ليس من المستغرب أن تكون مصر هي المحطة الأولى لعبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني في أولى جولاته الخارجية منذ تمرد قوات الدعم السريع والتي ستشمل عدة دول منها السعودية والإمارات وهو ما يؤكد أن الرؤية المصرية لحل النزاع وإعادة الاستقرار لمنطقة القرن الأفريقي هي الأقرب للتبني والتطبيق، وتعد استكمال أيضا للجهود التي تجسدت في قمة دول الجوار التي عقدت في القاهرة، وما تبعها من اجتماع وزراء خارجية المجموعة في تشاد وهو ما يشير بلا أدني مواربة أنه لا حل مستدام للنزاع في السودان إلا بالاستماع الجيد والاتباع المنزه من الغرض لما تراه مصر سبيلا للخروج من الأزمة التي تتفاقم وتنذر بضياع دولة السودان.
ولعل جولة البرهان الخارجية خير ما يمكن به مقاومة ذلك الزخم الإعلامي الراغب في إظهار الوضع داخل السودان على أنه نزاع قائم على الندية في الوقت الذي أحجمت فيه كل وسائل الإعلام الغربية وبعض الإقليمية عن توصيف الوضع على حقيقته بأن ميليشيا تمردت وكسرت الشرعية القائمة ودخلت في عداء مسلح ضد مؤسسات دولة بهدف تغيير الوضع بالقوة وهو ذات التوجه الذي تملأ فيه وسائل الإعلام الدنيا ضجيجا برفضها تحرك النظام الجديد في النيجر ضد الرئيس المخلوع بازوم ما يعكس في مشهد جديد مدى الازدواجية والانفصام الذي تتعامل فيه وسائل الإعلام مع المشهدين حيث تصور الأول على أنه خصومة سياسية بين طرفين شرعيين بينا تصور الثاني على انقلاب يجب التصدي له وعدم الاعتراف بمخرجاته.
من ناحية أخرى فإن البحث عن خروج من أزمة السودان لن يكون القضية الوحيدة على أجندة البرهان الخارجية فيجب هنا أن نشير إلى قضية سد النهضة التي تنبئ تحركات عديدة بقرب حدوث انفراجة بها فالمتابع لتحركات دولة الإمارات الأخيرة يدرك أن شيئا ما يرتب خاصة بعد تشكل أجواء إيجابية بانضمام مصر والمحور العربي إلى تجمع بريكس وأن مدخلات جديدة تلوح في طريق تسوية الأزمة خاصة بعد أن اكتشف جميع الأطراف أن اللجوء إلى الغرب لم يسفر عن شئ في تلك القضية ولعل التوجه إلى الشرق قد يكون أكثر إفادة وأكثر إبعادا للجميع من تداعيات نزاع لايرغب في حدوثه أحد.
ولاشك فإن الإمارات قادرة على ممارسة دور مهم في النزاع حول سد النهضة فقد بلغ حجم التجارة غير النفطية بين الإمارات وأثيوبيا في 2022 ما يقرب من 1.4 مليار دولار واستثمرت دولة الإمارات 2.9 مليار دولار أمريكي في العديد من القطاعات الإثيوبية ولعل الرغبة الإثيوبية في استمرار العمل مع الإمارات في إطار المشاريع والمبادرات الاستراتيجية لتعزيز النمو والتنمية تدفعها نحو الاستماع جيدا لنصائح الإمارات في هذه القضية كما أن تطلع الإمارات إلى جعل منطقة القرن الأفريقي الأوسع مستقرة وآمنة لا يحتاج إلى دليل ولا يمكن أن نتجاهل أنه في عام 2018 ، لعبت الإمارات دورا حيويا في التوسط في اتفاق سلام تاريخي بين إثيوبيا وإريتريا بعد 18 عاما من الجمود الدبلوماسي كما أن الإمارات ما زالت متمسكة بوقف فوري لإطلاق النار في السودان ودعم استقرار البلاد وتغليب مصلحة شعبها فعلى العكس من تداول انحيازها لقوات الدعم السريع فقد أنشأت مستشفى ميدانيا في تشاد كما قدمت مساعدات إنسانية تقدر بـ 50 مليون دولار للسودان منذ بدء النزاع.
ومن ناحية فلا يمكن لمصر أن تفرط في أمنها المائي كما لا يتصور أيضا أن تتخلى الإمارات عن استثماراتها بأثيوبيا في مجالات الأمن الغذائي والمائي وأمن الطاقة وإنتاج القمح بالقرب من حوض نهر أومو أو التفاهمات بين موانئ دبي العالمية ووزارة النقل الإثيوبية لتطوير مستودعات لتخزين وتوزيع الوقود في مواقع مختلفة كما لا يمكن تصور أن تثمر كل تلك الاستثمارات مع انهيار للأوضاع في السودان.
إذن تقود مصر جهدا متكاملا في التعامل مع المشهد في القرن الأفريقي الملتهب عبر منهج يقوم على الشراكات بدلا من الأحادية، والحوار بدلا من المواجهة وترسيخ الحث على احترام مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول خاصة وأن الجميع بات عليه التحرك في اتجاه واحد عقب الانضمام إلى بريكس اللبنة الجديدة في تشكيل نظام عالمي أكثر عدلا وإنصافا ولعل من الجدير هنا أن نلتفت إلى تصريح وزير الخارجية الإماراتي الشيخ شخبوط بأهمية الحوار البناء بين مصر والسودان وإثيوبيا للتغلب على خلافاتهم بشأن سد النهضة وفقا للقوانين والأعراف الدولية، من أجل تأمين حقوق الدول الثلاث في أمنها المائي والتوصل إلى حل يقبله الجميع.
إن الآمال باتت معقودة على تحييد التدخل الغربي المفسد في أزمة السودان وقضية سد النهضة وباتت كل الأطراف على استعداد لسماع بعضها البعض بمنطق جديد يقوم على إنهاء الخلافات وتعزيز التكامل الإقليمي والتنمية المستدامة ولعل ثمار هذه الجولة تثمر قريبا عن كل ذلك.