى قدمها عن حرب العبور المجيدة، لم يقدم «كماً» كافياً من الأعمال، شغلته الحوادث التى تلت حرب أكتوبر عن حرب أكتوبر.. انشغل بالانقلاب الاجتماعى فى «الانفتاح» والانقلاب السياسى الذى أوجده انتشار الإسلام السياسى والإرهاب فى السبعينيات، ثم انكفأ على ذاته فى عصر «مبارك» وترك مهمة الكتابة عن حرب ١٩٧٣ للمؤرخين..! مع أن الأدب لا يصنع التاريخ والتاريخ لا يصنع الأدب، ولكل منهما دوره المختلف تماماً عن دور الآخر..!

عن نفسى.. أعلم أن الراحل الكبير «أسامة أنور عكاشة» كان يخطط لمسلسل كبير عنوانه - المؤقت - «الناس فى حرب أكتوبر»، ونشرت هذا فى حينه - ٢٠٠٩ - غير أنه توفى فى العام التالى مباشرة دون أن يكتبه، ولا أعلم إن كان عمنا الكبير الراحل قد ترك مخطوطاً أو معالجة مبدئية له أم لم يترك، لكن ما أريد قوله هنا أن عكاشة كان فى البداية يريد كتابة هذا المسلسل فى صورة رواية، وتردد، ثم عاد ليتوافر على كتابتها، ثم ألغى المشروع وحول الفكرة إلى مسلسل، وعكاشة - إن لم تكن تعلم - كان فى الأصل قاصاً وروائياً قبل أن يكون سيناريست عظيماً.. وهكذا لم تظهر «الناس فى حرب أكتوبر» لا كرواية ولا كمسلسل، وكان عكاشة - حسب ما أخبرنى - ينوى تقديم سلسلة قصص إنسانية عن تضحيات الإنسان المصرى المقاتل فى هذه الحرب عبر هذا العمل..! ولكن قضى الأمر!