السبت 11 مايو 2024

حكايا أبينا آدم..!!

مقالات23-8-2023 | 11:29

أيمكنك.. ويمكنني أن نواصل المسير في دروب الحياة؛ حيث تتعثر أقدامنا في صخورها، وتنزف من أشواكها القاسية، وتصطدم عيوننا بوجوه هؤلاء المثبِّطين من بني جلدتنا.

 أيمكننا أن نواصل المسير مع ذلك كله ونحن عرايا من الأمل..؟!! إنها إذن لحياةٌ أشدُّ قبحاً على الأرواح من جِوار الشياطين..!! وكيف تستقيم حياة إنسانٍ وهي إذا خلتْ من الأمل والتفاؤل تصبح جحيماً وهو حبيس لظاها ؟!! وما هوّن أمرَ الهبوط من الجنة.. وما هوَّن شقاءَ الحياة على أبينا "آدم" عليه السلام إلا الأملُ في العودة مرةً أخرى إليها والاستمتاع بنعيمها المقيم، والخلود الذي لا يشوبه خوفٌ من الفناء، أو توجسٌ من الرسوب مرةً أخرى في ( لا تقربا هذه الشجرة ) !! إنني أتصوَّر أبانا"آدم"وقد تحلَّق حوله أبناؤه؛ وهو يحكي لهم عن مشاهداته في ملكوت الله عز وجل، وعن ذكرياته في الجنة، ويقصّ عليهم ما حدث حينما انخدع بوسوسة  الشيطان وخالف النهي الإلهي رغم مافي الأمر الإلهي من سعة ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) إذ لم يكن التقييد مقارباً للمسموح به ولا مساوياً ..!!! بل كانت شجرة ... ولعل الأبناء وسط  هذي الحكايا كانت تُطلُّ من عيونهم نظرةُ عتابٍ وسؤالٌ تكاد أفواههم تنطقه ولعل بعضهم نطقه ..لِمَ يا أبانا؟!! ليتك جنَّبْتَنا هذا العناء ..!! ولعل أبانا" آدم" ذكَّر أبناءه بمعنى الاستخلاف قلما يخلق الله تعالى أبا البشر (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ).                                                                                
لقد كان العربي في جاهليته يهوى الجمال؛ لذا راح يفتِّش عنه فيما حوله كي يملأ عليه روحه المكدودة  فلم يجد أجمل من المرأة رمزا للتعبير عما يشعر به فكيف بهذا العربي العاشق  يذكر حبيبته فتنتشي روحه!!، وكيف به بعد يأسه العميق الذي رمز له بالطلل تنفتح أمام ناظريه بوارق الأمل، فاتخذ المرأة رمزا للأمل، وليست أية امرأةٍ إنها المرأة الجميلة وقد جمعت صفات الحسن؛ قال امرؤ القيس: (تضئُ الظَّلامَ بالعشاءِ كأنَّها* * منارةُ مُمسى راهبٍ متبتِّـلِ) لقد منح الشاعرُ حسنها من الضياء المقدس ما منح، وإن العاشق الذي يقاسي ما يقاسيه في حبه حزنا، وعلى الرغم مما هو فيه ليس بيائس..!! إنه يحتمل ألم البعد أملاً في اللقاء، ويتجلَّد حين الهجر مترجيَّا الوصل، وبين هذا وذاك يتوسَّل بشتى الوسائل التي تدنيه من أمله، وتيسر له الطريق إلى ما يَنشُد ولو كان ما يُعينه على ذلك طيفُ خيال المحبوبة؛ فيبث الأمل في جنبات روحه، ويمنحه التوازن النفسي يقول عنترة : (أيا عبلُ مُنِّي بطيفِ الخيالِ ** على المستهامِ وطيبِ الرُّقـادِ) لقد وقف فارس العرب بباب عبلة يسألها أن تمنَّ عليه بزيارة طيف خيالها الذي يوفر له رقاداً طيباً ، ولم يكن الشاعر العباسي "الطغرائي"مجافياً الحقيقةَ حينما قال : (أعلِّل النفس بالآمال أرقبها * *ما أضيق العيشَ لولا فسحة الأمل) .                                                                                             

ورغم المطلع اليائس لقصيدة (الدولة الباقية) للشاعر الكبير "أحمد مطر ؛ إذ تبدأ بنفي الحال (ليسَ عندي وَطَـنٌ..أو صاحِـبٌ ..أو عَمَـلُ!! ليسَ عِندي مَلجأٌ ... أو مَخْبَـأ ...أو مَنزلُ ..!!) إنسان بمثل ما يعانيه ماذا سيرى ..؟!! إن التشاؤم سيفرض مبالغته على عين الشاعر ومفرداته (كُلُّ ما حَوْلي عَراءٌ قاحِلُ/أنَا حتّى مِن ظِلالي أعْزَلُ) ليس هناك أشدُّ بؤساً منه إلا أن ختام القصيدة يجعلنا نقف مشدوهين ...إذْ كيف تخلَّص "أحمد مطر" من قاموسه الساخر من كل الأنظمة العربية ؛ ليتدفق على فمه المرِّ هذا المنولوج النفسي مفعما بالبوح الشفيف دونما ألفاظ زاعقة ( ما الذي ينقُصُني مادامَ عِندي الأمَلُ ..!!/ما الذي يُحزنُني لو عَبسَ الحاضِرُ لي وابتسَمَ المُستَقبَلُ ..!) ماهذا الجمال والنظرة المتفائلة التي تمحو كل سوادٍ بهذا الاستفهام المؤدي إلى النفي لنقول معه بلسان الحال لاشيء ينقصنا ... لاشيء يحزننا !!، وكيف نتجاهل هذه الهمة العالية والثقة بالنفس التي تعطِّل المنافي بحضورها، وتربط استقرار الأوطان بحلوله (أيُّ مَنفى بِحضوري ليسَ يُنفى ..!!/أيُّ أوطانٍ إذا أرحَلُ لا ترتَحِلُ ..!!) ؛ وهذه الصرخة التي يواجه بها من ألجأوه إلى الغربة القاسية (أنَا وحدي دَوْلَةٌ مادامَ عِندي الأمَلُ..!!).                                 

ونصل سريعا إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي وقصيدة (أرض عذراء) والشاعر "خايليهل بونجيسوا جامدزي" من دولة "سوازيلاند"، وأجمل مافي النص هذا الحس الجمالي والرغبة في الاستمتاع وإمتاع الآخرين، وبكل هذى العوائق الطبيعية من تضاريس ونباتات وهوام ؛ إلا أن الشاعر يبصر الغد بعينٍ مفعمةٍ بالتفاؤل راغبةٍ في العطاء بكل الصور ، إنه يستطيع استبدال القبح بالمنتزهات أو الكروم أو التفاح ... فإلى قصيدة (أرض عذراء) وشاعرنا "جامدزي":
أرض عذراء تنتشر فيها الأشواك ... و العطاءات ...والأحناش
و لكن يوما ما...سوف أنشئ حديقة أزهار في منتصفها .
أرض عذراء ...تنتشر فيها الأخاديد ... و التربات المنجرفة ... و الرمال المنهكة
و لكن في يوم من الأيام ... سوف أغرس زرجونة عند مدخلها ,
إنها أرض عذراء لا أحد يرغب بها ..إنها مليئة بالصخور ... و قاحلة
 و لكن يوما ما ,... سأنشئ فيها متنزها .. أو جنينة أزهار ...أو بستان كروم ...أو بستان تفاح.

Dr.Radwa
Egypt Air