تحتل حرب أكتوبر موقعا فريد في التاريخ العربي والعالمي، كما أنها ليست مجرد معركة عسكرية عابرة، لكنها معركة حضارية كاملة، وها هو يوم النصر الذي نحتفل به من كل عام، وتحل علينا الذكرى الخمسون لمحلمة المصريين، اللذين استطاعوا بها الرد على العدوان بكل شرف وشجاعة وتدبر، فتلك الحرب قد سطرت فصول التحرير لاسترداد كل شبر فقدناه وكل حبة رمل، ولا يمكن للسنوات أن تبعدنا عن ذكر تفاصيل تلك الملحمة ومع اختلاف الأجيال نحتاج إلى ما يقربنا لنقل أحداث هذه الحرب إليهم.
وتنشر"دار الهلال" حديثا هام قامت به أمنية السعيد رئيسة تحرير دار الهلال مع الرئيس أنور السادات في يوم الاستفتاء على رئاسة السادات للجمهورية الموافق الخميس 16 سبتمبر 1976، حيث استقبلها في بيته في ميت أبو الكوم، في حديث خاص بلغت مدة 4 ساعات عن يومم 6 أكتوبر، تُذاع به أسرار جديدة لأول مرة عن خطوت ولوحات وأضواء معركة 6 أكتوبر.
وأوضحت أمينة السعيد حرص السادات لهذا الحوار لأنه يعتز بيوم 6 أكتوبر ويحب الحديث عن هذا اليوم العظيم، مضيفتا أنه يعرف يوم 6 أكتوبر أكثر مما يعرفه أي إنسان، ويملك في الحديث عنه كنزا لا ينتهي من التجارب والأسرار، ليزيح الستار عن أسرار جديدة ليوم الحرب الخالد داخلة ولا يموت أبدا.
معاناة قبل المعركة وعقبات مرحلة الصبر والصمت
وقد روى السادات مواقف جماهير الشعب والتحديات التي وقعت في فترة طرح شعار الصبر والصمت عام 1972 قبل الحرب بعام، حتى وقعت مفاجأة السادس من أكتوبر 1973، حيث قال: واللهِ كانت فترةً مليئة بالمعاناة والمرارة، ولكنني كما قلت وأقول دائمًا أنني أخرج بنفسي وذاتي من دائرة التفكير والانفعال حتى لا يكون قراري مشوبًا بأي غضب خاص أو انفعال شخصي، فالقضية هي قضية مصر وهي عندي أكبر من كل شيء، وأكبر من كل انفعال أو غضب.. عندما أعلنتُ شعار "الصبر والصمت" واجهتني ألوان من السخرية "والتريقة"، ولم يكن أمامي سوى أمر من اثنين: إما أن أحكي قصة الاتحاد السوفييتي وموقفه كاملًا، وأكشف كل شيء أمام الرأي العام المحلي والعالمي، ولم يكن هذا الموقف في مصلحة مصر.. ولقد كنت أتمنى -كبشر- أن أكشف موقف السوفييت حتى يعرف الناس الحقيقة، فقد كان موقف السوفييت في سنة الحسم متعمدًا الأفراد بي والغساة إليَّ، ولكنني آثرت أن أكتُم انفعالي، وأن اتحمل ألمي واحدي، واخترت الامر الثاني وهو الاحتمال من أجل مصر، تحملت السخرية و"التريقة"، ولم أقم اعتبارًا لهذه الصغائر، وهذا هو خط سيري دائمًا.. لا شيء يستطيع أن يجرفني أو يجرني إلى المعركة الوطنية الأصلية في ميادينها المختلفة، ولا أبدد جهدي في معارك خاسرة أبدًا.
وهناك حقيقة أخرى يجب أن يعرفها الجميع هي التي ثبتتني في مكاني وموقعي هذا لم تكن هناك خصومة بيني وبين أي مصري واحد.. إن ما يربطني بالجميع هو مصر ومصلحة مصر وحب مصر..
ولذلك لم اتصرف مع الصحفيين إلا بنقلهم إلى الاستعلامات لبضعة شهور، ثم انتهى الأمر بأن أعدتهم إلى عملهم قبل المعركة بأيام أي في 28 سبتمبر سنة 1973، هذا طرف من أطراف المعاناة التي شعرت بها قبل المعركة.
60% من معدات العبور مصرية الصُنع
انتقالا من الذكريات الحزينة وموقف السادات العظيم كالأب وسط أبنائه، ليشرح لنا السادات الخلفية الخاصة وراء سر ان المهندس أو الفني المقاتل في قواتنا المسلحة قد أضاف ابتكارات وإضافات للسلاح الشرقي والغربي على مستوى البر والبحر والجو، حيث قال:
حقًا إن أولادنا في القوات المسلحة يستحقون كل الجد وكل الخلود، الطائرة الميج 21 والتي استخدمناها في المعركة اشترك أولادنا من الضباط والمهندسين في تطويرها في الاتحاد السوفييتي، والطائرات الأخرى غير الميج 21 حدث لها تطور كلي باشتراك أولادنا أيضًا.. وكأن ذلك قبل المعركة.
سر جديد لا يعرفه أحد إلى الآن.. لقد كانت كباري العبور التي أعطاها لنا الاتحاد السوفييتي كانت كباري الحرب العالمية الثانية، وهذه الكباري يتم تركيبها في مُدةٍ تمتد من 5 على 6 ساعات، وقد استخدمناها فعلًا في الحرب ولكن الذي لا يعرفه أحد إلى اليوم هو أن 60% من معدات العبور من "كباري" و"المعديات" وغيرها صُنعت في مصر وتم تصميميها بأيدِ مصرية والـ40% من المعدات كانت هي هذه الكباري التي أخذناها من السوفييت، كباري الحرب العالمية الثانية، التي يتم تركيبها في مدة تمتد ما بين 5 إلى 6 ساعات.
وأضاف بذكر نموذج من نماذج الإنسانيات العديدة التي قام بها المصريون في حرب أكتوبر، حيث أوضح قصة صعود الساتر الترابي من جانب جنودنا الابطال، وقال: فقد تسلق أولادنا هذا الساتر بطرق بدائية لا شك أنها جعلت اليهود ينفجرون من الغيظ.. لقد استخدم أولادنا سلالم الحبال التي نراها في السينما، والتي كان بعض أولادنا المدربون تدريبًا خاصًا يصلون إلى الساتر الترابي ثم يفردون السلالم إلى تحت ويربطونها بوتد من فوق؛ فتصبح هذه السلالم صالحة للصعود يتسلقها الجنود بعد ذلك "زي القرود، زي العفاريت" وقد استطاعوا أن يجروا معهم في صعودهم مدافع مضادة للدبابات ثقيلة جدًا.. فراعنة.. هم الذين بنوا الهرم.. جروا هذه المدافع الثقيلة بأن ربطوها في حبال، وهذه الحبال جعلوا لها وتدًا في أعلى الساتر الترابي أيضًا، ومن جانب السلم شدوا هذا المدافع.. وعندما يصعد العسكري السلم يجد مدفعه جاهزًا، فيدخل المعركة على الفور.
خسرنا 500 دبابة من أصل 3000 دبابة وهذا إنجاز عظيم
وأحب أن أذكر لكِ هنا أن قاذفات اللهب التي استخدمناها في المعركة كانت كلها مصرية مئة في المئة، وقاذفات اللهب هذه كانت من أخطر الأسلحة التي استخدمها المقاتل المصري، والتي هاجم بها خط بارليف وحطمه وقضى عليه "وبتوع بارليف" من جنود العدو وضباطه "ماشالوش الويل من شوية!!" لأن أخطر شيء على من يختبئ في موقع دفاعي هو قاذفات اللهب، فالمقاتل في موقعه الدفاعي إما أن يخرج من موقعه لتقتله رصاصة أو يبقى فيحترق.. ولهذا السبب، وبفضل الابتكار المصري لقاذفات لهب خاصة بنا، لم يتحمل خط بارليف وقتًا لقد اقتحمناه وحطمناه بسرعة.
وحطم أيضًا جسر الطائرات.. العالم كله بدأ يهتم بجسر الطائرات بعد ضربة يونيو 1967، ولكن كل جيش كان يبني هذا الجسر حسب اجتهادات خاصة بمهندسيه، وقد قمنا نحن بمجهود جبار في هذا المجال، ولابُد أن أذكر فضل "المقاولون العرب" في تصميم هذا الجسر وتنفيذها مع المهندسين العسكريين لقد كان تصمينا المصري للجسر ومواقعه 3 من أروع الإنجازات، وقد حاول اليهود مَرارًا وتَكرارًا أن يسرقوا هذا التصميم ولكنهم فشلوا، ولم تنجح محاولاتهم؛ لأن مخابراتنا كانت وراءهم بالمرصاد ولم تمكنهم من النجاح في هذه المحاولات.
أيضًا من الأشياء الرائعة فيما نسميه باسم "التكتيكات الصغرى"، هناك ضابط نابغ اسمه "حسين أبو سعدة" وهو الذي استولى على اللواء 190 اليهودي.. لواء عساف باجوري المشهور.. حسن أبو سعدة.. قضى على لواء مدرع بأكمله، يضم 120 دبابة.. قضى على هذا اللواء بكل دباباته في عشرين دقيقة، اللواء المدرع عندنا مئة دبابة، عدد إسرائيل مائة وعشرون، واللواء المدرع فيه 5 دبابات ومدفعية ميدان ومدفعية مُضادة للطائرات، كل هذا قضى عليه أبو سعدة في عشرين دقيقة.. مائة وعشرون دبابة مجهزة بأدق التجهيزات العسكرية، قضى عليها أبو سعدة في عشرين دقيقة، وقد ذُهل "عساف ياجوري" قائد اللواء الإسرائيلي المُدرع عندما نزل من دبابته وكانت آخر دبابة في لوائه؛ فوجد كل دباباته المئة والعشرين محطمة ومحترقة تمامًا.. ذُهل الضابط الإسرائيلي وكاد يُجَّن!!، وما والت دبابة عساف ياجوري موجودة في مكانها في رمال سيناء حتى الآن ذكرى لهذه المعركة المجيدة..أكبر معركة دبابات في الحرب العظمى كان اسمها معركة "كورسك" في روسيا، وكان في هذه المعركة 500 دبابة، نحن قضينا على مئة وعشرين دبابة في عشرين دقيقة.. هذه معجزة.
وبهذه المناسبة كانت معارك الدبابات بيننا وبين اليهود عنيفة، وكانت خسائرالدبابات في هذه الحرب ثلاثة آلاف دبابة... وللعِلم خسائر الدبابات المصرية هي خمسمئة دبابة فقط، أما الخسائر الباقية وهي ألفان وخمسمئة فهي موزعة بين إسرائيل وسوريا... هذه حقيقة لم أكن أود إعلانها الآن.. ولكنني اقولها لأولادنا وللتاريخ.. فهذا واجبي ألا أخلي هذه الصفحات المجيدة في تاريخنا.
ماذا لو العدو قام بضربة إجهاض قبل تحركنا؟
أجاب السادات أن ضربة الإجهاض لو أنها وقعت قبل ثلاثة أيام من المعركة كان يمكن أن تسبب متاعب لنا، رغم أننا وضعنا مثل هذه الضربة في الحساب وكنا سوف نرد عليها بقوة وعنف، ولكن في الأيام الثلاثة السابقة على الحركة لم يكن لمثل هذه الضربة من جانب العدو أي قيمة، ثقةً قيل إن قادة الجيش الإسرائيلي اتصلوا بجولدا مائير صباح السبت 6 أكتوبر لكي يقوم الجيش الإسرائيلي بضربة وقائية، كل هذا الكلام لا قيمة ولا أهمية له.. ولم تكن ضربتهم تجدي شيئًا، لا يوم السبت 6، ولا الجمعة 5، ولا الخميس 4 أكتوبر.
وادي الموت أكبر خسائر اليهود
وذكر الرئيس أنه بدأ الإسرائيليون في تسمية "الثغرة"، باسم وادي الموت؛ لأن أكبر خسائر اليهود كانت في الثغرة، وفي زيارتي لعمان قبل لقائي بفورد في "سالزبورج" ألقيت خطابًا تحديت فيه اليهود أن يذكروا خسائرهم في الثغرة.. ولكنهم لن يفعلوا ذلك؛ لأن هذه الأرقام سوف تفضح قصة الثغرة كلها، هناك طيار يهودي من الذين كانوا ينقلون القتلى من الثغرة ضربنا طائرته وأسرناه، وقد أعطانا هذا الطيار بيانًا كاملًا بخسائر اليهود، بالإضافة إلى ما تملكه من بيانات دقيقة..
وعندما فشلت مفاوضات فض الاشتباك الثاني لأول مرة في مارس 75 اتخذتُ قراري بفتح قناة السويس وتسليم اليهود 39 جثة، وقد كان بينهم ضباط كبار جدًا، وقد أقيمت لهم جنازات ضخمة في إسرائيل، وتجددت أحزان إسرائيل مع تسليم هذه الجثث، وبعد أن رفضوا الاشتباك الثاني في المرة الأولى، عادوا فقبلوه... وهذا ما قدرته وقد صح تقديري تمامًا، لقد تذكروا ما أصابهم في حرب أكتوبر، وعرفوا أن العناد لن يفيدهم كثيرًا، فهذه "جثثهم" شاهد على هزيمتهم.
أما بالنسبة لبقية الجثث فقد أعطيت تعليماتي بالبحث عنها وإذا وجدنا جثثًا أخرى فسوف نسلمها لليهود، ليس عندنا أبدًا نية التمثيل بالجثث... وليست أخلاقنا أو عقائدنا.