الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

وَطَنِي..في حقيبةِ سَفَرِيِ!

  • 30-8-2023 | 12:12
طباعة

  لم نجد أمةً أكثرَ حنيناً إلى وطنها من أمة العرب لدرجة أن "الجاحظ" الأديب العربيَّ ذائعَ الصيتِ يقول (كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملاً...!!) وماجدوى حفنةِ رملٍ يحملها العربي في ترحاله ؟!! لعلك تهمس بها في نفسك وقد علا ملامحَ وجهِكَ الاستغرابُ ..!! إنها تحمل رائحةً لا يشمُّها غيرُ أنفه ..!! ويرى فيها بعينه بعض آثار خطى طفولته ..!! وربما لو أطال الإنصات لسمع كل عناصر بيئته ؛ من غناء الطير وحفيف الشجر وأصوات قطرات المطر وتصايح الرفاق وقت اللعب ..و ... و .. ونداء أمه تستعيده لتناول العَشاء ...كل ذلك في حفنة رملٍ !! ولا نعجب أيضا من قول "أبي الحسن علي بن عبد الغني الحصري القيرواني" الذي اشتُهِر بقصيدة (يـا لـيـلُ : الـصَّـبُّ مـتـى غَدُهُ / أقِــيـامُ الـسَّـاعَـةِ مَـوْعِـدُهُ) إذْ يقول :"إن ما يدل على حرية الرجل وكرم غريزته حنينه إلى أوطانه "ويضيف "بلدٌ لا تؤثر عليه بلدا، ولا تصبر عنه أبداً، هو عشه الذي فيه دَرَج، ومنه خرج، مجمع أسرته، ومقطع سُرَّته، بلد أنشأته تربته، وغذاه هواؤه، ورباه نسيمُه"
وكان الشعر من أكثر وسائل تأجيج الذكريات لكل مرتحل ؛ فيقول جرير: (أَلا حَيِّ المَنازِلَ بِالجِنابِ / فَقَد ذَكَّرنَ عَهدَكَ بِالشَبابِ) فقد حدد المكان وزمن ارتباطه  ، وتعجَّب من دوام الصلة والتذكر (أَما تَنفَكُّ تَذكُرُ أَهلَ دارٍ / كَأَنَّ رُسومَها وَرَقُ الكِتابِ) فآثارها متصلةٌ في عينه وفي خاطره ، ويقول أيضا :(حَيِّ المَنَازِلَ إذْ لا نَبْتَغي بَدَلاً/‏‏ بِالدارِ داراً، وَلا الجِيرَانِ جِيرَانَا)،وللرائع "العباس بن الأحنف" قصيدةٌ مؤلفةٌ من أربعة أبيات ؛ يرصد فيها أثر الاغتراب على روحه فيجرِّد من ذاته شخصاً يخاطبه (يا غَريبَ الدارِ عَن وَطَنِه / مُفرَداً يَبكي عَلى شَجَنِه ) أو لعله جاور غريباً مثلَه قد آلمه البعد مثله ؛ فظهر أثر ذلك على جسده من هزالٍ وضعفٍ  (شَفَّهُ ما شَفَّني فَبَكى / كُلُّنا يَبكي عَلى سَكَنِه ) ومما يثير بكاءَ الشاعر ورفيقه هذا الطائرُ الباكي أليفه ( وَلَقَد زادَ الفُؤادَ شَجاً / طائِرٌ يَبكي عَلى فَنَنِه ).. وليته بكاءٌ يريح أو يخفف الأحزان ( كُلَّما جَدَّ البُكاءُ بِهِ / دَبَّتِ الأَسقامُ في بَدَنِه )، ورغم ترحال أبي الطيب المتنبي خلف أحلامه التي جعلتْه يجوب الأقاليم لتحقيقها ، وقد يظن المتتبِّع سيرتَه أنه اتخذ من أحلامه وطناً ، وأنه قادرٌ على تجاهل مشاعر الارتباط به فيأتي بيته الشهير ( بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ / وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ ) يدحض كل هذه التصورات .
وهناك قصيدةٌ مبكيةٌ للشاعر العباسي "ابن زريق البغدادي" إذ يراها الباحثون أكثر القصائد ارتباطا بالموت غربةً ، فقد ارتحل "ابن زريق" عن "بغداد" موطنه الأصلي قاصداً بلاد الأندلس ، لعله يجد فيها ما يعوِّضه عن فقره، تاركاً في بغداد زوجةً يحبها ويغترب ، لكن التوفيق لايصاحبه ، ويشتد به المرض حيث  تكون نهايته ووفاته، واشتهرت قصيدته الخالدة باسم (فراقية ابن زريق البغدادي ) حيث عُثِرَ عليها عند رأسه يصوِّر فيها تجربته في منفاه الاختياري حيث الرحيل من أجل الرزق وعدم إصغائه لنصيحتها بعدم الرحيل ، يتوجه إلى زوجته راجيا : ( لا تعذليه فإن العذل يولعه / قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه ) ، إن الشاعر قد سُدَّت عليه المنافذُ ، فلا يدري أين يتجه ، واللوم القاسي لا يحتمله قلبه (فاستعملي الرفقَ في تأنيبه بدلاً / من عذْله فهو مُضْنَى القلبِ موجعه ) وتأمل أيها القارئ الكريم هذا البيت الرائع في وصْف جزعه ومحاولته إظهار التجلُّد ( لا أكذبُ اللهَ ..ثوبُ الصبر منخرقٌ / عنِّي بفُرْقته لكن أرقِّعه )..!! 
ونصل سريعا إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي وقصيدة ( بطاقة بريدية ) للشاعر "فريديريك باسيري تيتينغا" من دولة "بوركينا فاسو" ولعل لشاعرنا ذكريات موطنه المتدفق بالمياه العذبة وشمسه الدافئة ، يحملها في غربته في "نابولي"بإيطاليا ولا يستطيع نسيانها ، وهو يود أن تحمل البطاقة البريدية رائحة الأماكن التي لا تفارقه ، لعل البطاقة البريدية تعينه وسط ظلمات بركان "فيزوف"؛ ليشيع الدفءُ في جسده المحاط بأكواخ الثلج ، ويلحُّ الشاعر في طلب دوام التواصل والمراسلة ؛ فذلك شريان الحياة الواصل من قلب الوطن إلى جسد الشاعر ...فإلى بطاقة الشاعر "فريديريك باسيري" البريدية:    
بعثتَ لي بطاقة بريدية ... من المياه العذبة والأضواء الدافئة !
هنا الشّمس تترك مكانها للقمر ... والقمر يتركه للغيوم ... والغيوم تتركه للّيل،
ابعث لي بطاقة بريدية !
ستبعث لي ضوءاً من تلك الليالي من أعماق فوهات بركان "فيزوف"
ستبعث لي هذا الماس من الظّلمات، من برودة أكواخ الثّلج !
هنا الشّمس تترك مكانها للقمر... والقمر يتركه للغيوم ... والغيوم تتركه للّيل،
ابعث لي بطاقة بريدية !

الاكثر قراءة