الأحد 19 مايو 2024

شادي عبد الوهاب: الدراسات العربية المعنية بالاستخبارات لم تصل لمستوى نظيرتها الأجنبية

شادي عبد الوهاب

ثقافة24-8-2023 | 20:02

محمد الحمامصي

شهدت السنوات القليلة الأولى من القرن الحادي والعشرين تحولًا في دور الاستخبارات في العلاقات الدولية، إذ أصبحت قضايا الاستخبارات والأمن أكثر بروزًا من أي وقت مضى، في الخطاب السياسي الغربي، بل أن الرأي العام بدا أكثر اهتمامًا بدور الاستخبارات في درء التهديدات الأمنية، خاصة المتعلقة بالإرهاب. وعلى الرغم من هذا الاهتمام بدور الاستخبارات على المستوى العملي، فإنه لم يشهد اهتمامًا من جانب منظري العلاقات الدولية، فقد كان هذا الدور غائبًا عن كتابات أغلب منظري العلاقات الدولية، فهي لم تكون محور أي نقاش بين المدارس الرئيسية في حقل العلاقات الدولية، وتحديدًا الواقعية والليبرالية والمؤسسية والبنائية.

 

ويقول د.شادي عبد الوهاب منصور  في كتابه "الدراسات الأمنية الدولية.. البعد الخفي في إدارة السياسة الخارجية" أن المدرستين الأمريكية والبريطانية كانت لكل منهما سماتهما الخاصة، إذ أن المدرسة الأمريكية تركز بصورة أساسية على المفاهيم، والكفاءة التنظيمية، في حين أن المدرسة البريطانية في دراسة الاستخبارات غلب عليها الطابع التاريخي. وعلى الرغم من أنه لا يمكن القول بأن هناك مدرسة كندية مستقلة في دراسة الاستخبارات، فإنها كانت تجمع بين المدرستين، إذ ركز بعضها على البعد المفاهيمي، في حين أن البعض الأخر ركز على الجوانب التاريخية. أما في الدول العربية، فإن الدراسات المعنية بالاستخبارات لم تصل لنفس مستوى التطور الذي بلغته نظيرته الغربية عمومًا، فلاتزال أغلب الدراسات العربية يغلب عليها الكتب المترجمة من اللغة الإنجليزية إلى العربية، بينما بدأت بعض الكتابات الأكاديمية المحدودة تظهر في المنطقة العربية، وإن اعتمدت بصورة أساسية على المصادر الأمريكية والبريطانية. وساعد عددًا من العوامل في استمرار هيمنة المدرستين الأمريكية والبريطانية على دراسات الاستخبارات، منها ما يتعلق بتشجيع حكومة الدولتين الدراسة الأكاديمية المتخصصة لهذا الحقل من خلال إنشاء المراكز البحثية المتخصصة، والتي عنيت بتطوير هذا الحقل، ومحاولة تطوير مناهج بحثية لرفع كفاءة التحليلات الاستخباراتية.

 

ويشير في كتابه الصادر عن دار العربي إلى أنه على الرغم من وجود افتراض ضمني بأن دراسة الاستخبارات تندرج ضمن المدرسة الواقعية، فإن أنصار المدرسة الواقعية الجديدة تجاهلوا دور الاستخبارات إلى حد كبير في نظرياتهم، على الرغم من وضوح دورها في العديد من الحالات، خاصة في أوقات الحروب الأهلية والصراعات المسلحة. ويلاحظ أن دراسة الاستخبارات من الحقول الأكاديمية متعددة التخصصات، فعلى الرغم من تقاطع عدد من التخصصات الأكاديمية معها مثل علم الاجتماع والقانون وعلم الأخلاق، فإنها ظلت مهيمنًا عليها من قبل الدراسات السياسية والتاريخية.

 

ويضيف منصور "توصف أجهزة الاستخبارات أحيانًا باعتبارها خيارًا ثالثًا ضمن خيارات الدولة لإدارة علاقاتها الخارجية، إلى جانب خياري الحرب والسلام، ولذلك يتم تعريفها عادة باعتبارها استخدام "العمل السري" كوسيلة للتأثير على مسار الأحداث الدولية بصورة خفية". ويلاحظ أنه حتى في الولايات المتحدة، لم يتم التحقيق في أنشطة أجهزة الاستخبارات الأمريكية، خاصة تلك المتعلقة بالعمل السري، إلا في عام 1975، وحتى بعد ذلك التاريخ، لم ينجح الكونجرس الأمريكي في وضع ضوابط صارمة لعملها. ويتراوح العمل السري بين الانقلابات العسكرية والاغتيالات وغيرها من العمليات، والتي تتم دون أن يتم رصدها".

 

الكتاب الذي يسعى إلى تقديم خلفية عن دراسة الاستخبارات من منظور الدراسات الأمنية الدولية، وذلك لتقديم فهم أعمق للعلاقات الدولية، وكيفية إدارتها في الواقع العملي من جانب الدول، يكتسب أهميته من حقيقة أن التطورات والاضطرابات التي شهدتها المنطقة العربية خلال ما يعرف باسم "الربيع العربي" في عام 2011، اقترنت بتصاعد تدخل الدول الإقليمية والدولية الفاعلة في الدول العربية، في محاولة لاستغلال الفرصة التي سنحت في أعقاب الاحتجاجات التي أطاحت ببعض قيادات الدول العربية، أو التي تسببت في انهيار بعض الدول في حروب أهلية داخلية، وذلك لإعادة تشكيل الإقليم، والتحكم في من سيتولى إدارة شؤون دوله، وهي الجهود التي تمت بصورة رئيسية من خلال الاعتماد على دور فاعل لأجهزة الاستخبارات في محاولة لإخفاء هذا التدخل وأجندته.

 

يوضح منصور أن تغير الوضع في القرن التاسع عشر عندما بدأت الجيوش في استخدام السكك الحديدية واتجهت لإنشاء هيئة أركان عامة للتخطيط المركزي، والتي تمثلت أحد مهامها في جمع المعلومات الاستخبارية وتنظيمها. وعلى الرغم من ذلك، فإن أجهزة الاستخبارات لم يكن لها تأثير كبير على الحرب والسياسة، حتى الحرب العالمية الأولى، فقد ساهم اعتراض الاتصالات العسكرية والتجسس خلال هذه الحرب قادة الجيوش على كسب المعارك، وهو الأمر الذي أدى إلى تعاظم الاعتماد على الاستخبارات من قبل الجيوش فيما بعد. ويلاحظ أن الدول تلجأ إلى توظيف الاستخبارات، ليس فقط في مواجهة الدول المعادية، ولكن كذلك في مواجهة الدول الصديقة، ففي حين أن التحالفات قادرة على تعزيز الثقة والتعاون المتبادلين، فإن هذا لا يعني أن الحليف سيكون دائمًا جديرًا بالثقة، خاصةً عندما يتعلق الأمر بقضايا تمس المصلحة القومية للدولة، ولذلك سيظل التجسس ضد الدول الصديقة هي أحد الوظائف الأساسية للدولة في إطار النظام الدولي، والذي يتسم بالفوضوية وانعدام الثقة بين الدول، وذلك وفقما ذهبت المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية.

 

ويقول "كشف إدوارد سنودن المتعاقد السابق في "وكالة الأمن القومي" الأمريكية أن الوكالة تجسست على الهواتف الشخصية لحوالي 35 قائد حول العالم، بما في ذلك هاتف المحمول للمستشارة الألمانية إنجيلا ميركيل منذ عام 2002، كما احتضنت السفارة الأمريكية في برلين محطة تجسس تديرها وكالة الأمن القومي ووكالة الاستخبارات المركزية وكانت تعرف باسم "خدمة جمع المعلومات الخاصة"، والتي تعترض اتصالات الحكومة الألمانية، سواء تلك التي تتم عبر هواتف الموبايل، أو الشبكات اللاسلكية، أو عبر الأقمار الصناعية. وفي المقابل، تنصتت المخابرات الألمانية على وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان، بل وتمت مراقبة رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية الخاصة بمواطنين ألمان. وتقوم إسرائيل بالتجسس على الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من العلاقات القوية التي تجمع بين الجانبين، كما أن تجسس الحكومة الأسترالية على الرئيس الإندونيسي سوسيلو بامبانج يودويونو (2004 – 2014) قابله اعتراف إندونيسيا بأنها تجسست على أستراليا، مما يوفر أمثلة إضافية على أن تجسس الدول بشكل متبادل على بعضها البعض يعد أحد حقائق النظام الدولي المعاصر، فهو يندرج ضمن مبدأ "ثق ولكن تأكد".

 

ويلاحظ أن الانتقادات التي توجهها الدول تجاه تجسس الدول الصديقة عليها يرجع إلى حقيقة حرص هذه الدول على تجنب انتقاد الرأي العام لها بأن أجهزتها الاستخباراتية أخفقت في جهودها لمكافحة التجسس الخارجي.

 

ويؤكد منصور إن الاستخبارات تلعب دورًا كبيرًا عند صناعة أي قرار سياسي من قبل أغلب حكومات العالم، حتى في أوقات السلم، وعند الدخول في مفاوضات من أجل إبرام اتفاق سلام، إذ تلعب أجهزة الاستخبارات دورًا في تقييم مدى جدية الخصوم في إبرام سلام، ومدى قبول الشعب المعادي بهذه الخطوة في حالة أقدمت عليها حكومته، ومراقبة سلوك الدول المعادية، وما إذا كان هناك تغيرًا في سلوكها، بما يفتح "نافذة فرص" لإجراء محادثات دبلوماسية تؤهل للتوصل إلى عقد اتفاق سلام.  وفي حالة بدء مفاوضات السلام، تلعب أجهزة الاستخبارات دورًا في محاولة التنبؤ بموقف الخصم في المفاوضات، وما إذا كان على استعداد لإبداء مرونة في بعض القضايا، وما هي التكتيكيات والاستراتيجيات التفاوضية التي سيلجأ للاعتماد عليها في كل مرحلة من مراحل التفاوض. وغالبًا ما تعمد أجهزة الاستخبارات في هذه الحالة إلى محاولة معرفة أعضاء الوفد التفاوضي، وخلفياتهم ومواقفهم، وكل ما له صلة بحياتهم أو سماتهم، والتي ستؤثر على موقفهم عند التفاوض.

 

ويرى أن أجهزة الاستخبارات تلجأ خلال العملية التفاوضية إلى رفع تقييمات استخباراتية، وذلك لتحديد رد فعل الطرف المفاوض تجاه ما تقدمه الدولة من مقترحات حول السلام، وكذلك دراسة وتقييم المقترحات التي يقدمها الطرف المعادي لتوقيع اتفاقية السلام، وما هي المخاطر التي قد تنطوي عليها بعض هذه المقترحات. وحتى في حالة التوصل إلى سلام، سوف يكون لزامًا على أجهزة الاستخبارات أن تقدم تحذيرًا مبكرًا حول وجود نوايا، أو محاولة، من جانب الطرف الأخر في اتفاق السلام للإخلال به أو انتهاكه.

 

يذكر أن الكتاب جاء في خمس فصول أساسية. الأول "دور الاستخبارات في صنع السياسة الخارجية"، يسعى إلى الإشارة إلى بدايات تطور الاستخبارات كحقل أكاديمي في الدراسات الأمنية الدولية، وأبرز الاتجاهات في تعريف الاستخبارات، وكذلك أهم القضايا التي يعني بالتركيز عليها. ومن جهة ثانية يلقي الضوء على دور أجهزة الاستخبارات في صياغة السياسية الخارجية للدولة. أما الثاني، فيتمثل في "التحليل الاستخباراتي ومصادر المعلومات المختلفة"، حيث يتناول كيفية إدارة الاستخبارات لوظائفها من خلال مفهوم "دورة الاستخبارات التحليلية"، والتي تمثل جوهر عمل أجهزة الاستخبارات، فضلًا عن توضيح أهم مصادر المعلومات الاستخباراتية، والتي تتمثل في استخبارات المصادر المفتوحة، والاستخبارات البشرية، واستخبارات الإشارة، واستخبارات الجغرافيا المكانية، والاستخبارات القياسية وتحديد البصمة، واستخبارات مواقع التواصل الاجتماعي. ويعالج الثالث "توظيف العمل السري في السياسة الخارجية" أحد أبرز الوظائف التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات، والتي تتمثل في "العمل السري"، والذي يعد أبرز الأدوات التي تلجأ إليها الدول عند التدخل في شؤون الدول الأخرى، وذلك مع إخفاء هذا التدخل. ويأخذ العمل السري أشكالًا متعددة حرص هذا الفصل على بيان أهمها، والتي تتمثل في الدعاية، وتغيير النظم السياسية، والعمليات الاقتصادية، والعمليات شبه العسكرية، والإمداد بالمعلومات الاستخباراتية.

 

أما الفصل الرابع "أبعاد تورط الدول في دعم التنظيمات الإرهابية"، فيلقي الضوء على أحد أشكال العمل السري، ممثلة في دعم التنظيمات الإرهابية، ويرجع التركيز على هذا الجانب إلى حقيقة أنه مثّل أحد الأدوات الأساسية التي ارتكنت إليها العديد من الدول الإقليمية لمساندة تدخلها في بلدان الصراعات في المنطقة العربية، وتحديدًا في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وغيرها من دول المنطقة. كما يتناول أهداف الدول من تقديم الدعم للتنظيمات الإرهابية، وكذلك أسباب تجاهل الدول الكبرى لجوء بعض الدول لتوظيف التنظيمات الإرهابية كأحد أدوات سياستها الخارجية. وأخيرًا، فإن الفصل الخامس "أسباب إخفاق التقييمات الاستخباراتية"، يوضح مفهوم الإخفاق الاستخباراتي، وأبرز العوامل المسببة للإخفاق الاستخباراتي، والتي تتمثل في خطأ التقييمات الاستخباراتية المرفوعة، والإخفاق المؤسسي، والتوتر في العلاقة بين أجهزة الاستخبارات والقادة السياسيين، بالإضافة إلى الإنكار والخداع، ويسعى هذا الفصل في النهاية إلى معالجة قضية هامة، وهي كيفية منع الإخفاق الاستخباراتي، وذلك من خلال عرض وجهتي النظر حول هذا الموضوع.

الاكثر قراءة