الإثنين 29 ابريل 2024

تلك آثارنا (20).. جامع الصالح طلائع

مقالات19-8-2023 | 18:05

لم يكد العصر الفاطمي يلفظ أنفاسه، وتتساقط أوراقه، وقبل نهايته بإحدى عشرة سنة، ودَّع الفاطميون مصر بأن منحوها جوهرة أخيرة من جواهرهم المعمارية فيها، وهو مسجد الصالح طلائع، لينضم إلى أمثاله من جواهر المساجد الإسلامية الفاطمية، بداية من جامع الأزهر الشريف وانتهاء بهذا الجامع الفريد، لتشكِّل جميعاً عقداً فريداً يُحلي جيد القاهرة عاصمة الخلافة الفاطمية، وليبقى تراثاً معمارياً وفنياً لمصر يضاف إلى تراثها الزاخر عبر عصورها التاريخية الطويلة.

هذه الجامع الفريد، آخر المساجد الفاطمية التي بنيت في مصر، وأول المساجد المعلقة فيها، يأخذ مكانه في مهابة ووقار في ميدان بوابة المتولي في حي الدرب الأحمر مواجهاً لباب زويلة، أحد أبواب السور الجنوبي لمدينة القاهرة الفاطمية، الذي كان شاهداً على أحداث تاريخية كثيرة وتاريخ طويل. 

بني هذا الجامع خارج سور القاهرة، لكنه ليس بعيداً عنها ولا عنه، يصفه البعض بالجامع المعلَّق، وهو في الحقيقة وصف غير دقيق، وانما جاءوا بهذا الوصف له كونه كان مبنياً فوق حوانيت تتخذ للتجارة أسفله ارتفاع جدرانها أربعة أمتار، ومن المعروف أنه من الجائز إقامة المساجد فوق الأبنية، بينما لا يجوز إقامة الأبنية فوقها. وربما استفاد مخطط الجامع من موقعه المميز على الطريق الرئيس بين عواصم مصر القديمة (الفسطاط، والعسكر، والقطائع) وبين القاهرة العاصمة الجديدة، فكانت هذه الحوانيت هي مصدر الانفاق عليه، حيث استخدم ريعها لصيانته وتجديده، فكانت تدر عليه ما يضمن له البقاء ويكفل له الرعاية.

ينسب الجامع إلى الصالح طلائع بن رزيك، الذي أمر بإنشائه سنة  555 هـ (1160م)، وكان وزيراً للخليفة الفاطمي الفائز الفائز بنصر الله الفاطمي، ثم للخليفة العاضد من بعده، هذا ما يقوله النص التأسيسي للجامع في واجهة الجامع الشمالية.

وكما تقول بعض الروايات، فإنه قد بني، ليدفن فيه رأس الإمام الحسين- رضي الله عنه- بديلاً عن وجوده في مشهد عسقلان في الشام خوفاً من هجمات الفرنج، ولكن الخليفة الفاطمي الفائز بدين الله (1154-1160م) قد أشار عليه خواصه بأن رأس الأمام الشهيد جد الفاطميين يجب أن تكون داخل القصور الزاهرة، فأعّد لها الفائز مشهداً خاصاً داخل باب الديلم أحد أبواب القصر الفاطمي، وهو المشهد القائم حالياً. وتخطيط المسجد، وارتفاع أرضه، ثم موقعه خارج أسوار القاهرة وامكانية تعرضه لهجمات الأعداء لا يتفق مع ما ذهب إليه البعض من أنه بني في الاساس ليكون مدفناً لرفات الحسين رضي الله عنه.

وقد تم بناء المسجد سنة  555 هـ (1160م)، لكنه لم يصبح مسجداً جامعاً إلا بعد ذلك بمائة عام، إذ أقيمت أول صلاة للجمعة فيه أيام السلطان عز الدين ايبك التركماني (1250-1257م)، أول سلاطين المماليك، في سنة "بضع وخمسين وستمائه" (1252م). وهو جامع ويتمتع بعناصر تخطيطية ومعمارية وزخرفية تعبر أصدق تعبير عن نهاية مرحلة مهمة من تاريخ العمارة والفنون لتأتي بعدها مرحلة أخرى جديدة من تطور العمارة والفنون.

يأخذ المسجد شكل المستطيل المنتظم الأضلاع تقريباً، يتوسطه صحن مكشوف على شكل مستطيل غير المنتظم الأضلاع، تحيط به من الجهات الأربع أروقة مسقوفة أكبرها رواق القبلة، الذي يوجد في جداره  محراب مجوف بديع، بعرض متران وبعمق متر ونصف المتر، يتصدره عمودان واحد على كل جانب، ويتوسط الصحن صهريج كان يملأ بالماء وقت الفيضان بواسطة ساقية متصلة بالمسجد ومقامة على الخليج قرب باب الخرق "الخلق".

أما مداخل المسجد فثلاثة مداخل، أحدها في مؤخرته في الجهة البحرية حيث واجهته الحجرية الشبيهة بواجهة جامع الأقمر، والثاني في الواجهة الشرقية، والثالث في الواجهة الغربية.

يتقدم مدخله في الجهة البحرية سقيفة، لا يوجد لها مثيل في مساجد العالم الإسلامي سوى في مسجد في سوسة في تونس، تمتد على طول الواجهة بين جزئين بارزين في طرفي الواجهة، يرجح أن أحدهما كان غرفة للخدم بينما كان الآخر مورد ماء يستقي منه المارة.

وتعلو أرضية المسجد المقامة فوق الحوانيت متراً عن مستوى الشارع، وترتفع جدران المسجد حوالي 15 متراً فوق هذه الأرضية، وكان يعلو الجدران سلسلة من الشرفات تتكون من طابقين، طابق مسطح ارتفاعه متراً  يعلوه طابق هرمي ارتفاعه متراً تقريباً تزدان من الداخل  بالجص المعشق بالزجاج الملون،  ومن الخارج بالزخارف الجصية النباتية والهندسية.

وأما مئذنة المسجد، كانت مثل مئذنة الجامع الأقمر فوق المدخل الرئيس، لكنها هُدمت في وقت غير معلوم ربما مع زلال سنة 702هـ، وبنى مكانها مئذنة حديثة أزيلت سنة 1926 لحدوث خلل في مبانيها، والجامع حالياً بدون مئذنة.

وكان للجامع بابًا كبيرًا من الخشب يعتبر الأول من نوعه فى القاهرة ، يغطي وجه الباب تغليف نحاسي على شكل زخارف هندسية إسلامية، بينما تغطي ظهره زخارف نباتية محفورة فاطمية الطراز، وترجع إلى أعمال التجديد التى أجريت على الجامع فى العصر المملوكي، ويوجد الباب فى الوقت الحالى بمتحف الفن الإسلامى بالقاهرة، وتم وضع نسخة بديلة له عمرها ٨٣ عامًا.

ولقد تعرض الجامع للكثير من المحن، والكثير من التجديدات أيضاً، ففي سنة 702 هـ (1302م) أصاب مصر زلزال تسبب في تصدع الجامع، وتولى الأمير "سيف الدين بكتمر" تعميره وتجديده وذلك خلال السلطنة الثانية للناصر محمد بن قلاوون، وكان هذا الأمير قد وهب للمسجد منبراً بديعاً، قبل ذلك بثلاث سنوات، وما زال هذا المنبر يحمل نقشاً يسجل اسمه وتاريخه 699عـ (1300م).

وأعيد تجديد هذا المسجد مرة ثانية عام 844هـ (1440م) على يد أحد تجار القاهرة يدعى عبد الوهاب العيني ، كما جدده الأمير يشبك من مهدى داوادار الملك الأشرف قايتباي سنة 882هـ (1477م). وربما بلغ هذا الجامع ذورة شهرته في نهاية القرن التاسع عشر فكان من المساجد الجامعة الشهيرة، فكما تذكر الخطط التوفيقية الجديدة أن هذا الجامع: "لم تزل شعائره مقامة بالجمعة والجماعة، ومحرابه من أعظم المحاريب، وأعمدته من الرخام، وبه منبر عظيم، ودكة للتبليغ، وبوسط صحنه حنفية وصهريج وميضاة ونخلات". ولأانه لا يدوم الحال على حاله، فثم ما لبث أن أصاب الإهمال الجامع، فتوقفت الصلاة به، وساءت حالته، فاحتله الأهالي، وانتهكوا حرمته فأقاموا من حوله المباني والحوانيت، إلى حد أن تقرر هدمه، فيما عدا بيت الصلاة، ولكن جاءت العناية به مرة أخرى على يد لجنة حفظ الآثار العربية، لبعاد بناؤه في النصف الأول من القرن العشرين اعتماداً على ما تبقى من آثار عمارته القديمة، التي استدل منها على جميع عناصره المعمارية والزخرفية، وخلال عمليات إعادة البناء تم اكتشاف الحوانيت السفلية، التي ذكرناها من قبل، وكانت مسقوفة بقبوات أسطوانية مبنية من الحجارة وكانت تمتد تحت مؤخرة المسجد وجانبه الشرقي.

والجامع من الجوامع الفاطمية غزيرة الزخارف، والتي تتميز بالتنوع والدقة أيضاً، والتي تستلفت النظر  في مسطحاته الداخلية والخارجية، إلى جانب الكتابات القرآنية الكوفية المزهرة التى تدور حول عقود رواق القبلة ونوافذ الجامع. ولهذا يعد هذا الجامع الفريد من روائع العمارة الفاطمية بل ومن روائع العمارة الإسلامية في مصر عبر تاريخها الطويل.

Dr.Randa
Dr.Radwa