نستكمل حديثنا لنصل إلى نهاية رحتنا التي دامت نحو خمسة أجزاء متصلة، وها هو الجزء الأخير والمتمم لها، ليكون التساؤل الرئيس لهذا المقال، هل وضع لنا أفلاطون تصور عن خصائص الذرات والجسيمات المكونة للعالم، ومن ثم هل يتفق التصور الذي قدمه "ديمقريطس" مع التصور "الأفلاطوني"؟
عزيزي القارئ، إن التصور الذي قدمه لنا أفلاطون عن الخصائص التي تميز الذرات يمكننا أن نُجملها في النقاط التالية:
أولًا: إن لها شكلًا وحجمًا.
ثانيًا: إن لها صفات كيفية تتغير بتغير أشكالها.
ثالثًا: إنها متغيرة مادامت قابلة للانقسام بتغير أشكالها.
رابعًا: إنها ممتزجة بعضها ببعض غير منفصلة او مستقلة.
خامسًا: إنها أبسط ما يمكن أن ينحل إليه العالم المحسوس.
سادسًا: إنها سرمدية مادامت العناصر سرمدية.
سابعًا: إنها لا تدرك بالحواس على حدة وتدرك عندما تتجمع مع بعضها مكونة العناصر.
ثامنًا: إنها ما يمكن أن نسميه باسم (الجوهر).
وهنا يحق للقارئ العزيزي أن يتساءل هل هناك ثمة اتفاق أو تشابه بين التصورين "ديمقريطس" و"أفلاطون"، أم أن التصوران يكاد أن يتقاربا دون أي اختلافات؟
عزيزي القارئ على الرغم من التشابه الواضح بين الذرات أفلاطون وديمقريطس إلا أن هناك اختلافات جوهرية بين ذرتهما وهي على النحو التالي:
أولًا: إن ذرات ديمقريطس ليس لها خصائص كيفية على عكس ذرات أفلاطون.
ثانيًا: إن ذرات ديمقريطس ثابتة حيث إنها غير قابلة للإقسام على عكس ذرات أفلاطون.
ثالثًا: إن ذرات ديمقريطس مستقلة ببعضها عن بعض على عكس ذرات أفلاطون.
رابعًا: إن ذرات ديمقريطس لا تتغير أشكالها لأنها صلبة أو جامدة على عكس ذرات أفلاطون التي تتغير أشكالها لأنها قابلة للإنقسام.
خامسًا: إن ذرات ديمقريطس لها أشكال لامتناهية في العدد على عكس ذرات أفلاطون ذات الأشكال.
سادسًا: إن ذرات ديمقريطس تتحرك في الخلاء او الفراغ على عكس ذرات أفلاطون.
سابعًا: إن ذرات ديمقريطس تتحرك في عالم تحكمه الصرورة الآلية على عكس ذرات أفلاطون.
كما قدم لنا الفيلسوف الألماني الشهير فندلباند – فيلهلم فندلباند (Wilhelm Windelband) 1848 : 1915 – في كتابه (تاريخ الفلسفة) دراسة مقارنة ممتازة عن ديمقريطس وأفلاطون، حيث تُعد هذه الدراسة بمثابة تأسيس جديد للميتافيزيقا في المعرفة والأخلاق.
لقد رفع ديمقريطس وأفلاطون المعرفة على الظنون وميزا بين الفكر وبين الإدراك الحسي كما انهما هاجما المذهب الحسي عن بروتاجوراس. وبهذا تفوق ديمقريطس وأفلاطون على بروتاجوراس، كما يري أفلاطون وديمقريطس نوعان مختلفان من الحقيقة: الحقيقة أو واقع متغير، نسبي، زائل، وتقابل الإدراك الحسي. وحقيقة ثابتة، مطلقة، متجانسة وتقابل الفكر.
ويضيف لنا فندلباند أن صور أفلاطون وديمقريطس لا تشترك إلا في الاسم فقط، كمان إن المعرفة بالنسبة لديمقريطس هي أساسًا فكرة عن الوجود الثابت علي نحو لا يتغير، أي أنه الوجود الحقيقي عند ديمقريطس قيمة نظرية في تفسير الظواهر.
أما المعرفة عن أفلاطون على عكس ذلك فهي مرفعة من أجل تأسيس الفضيلة، وإذن فعلاقتها بالعالم تقتصر على تعين حدوده بوضوح، أي أن الوجود الحقيقي عند أفلاطون هو القيمة العملية لوجود موضوع تلك المعرفة التي تؤسس الفضيلة.
نضيف إلى ذلك أن السمة النسقية لمذهب ديمقريطس تكمن في الطريقة التي شرح من خلالها فكرته الأساسية عن الذرات، وحركتها في الفضاء، وقد بدأ ديقمريطس مهمته بواسطة أبحاث غطت النطاق الكامل لموضوعات التجربة، وليس المقصود التجربة العلمية، ولكن التجربة بمعني الخبر الحسية.
ولهذا السبب فإن المشكلة إذن هي التفكير فيما هو حقيقي بالفعل والذي يظهر في الظواهر. لذلك عرف ديمقريطس أن الفكر يجب ان يبحث عن الحقيقة في الإدراك الحسي وأن ينالها منه، إن مذهبه العقلي بعيد جدًا عن أن يكون متناقضًا مع التجربة.
وبهذا فإن نسق ديمقريطس يتخذ صفة المذهب المادي الصريح المقصود والمذهب الطبيعي عند ديمقريطس لا يقدم تغييرًا من حيث المبدأ، كما أكد ديمقريطس أكثر من أسلافه فكرة الضرورة الآلية التي سماها أحيانًا باللجوس.
إلا أن الأمر يدعونا للانتباه، حيث نجد فلسفة التنوير عندما تقابل هذا المذهب من جديد فإنها تميز بين الصفات الأولية والثانوية للأشياء، من المرغوب فيه أن نقدم "أن مذهب بروتاجوراس كان مفيداً لغرضه الخاص"، لأنه يتفق مع المعني الميتافيزيقي والإبستمولوجي الذي ذهب إليه ديمقريطس.
كما أنه من الضروري إزالة التعارض الإبستمولوجي مرة أخري بين الإدراك الحسي والفكر وذلك نظرًا لأن:
(1) الحياة النفسية كلها أعتبرت كحركة الذرات النارية.
(2) حركة الذرات في النسق المترابط للعالم مشروطة بالاتصال والتصادم.
وبهذا يبدو أن ديمقريطس قد حاز على فكرة المعرفة الحقيقة باعتبارها حركة الذرات النارية التي أحداثها انطباعات الصور الأدق والأكثر نعومة، تلك الصور التي تمثل تكوين الأشياء وهذه الحركة على أية حال هي أدق الحركات جميعًا ألطفها والصور الرديئة للأشياء تتدخل الذرات النارية في حركة عنيفة نسبيًا وينتج عن هذا (الإدراك الغامض) الذي يقدم نفسه باعتباره إدراكًا حسيًا.
لذلك أوصي ديمقريطس المفكر بأن ينصرف عن عالم الحواس المغاير تمامًا لشكل الفكر الذي يكشف الحقيقة بعيدا عن الإدراك الحسي.
وفي الختام، كانت هذه الأجزاء الستة بمثابة عرض موجز للنهج الفلسفي الذي اتبعه "ديمقريطس" و"أفلاطون"، وذلك من أجل وضع بنود فلسفتهما، للخروج بفلسفة دقيقة ومنظمة. وكان هدفنا خلال هذه الأجزاء بيان الوضع الذي انطوى عليه الفكر اليوناني مُنذ بدايته، حيث قدم لنا العديد من التفسيرات كانت لها أعظم الأثر في مجالات عدة، ونضيف ايضًا انها كانت بمثابة حجر الأساس، بل ونقطة الانطلاق لكثير من العلوم.