الثلاثاء 14 مايو 2024

مسيرة الفنون خلال العقود التي تلت الانتصار


أحمد نوار

مقالات9-10-2023 | 10:46

أحمد نوار

فى تاريخ مصر الممتد وبدون انقطاع ينكشف جلياً دور الفنان التشكيلى بدءاً من تسجيل المعارك والانتصارات على جدران المعابد وصولاً إلى توثيق الحياة اليومية بالرسوم والنصوص والنحت البارز.. وأصبحت علامات فى تاريخ الإنسانية ومجالاً خصباً للعلماء والمفكرين بشتى تخصصاتها بالبحث والتنقيب وباكتشاف مقومات هذه الحضارات.. كيف تقدمت.. وكيف ازدهرت وتركت للعائلة البشرية زخيرة حية من العلوم والثقافات والإبداع الفنى والعلمى.. فالفنون هى مفاتيح خزائن تراث المجتمعات فى كل العصور.
نأتى إلى مكانة الفن فى العصر الحديث.. والتى بلغت درجات عليا من الأهمية فى نطاق متطلبات العصر ومقوماته وآلياته التى اختلفت بكل أشكالها ومعاييرها.. ففن السينما على سبيل المثال يعد من الفنون المتقدمة فى مصر وخاصة خلال العقد الثانى من القرن العشرين حيث ارتبط بالمجتمع وخص أفلاماً للمناسبات القومية منها ثورة 1952.. بالإضافة إلى المحتوى المضمون بالنصوص المرتبط بالحس الوطنى والانتماء.. أخص هنا إشارة فقط من بعيد.
النصف الثانى من القرن العشرين ارتبطت أعمال الفنانين التشكيليين بالأحداث القومية وعلى رأس الأحداث ثورة 1952، تفاعل معها الكثير من الفنانين منهم المثّال محمود مختار النحات وجمال السجينى.. النحات محمد مصطفى والمصور حامد عويس والمصور محمود عفيفى وغيرهم الكثيرين.. ويأتى المشروع الأكثر تغلغلاً فى وجدان وقلوب الفنانين المصريين "ملحمة بناء السد العالى" معظم الفنانين التشكيليين خلال بناء المشروع بالستينيات حتى افتتاحه فى بداية السبعينيات قد زاروا المشروع وتفاعلوا معه ومع السواعد المصرية التى نفذت هذا المشروع القومى الكبير.. وعلى رأسهم المصور عبدالعزيز درويش، المصور عبدالهادى الجزار، المصور عبدالرحمن النشار وآخرون قمة التفاعل.
وتأتى الحرب الكبرى "الاستنزاف" التى توجت بالعبور عام 1973 وتحقيق أكبر انتصار فى تاريخ مصر الحديث.. وإذا نظرنا برؤية عامة نكتشف بأن التفاعل مع أحداث الحرب كان ضئيلاً جداً على مستوى كل الفنون.. باستثناء بعض الفنون التى قدمت نتاجاً كالسينما ولكن بأفلام لا ترقى لمستوى حدث الانتصار، والمسرح كذلك.. مضافاً إلى بعض الأغانى الوطنية.. وفى ضوء ذلك وأهمية السينما كفن شامل جامع جمهورها واسع النطاق.. تقدمت فى بداية التسعينيات إلى الرئيس الأسبق الراحل مبارك بمشروع تحت شعار "انتصار 73 وإنتاج فيلم يرقى للحدث".. أو أفلام ترمى للحدث، المشروع يتلخص فى الآتى:-
1- تدبير ميزانية المشاهد العسكرية التى تتكلف كثيراً.. باقتراح تنفيذ أحد المشاريع التدريبية للجيش المصرى بنفس سيناريو حرب أكتوبر بنفس نوع الأسلحة وأزياء المقاتلين.. وينفذ على قناة السويس.. "فالملايين التى كانت ستصرف على التدريب بالذخيرة الحية لجميع الأسلحة فى الصحراء.. ستتم ولكن بسيناريو عبور قناة السويس".
2- تبرع كل مواطن بجنيه واحد لكل فرد.. ويمكن للراغب التبرع أكثر من ذلك.
3- حول الرئيس مبارك الاقتراح إلى وزير الثقافة الأسبق "فاروق حسنى".. وتم تحويله إلى مقر لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة "المخرج الراحل حسام الدين مصطفى".. وتوقف عند هذا الحد..؟!
4- كنت قد أرسلت نسخة من المشروع إلى وزير الدفاع.. وفى الحقيقة هى الجهة الوحيدة التى تفاعلت مع الاقتراح.. وأرسل اللواء هتلر طنطاوى أمين عام وزارة الدفاع فى ذلك الوقت خطابا لى يفيد بأهمية المشروع الذى يعد من الأهمية تنفيذه.
5- شكلت وزارة الدفاع مجموعة لمقابلتى برئاسة عميد.. وتناولنا المشروع من كافة النواحى.
6- استلمت خطابا آخر من وزارة الدفاع يفيد باستعداد الوزارة للمساهمة لتنفيذ هذا المشروع القومى.. وأضيف اقتراح من قبلها بأهمية تبنى مؤسسة إعلامية هذا المشروع وعرضه على المجتمع للمشاركة.
7- تم اختيار "مؤسسة الأهرام" وبالفعل قامت وزارة الدفاع بتمويل المشروع المقترح إلى المؤسسة.. وتقابلت مع الكاتب "إبراهيم نافع" عدة مرات للمتابعة وأفاد بأنه حول المشروع إلى الفنان المخرج الراحل "يوسف فرنسيس".. لم يتم شىء ورحل إلى رحمة الله، وتابعت إبراهيم نافع مرة أخرى فى حضور الرئيس مبارك بمعرض الكتاب الدولى بمدينة نصر.. وأفاد بأنه حول الموضوع إلى الكاتب "محمود مراد" وتقابلت مع سيادته وتبادلنا تفاصيل المشروع وتوقف بعد ذلك.
8- كافة أنواع وسائل الإعلام نشرت المشروع على سنوات متصلة دون جدوى فى ظل قيام وسائل الإعلام بتغيب الشباب.. وعدم تعميق الحس الوطنى لديهم والبعد عن قضايا الحرب.. وفلسطين.. إلخ.
مواقف سلبية من المؤسسات الرسمية.. والمساهمة فى تغييب الحس الوطنى.. وبذلك افتقدنا توثيق جزءاً غالياً من تاريخ الوطن.. وذاكرة الأمة التى يجب الحفاظ عليها من أجل أجيال الحاضر والمستقبل.. عندما تغيب الحقيقة والانتماء الوطنى من خلال الأحداث القومية المضيئة تختفى الذاكرة.. وتتلاشى هوية المجتمع.
وظل للفن التشكيلى كبادرة أمل فى التفاعل الإيجابى مع الأحداث القومية.. فبادر النحات جمال السجينى بإبداع تمثاله "العبور" الكائن فى وسط أحد الميادين بمدينة بنى سويف.. وهذا التمثال بليغ التعبير عن العبور.. عبور مصر إلى أرض سيناء.. إنطلاقة بدون حدود، قدرة على صياغة بنائية.. الكتلة.. وجمالية العلاقات.. وحركة التواصل والحد فى الكتلة كأنها تتحرك وتنطلق تجاه هدف واحد.. هو سيناء الحبيبة.. لتحريرها.. من الصهاينة.
يطالعنا الفنان المصور حامد عويس بروائعه الرمزية والمباشرة.. فى أعمال نابضة وقاطعة كالسيف.. فى منظومة لونية وتعبير بليغ عن عبور مصر.. والانتصار العظيم.
أما حامد ندا المصور الذى ربط عناصره الطبيعية والتى تحمل رموزاً غير مباشرة.. عميقة المعنى.. فقد قدم عملاً يعبر عن روح الانتصار وصيحة النصر.
محمد العلاوى النحات الذى ظل وحتى الآن مولع بوطنه وبالأحداث القومية.. وبمصر وبجنودها المقاتلين الذين انتصروا فى حرب أكتوبر 1973.. "وبكثير من الأعمال التى لمست هذا الانتصار".
تجربتى فى حرب الاستنزاف.. هى التى صقلت رؤيتى الفنية التى بدأت منذ منتصف الستينيات باهتمامى بالقضايا الإنسانية.. رسمت عن فلسطين واللاجئين.. والتفرقة العنصرية.. وحرب فيتنام.. وعندما انضميت جندياً بالقوات المسلحة تحولت المشاعر من استقبال الأحداث من وسائل الإعلام إلى العيش فى قلب المعركة فى ميدان السلاح والنار.. دفاعاً عن أرض الوطن وطرد العدو الصهيونى من سيناء الحبيبة.. عامان ونصف استطعت اقتناص خمسة عشر صهيونياً.. وعبرت القناة ستة مرات.. خلف خطوط ومواقع العدو.. وكان معرضى عام 1971 قبل سفرى إلى إسبانيا حيل انبطاعاتى عن تجربتى فى الحرب.. ضم مجموعة من تماثيل مكونة شظايا القنال.. كنبذ الاعتداء والحرب على أصحاب الحق.. ومجموعة من الرسوم الملونة والتى ظهرت فيها شراسة الاشتباكات وقسوة الحرب.
عام 2010 أقمت معرضاً كبيراً عن العبور يتضمن 33 عملاً فنياً بالإضافة إلى عمل فنى تجهيز فى الفراغ يصاحبه مؤثرات صوتية وموسيقى.. والمعرض يعبر عن روح وجسارة المقاتل المصرى.. وأهمية التأكيد على عمق الانتماء.
أما العمل الفنى "التجهيز فى الفراغ" الذى يعبر عن مراحل التضحية والقتال.. والشهداء.. وصولاً إلى ارتفاع علم مصر على خط بارليف.
عام 2014 أقمت معرضاً تحت موضوع "الشهيد" وتمنيت الرئيس السيسى يتشرف بافتتاحه.. ونظراً للظروف السياسية فى هذه الفترة لم تتحقق الأمنية ولكن المفاجأة وصول تهنئة خاصة من الرئيس السيسى يصاحبها صحبة ورد كبير.. كان لها أثر كبير عند الفنانين جميعاً والمثقفين فى مصر.. وأيضاً حضور منصب وزارة الدفاع لحضور الافتتاح.. المعرض جاء لتأييد روح الشهيد والتعبير عن قيمة الشهادة من أجل الوطن وكبريائه وعزته.
بشكل عام لم تحظى حرب الاستنزاف الكبرى فى حرب القناة أهمية تتوافق مع هذه القيمة التاريخية والنصر العظيم.. وكان السبب الرئيسى توقف الحرب.. وغيرها من الأحداث مثل الثغرة.. والاتفاقيات التى أبرمت بعد ذلك.
نظل فى انتظار أفلام ترقى لمستوى الانتصار وما سبقه من حرب الاستنزاف لسنوات قبل أن تتلاشى الذاكرة.

 

Dr.Radwa
Egypt Air