الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

لكل عصر لصوصه وكلابه

  • 15-9-2023 | 16:54
طباعة

حين كنت صبيًا كان والدي، رحمه الله، يحرص يوميًا خلال شهريّ مارس وأبريل من عام 1960 على متابعة أخبار «السفاح» محمود أمين سليمان في صحف الصباح؛ ذلك اللص الغامض الذي كانت تتحدث الصحف عن نجاحاته  المتكررة في الإفلات من كمائن البوليس، وبراعته في التنكر والمراوغة، مما كاد أن يصيب قيادات الشرطة بالجنون، وأوشك أيضًا أن يصيرَ بطلاً في نظر العامة، مثله مثل أدهم الشرقاوي. لقد ظل الحالُ على هذا النحو فترةً ليست بالقصيرة، حتى استيقظ المصريون يومًا على نبأ محاصرة قوات الأمن للسفاح في مكان مهجور، في إحدى مغارات حلوان. هكذا أُسْدِلَ الستار على تلك الحكاية التي  حدثت حقيقةً في الواقع.

التقط المبدعُ نجيب محفوظ الخيطَ من الحادثة الحقيقية، ونسج روايته الرائعة «اللص والكلاب» التي صدرت طبعتها الأولى عام 1961 عن دار مصر للطباعة في 143 صفحة من القطْع المتوسط.، لم تكن رواية «اللص والكلاب» رصدًا حرفيًا لما حدث في الواقع، بل هى رؤية الفنان للواقع، إن رؤية الفنان هى نتاج حياته وثقافته ومزاجه، ونوع حساسيته لما يقع حوله من أحداث.

«سعيد مهران» هو بطلُ روايةِ نجيب محفوظ «اللص والكلاب». إنه زوج غدرتْ به زوجته «نبوية»، وخانته مع ربيب نعمته «عليش». واتفق الاثنان نبوية وعليش على الوشاية به، فقضى أربع سنوات بالسجن، تزوجت نبوية «تلك المرأة النابتة في طينة نتنة اسمها الخيانة» (نجيب محفوظ، اللص والكلاب، ص 8.) من عليش الذي كان تابعًا لسعيد مهران؛ ومع ذلك غدر بولي نعمته، واشترك مع «نبوية» في خيانته. إن الخيانة كما يقول نجيب محفوظ في صفحة 37 من روايته «هى أسمج رذيلة فوق الأرض».

كان سعيد مهران متشوقًا لرؤية ابنته «سناء» التي كانت في الثانية من عمرها عندما دخل السجن. إن صورتها لم تغبْ عن باله طوال السنوات الأربع التي قضاها في السجن، كان يتحسب للحظة لقائه بها، ولكن صدمه نفور ابنته منه عند اللقاء، وآلمه ذلك بشدة.    

لعبت المصادفة السيئة في «اللص والكلاب» دورها في مأساة بطل الرواية «سعيد مهران». إنه يحاول أن يقتل أعداءه، فيوفق في القتل ولكن الأعداء يفلتون منه ويصاب الأبرياء بالسوء. وهكذا يقع البطل في سوءِ حظٍ مريرٍ لا مهربَ منه، حتى تحلَ به الكارثة الأخيرة دون أن يشفي روحه ودون أن يخدش الذين صنعوا مأساته من البداية. بل تحل به الكارثة وهو يحمل إحساسًا عميقًا بالذنب؛ لأنه قتل عددًا من الأبرياء، ولعل دور المصادفة هنا هو تأكيد أن التمرد الفردي الذي يمثله «سعيد مهران» لا فائدة منه، وأن أهداف «سعيد مهران» لا تتحقق إلا بالثورة العامة الشاملة. (رجاء النقاش، في حب نجيب محفوظ، ص 79).

يضعنا المؤلف وجهًا لوجه مع الموقف الأساسي الذي تدور حوله الرواية كلها. لقد أُفرجَ عن «سعيد مهران» مع المسجونين المفرَج عنهم في عيد الثورة. خرج من السجن وليس في رأسه سوى فكرةٍ واحدةٍ لم يتخلَ عنها طوال الرواية، وهى الانتقام من زوجته الخائنة وتابعه السابق عليش الذي تزوجها واستولى على أمواله، لقد خرج وحيدًا في الحياة ولا هدف له سوى الانتقام من هذين الخائنين، ثم الأمل في أن يعيش هانئًا بابنته (سناء) بعد أن تصبح الخيانة «ذكرى كريهة بائدة». (فؤاد دواره، نجيب محفوظ من القومية إلى العالمية، ص 55).

إن رواية «اللص والكلاب» كعمل فني إنما تبدأ بلحظة أشبه ما تكون بلحظة الميلاد، وهى لحظة خروج الشخصية من السجن «الذي يرمز غالبًا إلى الرحم» وينتهي بلحظة الموت، ويضم ما بين البداية والنهاية رحلة الشخصية وهى تتعرف على الحقائق الأساسية في الحياة على الصعيدين الاجتماعي والميتافيزيقي، ورحلة الشخصية وهى تصارع لإيجاد معنى للحياة من خلال الخلل الذي يتحكم في الكون على الصعيدين الاجتماعي والميتافيزيقي. (د. لطيفة الزيات، الشكل الروائي من «اللص والكلاب» إلى «ميرامار»، نجيب محفوظ إبداع نصف قرن، ص ص 181 – 182).

كانت لـ «اللص والكلاب» روافد جانبية، كما سلكت هذه الرواية تعريجات متنوعة، هى على التوالي رجل الدين «الشيخ علي الجنيدي»، ورجل الصحافة «رؤوف علوان»، وامرأة الليل أو المومس الفاضلة «نور»، أولئك الذين يلعبون أدوارًا رئيسية على مسرح الأحداث. لقد التمس «سعيد مهران» حلاً لأزمته عند رجل الدين – صديق والده – فلم يظفر إلا بمجموعة من التهويمات الصوفية والعبارات المبهمة. والتمس نفس الحل عند رجل الصحافة – رفيق صباه – فلم يظفر بغير النفور والإعراض وتأليب رجال الأمن عليه. وعندما خذله الشرفاء الكَذَبَة المتاجرون بالقيم والمبادئ أنصفته «نور» الداعرة؛ عندما اتخذ من بيتها وقلبها مأوى له. ومع ذلك فبقدر ما تذوق في رحابها طعم الوفاء، تذوق أيضًا مرارة الأزمة: خانته الزوجة ووفت له البغي !! أي مفارقة يَعُدّها له القدر؟! وعندما اهتز قلبهُ لأول مرةٍ بعاطفةٍ حقيقيةٍ نحو إنسانة؛ وكانت هذه الإنسانة هى «نور»، أدرك أن وجوده قد وصل – في مرحلة صعود لا تتوقف – إلى قمة العبث. إن الكلاب تطارده، وتتربص به، وتسد عليه المسالك.  لا فائدة إذن من أن يبوح لها بحبه وعرفانه للجميل، إن حياته كلها قد غدتْ وهى تحمل معنى اللاجدوى؛ وكل الطرق أمام أحلامه قد أصبحت مغلقة. (أنور المعداوي، «اللص والكلاب»، الرجل والقمة، بحوث ودراسات، ص ص 108 – 109).

إن رواية «اللص والكلاب» ذات مضمون واقعي؛ لم تخلُ من مذاقٍ «وجودي» في بعض الأحيان. إن «سعيد مهران» بكل ميوله النفسية الناقمة لم يكن إلا نمطًا إنسانيًا صنعته ظروف ضاغطة، ظروف اجتماعية حددت خطَ سيره في طريق الحياة؛ إذ نشأ محرومًا من كلِّ الفرص التي تهييء للفرد كرامة الشعور بأنه إنسان، ثم عرف خيانةَ الزوجة وتنكرَ الابنة وغدرَ الصديق وضياعَ كل وسائل الانقاذ. في الأغلب الأعم، إنه لو قُدِرَ لكل واحدٍ منا أن تعرض للظروف نفسها التي تعرض لها سعيد مهران، فسوف يتحول قطعًا إما إلى مجرم محترف كالنمط «الواقعي» نفسه الذي يمثله سعيد مهران، أو يقع فريسة لأمراض نفسية وعضوية تنهش فيه نهشًا.  

تتجلى عبقرية نجيب محفوظ في أنه حين سَطَـرَ روايته هذه عام 1961، كأنما كان يؤرخ للصراع الدائر في يومنا هذا بين اللص والكلاب، إذ تكشف الرواية بجلاء عظيم عن أن لكل عصر لصوصه وكلابه، وأن الصراع بينهما لن ينتهي يومًا إلا إذا سادت العدالة ورحل الظلم.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة