الأربعاء 8 مايو 2024

هدى عبد الناصر: أبي إنسان من نوع خاص.. وكان يهتم بمجلتي «الهلال» و«المصور»

جمال عبدالناصر

كنوزنا1-10-2023 | 10:46

بيمن خليل

في مثل هذا اليوم، شُيِّع جنازة الرئيس جمال عبد الناصر، بعد يومين من وفاته في 28 سبتمبر 1970م، كانت الجنازة مهيبة، حيث تجمع أكثر من خمسة ملايين شخص للبكاء على رحيل زعيم مصر.

 

وفي هذه الذكرى، نستحضر شخصيته العظيمة والتأثير الذي كان له على تاريخ مصر والشرق الأوسط بشكل عام، لقد كان عبد الناصر ليس فقط زعيمًا سياسيًا وثائرًا، بل كان أيضًا رجلاً عائليًا مخلصًا، على الرغم من مسؤولياته الكبيرة والضغوط السياسية التي واجهها، أظهر اهتمامًا كبيرًا بعائلته وحرصًا على راحتهم وسعادتهم، كان يُخصص لهم الوقت والاهتمام اللازمين، ويسعى جاهدًا لتوفير الحياة اللائقة لهم.

 

كان عبد الناصر يعتبر عائلته أساسًا لقوته ودعمه، ويُقال أنه كان يحرص على تواجدهم بجانبه في الأوقات الهامة والمناسبات العائلية، لم يدع الأعباء السياسية تؤثر على علاقته القوية بأفراد عائلته، خاصة زوجته وأبنائه، بل كان يعتبرها مصدرًا للقوة والعزيمة.

 

باختصار، يمكننا القول إن الزعيم الرئيس جمال عبد الناصر كان يحمل في قلبه حبًا كبيرًا لعائلته وكان يعتبرها أولوية في حياته، على الرغم من المسؤوليات الكبيرة التي كان يتحملها كزعيم ورئيس لمصر.. وهذا ما نتعرف عليه اليوم في هذه المقالة التي كتبتها ابنته "هدى عبد الناصر" ونشرتها مجلة الهلال في 1 يوليو 2002م:

 

إنسان من نوع خاص

لم يفارقني يوما حتى شريط السينما الذي صوره لنا كأسرة مازلت أحتفظ به داخل بيتي.. علمني كل شيء بداية من قيادة السيارة ولعب الدومينو وحتى الحياة.. إنه بالنسبة لي إنسان من نوع خاص لكنه كسائر الآباء حنون، عائلي بالدرجة الأولى.. جعل طفولتنا سعيدة فلم يفارقنا برغم مسئولياته وعشقه لمصر الأم الكبيرة .

 

داخل بيت منشية البكرى عشنا كأسرة مصرية بسيطة حياتها عادية رغم ما قد يغلقها من المظاهر غير العادية.. وكنت وأخوتى لا ندرك قيمة بعض الأمور ودلالة بعض الأحداث الدائرة حولنا.. برغم أن وقت الأزمات التي مرت بمصر كانت تنعكس على بيننا أيضا وتكاثر الحياة بعض الشيء... فكنا ونحن صغار لا ندخل على أبي وهو يعاني من أزمة ما أو متكدر من موقف ما، لا نتحدث معه ونحترم تأمله.

 

الفرح والنصر ولحظات القلق

**وفي حالة الفرح والنصر كان البيت يمتلئ بالسعادة وأذكر أنه مع إعلان الوحدة مع سوريا كان وجه أبي يتهلل فرحا.. وكان حديث المائدة وقت الغداء لا يخلو من الحكى عن الإنجاز وعن مدى سعادته به.

 

**عايشنا أيضا لحظات القلق الممزوج بالفرح مثال ذلك شغلت حرب الاستنزاف جانبا كبيرا من مشاعرنا.. القلق يتزايد مع بداية كل عملية وينتهي بالفرح مع نجاحها.. فأول دورية عبرت القناة كانت لها فرحة كبيرة.. وأول معركة نشبت «معركة رأس العش»، ثم غرق المدمرة إيلات .

 

**أمي كان عبد الناصر محور حياتها.. تزوجته في 29 يناير 1944.. كانت من قبله وحيدة .. توفى والديها.. فكان هو أهلها.. بعد أن أنجباني وأختي منى رحل أبي إلى جبهة القتال ليشارك في حرب فلسطين سنة 1948.. ورغم الصعاب والقلق تحملت المسئولية طوال فترة الحرب.. وحتى بعد عودته سالما من الحرب لم يترك العمل الوطني حتى قيام ثورة يوليو 1952 والتى كانت في البداية محفوفة بالمخاطر ونسبة نجاحها ضعيفة.. وهو الأمر المقلق جدا.

 

رب الأسرة

كنا محظوظين جدا.. نعمنا بطفولة سعيدة وهانئة في ظل حنان أبى ووجوده معنا دائما كان أبي حريصا على وقت العائلة وقضاء الأجازات الصيفية وأيام الجمع معنا برغم انشغاله بهموم الأمة والثورة.. حتى أنه كان يملك من الصبر ما يجعله يجيب عن جميع أسئلتنا مهما بلغت.. فكنا أنا وإخوتي نذهب إليه دائما بعد عودتنا من المدرسة نحكى له عن يومنا، عن أصدقائنا، وعن مدرستنا.. كان أبا مثل كل الآباء حريصا على دراستنا ويوقع لنا الشهادات المدرسية.. ومن يحصل منا على درجة مرتفعة كان يسارع إليه ليوقع شهادته أولا.. أما من يحصل على درجة منخفضة فكان يضع شهادته بجوار سرير أبي ليقوم بتوقيعها قبل ذهابه للمدرسة خوفا من عتابه.. بل وكان يحضر باستمرار الحفلات المدرسية الخاصة بكل منا..

وأذكر أن زوجي حاول الاعتذار عن حضور أول حفلة مدرسية لابنتى هالة نظرا لانشغاله فنظرت له بدهشة وقلت له «أبي عبد الناصر كان حريصا جدا على مسائل الأسرة رغم انشغاله بهموم الأمة كلها.. فبماذا أنت مشغول؟» وأعتقد أن أبي اهتم كثيرا بعائلته نظرا لحرمانه في ذلك الجو الأسرى ففقد والدته عندما بلغ الثامنة من عمره وعاش فترة داخل مدرسة داخلية ومن الطريف أيضا أننا في البداية عند التجهيز لمنزل منشية البكري اضطررنا السكن داخل قصر الطاهرة.. الأمر الذي سبب لنا إزعاجا كبيرا.. كل واحد منا له غرفة كبيرة مما جعلنا نشعر بالفرقة.. فافتقدنا بيتنا في منشية البكري الذي كان يحتوينا.. ورغم أنه ليس صغيرا إلا أنه كان مقسما.. الدور الأول يضم الصالونات الخاصة باستقبال الضيوف والزائرين.. أما الدور العلوى فهو خاص بنا.. به غرفة للمعيشة وأخرى للطعام نجتمع داخلهما كأي أسرة عادية أمام تليفزيون واحد وهذا هو أهم مظهر من مظاهر الرباط الأسري..

 

صعيدى بالدرجة الأولى

كان أبي رجلا صعيديا بالدرجة الأولى لا يحب أن يقتحم أحد خصوصيات حياته ولا حياة أسرته أو يعكر صفوها.. كان المقربون منا قليلين جدا حتى لا تقوم علاقاتنا بالبشر على أساس مكانة أبي ولا تقوم على النفاق والخداع بل على الصدق فقط، بعيدا عن منصب والدي.. وكان شديد الحرص على تربيتنا لنكون كسائر أفراد الشعب.. فأدخلنا المدارس الحكومية العامة.. فدرست بمدرسة دار السلام الإبتدائية ثم سراي القبة الإعدادية ثم القومية الثانوية بالعجوزة ولا تزال صورنا داخل تلك المدارس حتى الآن.

 

الاجتماعات الرسمية

**ولم تكن نحضر أية اجتماعات رسمية، كنا نحضرها فقط في حالة وجود وفد أجنبي أو عربي يرافقه أطفالهم أطفال فقط، أو إذا طالب أحد رؤيتنا. وأذكر أن خروشوف لدى حضوره مصر كانت تصحبه ابنته مما استدعى وجودنا معها، كذلك الرئيس اليوغسلافي تيتو حضر ومعه أولاده، كذلك لم نكن نسافر مع أبي باستثناء مرتين فقط كانت إحداها إلى يوغسلافيا.

 

أعياد الثورة

**كان يسمح لنا بحضور أعياد الثورة من كل عام باستثناء خطاب 23 يوليو الذي لم يكن مسموحا لنا حضورها.. كنا نشاهد المظاهر الاحتفالية في القاهرة والاسكندرية كالعروض العسكرية صباح يوم الثالث والعشرين، وعرض الشباب في استاد القاهرة.. ثم نسافر للاسكندرية لحضور احتفال وخطاب 26 يوليو بل قد حضرنا مرة واحدة مناورة عسكرية ضمن مظاهر الاحتفال.. ورغم كوننا أنا وإخوتى صغار السن لم يكن يوجه لنا أية محاذير أو ارشادات قبل الذهاب إلى آية احتفالية.. كان يترك لنا مطلق الحرية والتصرف على هوانا الطفولي.

 

علمني قيادة السيارة

**كان عبد الناصر الرجل الثوري هادئ الطبع.. صوته خافت داخل المنزل ولا ينهرنا أبدا كان عقابه هو النظر إلينا بعينه فقط.. ورغم قربنا منه لم يحمل أحد منا شخصيته كل منا يحمل جزءا أو صفة منه أو حتى لمحة صغيرة فقط.

 

**حتى أحفاده لم يرثوا منه الكثير وإن ظل داخلنا طوال الوقت.. حتى أنني لدى رؤيتي للأفلام التي جسدت شخصية أبي لم أكن أجده داخلها.. ففرق شاسع بين الأصل والتقليد.

 

يهتم بمجلة «المصور» و«الهلال»

**هواياته كانت متعددة.. لكن كان التصوير والفوتوغرافيا هما هواياته المفضلة.. فكان يعشق التصوير السينمائي والفوتوغرافي.. وحتى الآن أحتفظ بالأفلام الـ 35 ملى التي صورها لنا في منزلنا وعلى شاطئ البحر.. وكان يعشق القراءة خاصة مجلة «الناشيونال جيوجرافيك» و«لايف» و«لوك» لما تحتويه من صور تغذى هواية التصوير لديه.. وكان يهتم كثيرا بمجلة «المصور» و«الهلال».

**علمني قيادة السيارة أنا وأختى منى.. وكان يلاعبنا خلال الأجازة الصيفية ونحن في برج العرب «شطرنج» و«البينج بونج» بل وعلمنا «الدومينو».. كما كان يعشق الطبيعة والبحر والسباحة.. كم من الآباء يعلمون أولادهم ويتفرغون لممارسة أحب الهوايات معهم؟!

**في بداية حياتي عملت معه داخل مكتب السكرتارية فتعلمت مغزى العمل ومعنى الحياة وتعلمت كيف تصدر القرارات المصيرية.. وكيف تتم الاتصالات الحرجة وقت الأزمة، واستفدت من حرصه الشديد على دراسة الموقف والاطلاع على الدراسات.. والانفتاح على نظم الحكم في العالم والدساتير المكتوبة في الغرب والشرق.. كل ذلك خلال فترة زمنية سادت العالم فيها أفكار جديدة وحركات تحرر ومد ثوري وحرب باردة ونظم مختلفة للحكم.

 

زعيما ومناضلا

**ويكفى أن أبي كان زعيما استطاع أن يحرك القوى العظمى الكامنة داخل الشعب المصرى وعرف كيف يوظفها لصالح الأمة.. آمن بالأفراد البسطاء المهمشين وغير القادرين.. عبر عن أحلامهم ومطالبهم ولبى كل ما كان مطروحا من مطالب قبل الثورة.. آمن بالشعب فآمن به الشعب كزعيم وقائد مسيرة.

كان مناضلا يؤرقه العام وليس الخاص.. عايش الاحتلال الانجليزي وحزم في الجيش إيمانا بدور الجيش في القضاء على الفساد وتحرير الوطن من الاحتلال، وشارك في حرب فلسطين عام 1948، وفي حرب الفدائيين عام 1951 ويكفيه فخرا قيامه بإصدار قراري تأميم قناة السويس وبناء السد العالي.. ولتعلم أن مصر كافحت طوال القرن الماضى من أجل استعادة دخل قناة السويس فهو قرار مبنى على قصة كفاح طويلة، صدر في أعقاب خروج القاعدة البريطانية من مصر ليتحدى بذلك القوى الكبرى في العالم.. إنه أبي عبد الناصر .

 

Egypt Air