-تشابهت أساليب القوى العدوانية على اختلاف العصور في محاربة العرب والعمل على تشويه تاريخهم والنيل من حركات نضالهم القومى المتصل عبر القرون
- من أهم القرارات العربية، قطع البترول العربي عن الدول المؤازرة للعدوان الإسرائيلي حال نشوب الحرب بين العرب وإسرائيل
- قدمت بعض الدول العربية دعما عسكريا للحرب العربية الكبرى التي حمل مسئوليتها البالغة وأعباءها الجسيمة أكبر الأقطار العربية
- كان الهدف العربي من المعركة الدائرة تحرير الأرض العربية المحتلة، واستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني طبقا لقرارات الأمم المتحدة .
العمل العربي المشترك، هو التعبير المتواضع ، أو الخطة المرحلية في سبيل الوحدة العربية المأمولة .. وقد تدلهم الخطوب فى هذه السبيل ، وقد تتصاعد التحديات المناوئة وتتفاقم الكوارث والنوازل لكن هذه الوحدة على معاناتها المتصلة تظل حقيقة الوجود العربي بانتصاراته التاريخية فى الماضى البعيد والوسيط والقريب وإنجازاته رغم الكوارث في الحاضر وآماله في المستقبل رغم الظلمات.. فهى ليست جديدا يراد استحداثه، وإنما واقع تليد كفل للأمة العربية في فجر الإسلام وضحاه المنعة والحرية والتقدم، وأثقل العالم بألوية العدل والمساواة والسلام قرونًا ، وأمد الحضارات الغربية الحديثة بأسباب وجودها وصنع المعجزات فى أقسى الأحداث ظلما وظلاما، وظل هذا الواقع العريق التليد يصارع القوى العدوانية الخارجية والداخلية وينتصر عليها ، ما توثقت أسباب العمل العربي المشترك فى مقاومتها ،وما قادتها مصر قلب العروبة النابض وقاعدتها الصلبة الخالدة على مر الزمان، كان ذلك شأنها في حرب التتار ، وفى الحرب الاستعمارية التي سميت تضليلا وتآمرا بالصليبية، وفى مكافحة حركات التفريق والتقسيم للعرب ومطامع الصهيونية العالمية غير المشروعة في العالم العربي هي التي دفعتها منذ ثمانين عاما خلت إلى اختيار فلسطين ملتقى لهذه المطامع ومنطلقا مقدرين أنها تتوسط منطقة يعجز أهلها بتخلفهم عن استثمار إمكاناتها وثرواتها الوفيرة ويعكفون بتفرقهم للأجنبي المعتدى من التحكم في حاضرهم ومصيرهم؛ وتشابهت أساليب القوى العدوانية على اختلاف العصور في محاربة هذا الواقع، وفي محاولة القضاء على مقوماته الأساسية وفي العمل على تشويه تاريخ العرب والنيل من حركات نضالهم القومى المتصل عبر القرون والأجيال .. لكن هذه الحقيقة لا تلبث أن تشرق في حزمة الأحداث الجسام، وتثبت من جديد أصالتها وتؤكد أن الحقائق الكبرى الراسخة لا يمكن النيل منها، وإن تفاقمت المحن والأهوال، حتى جعلت الناس يظنون بهذه الحقائق الظنونا.
ورمضان المجيد، أو تشرين الأول الخالد لعام ثلاثة وسبعين وتسعمائة وألف وما تلاه لعدة شهور - كان فترة من أبهى الفترات في تاريخ العمل العربي المشترك ، قادها أبطال شجعان، وصنعها شعبان عربيان وآزرتهما أمة مجيدة .. وما زلت أذكر محاضرة دعانى إليها التنظيم النسائى المصرى للاتحاد الاشتراكي العربي، في مطلع عام اثنين وسبعين ، وحين كان البطل المصرى العربي أنور السادات يقاسى الشدائد في سبيل النصر .. وكان موضوعها مسئولية مصر والعرب في حرب التحرير .. وأوجزت الحديث الطويل بأن مصر تحمل المسئولية الأولى لأنها تضم ثلث العرب في قطر واحد توثقت عرى بنيته منذ عهد مينا بل منذ تفجر النيل العظيم، والثلثان في عشرين قطرا.. وعلى مصر أن تعتمد على إمكاناتها فى المقام الأول - وإذا قادت المسيرة فلن يتخلف عنها الآخرون لأن روابطنا أقوى من الأحداث ، وإن بلغت في الهول والنكر هزيمة حزيران لعام سبعة وستين .. وستنتصر الإرادة والقوى المصرية العربية ولهذا ، ولقوة العمل العربي المشترك توجه إليه منذ نصر أكتوبر المجيد الطعنات وتشن عليه الهجمات الضارية .. وبقدر النصر العظيم القريب، وآثاره القومية والدولية، تدور فى لبنان رحى الفظائع التي يذكرها تاريخ العرب وأخلاقهم، وتبذل الجهود العاتية لتبديد روح العرب قلبا ومشرقا ومغربا ..
ذكريات قريبة :
ومنذ هزيمة حزيران وجهت جامعة الدول العربية عنايتها إلى الجانب الاقتصادي العربي، وهو الجانب القومى والدولى الفعال، ودعامة القوى العسكرية .. عليه ركز مؤتمر القمة بالخرطوم في نهاية أغسطس (آب) لعام سبعة وستين، وقرر الدعم المالي العربي لدول المواجهة حفاظا على اقتصادها فى نطاق متواضع محدود .. كما قرر بناء الوحدة العربية الاقتصادية أو بعبارة أخرى حاول أن ينفذ ما قرره العرب منذ العام الخمسين لهذا القرن، حين التزموا بمعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية، ولكنهم مع الأسف لم يضعوها طوال ربع قرن موضع التنفيذ الصحيح وسعدت بالعمل فى المجال الاقتصادي قبل حرب أكتوبر إذ كنت أشرف عليه في الجامعة حينذاك مع المجال السياسي واتصلت اجتماعات الخبراء العرب واللجنة الرباعية من وزراء اقتصاد مصر وسوريا ولبنان والجامعة التي كنت أمثلها وانتهت فى عام تسعة وستين إلى توصيات مستفيضة بشأن التنمية العربية ودور البترول في حرب التحرير وكان أهمها قطع البترول العربي عن الدول المؤازرة للعدوان الإسرائيلي حال نشوب الحرب بين العرب وإسرائيل، واعتمدها المجلس الاقتصادي العربي .. ولعل الكثير من الدول العربية كان يقدّر استبعاد نشوب هذه الحرب ، وأن الأمر لن يعدو أعمال استنزاف التي كانت تتولاها مصر ضد إسرائيل، ولم تكن تعدو الجبهة المصرية .. وكان القصد منها تحريك العمل السياسي الدولي وإنهاك قدرات إسرائيل ، وإن ظل التحريك المنتج بعيد المنال وظلت إسرائيل تزداد بمرور الأيام عنادا واستهتارا، لكن هذا القرار الذى كان يعدو نظريا محضا استطاعت المعجزة المصرية ، التي خطط لها القائد السادات ومعاونوه ، أن تجعله واقعا يبهر الأبصار والبصائر، وحقيقة تأخذ بمجامع القلوب والعقول، فقد استطاع القائد المصري أن يجمع القادة العرب المالكين لأسباب التأثير الاقتصادي الدولى على مبادئ موحدة.
وحين نشبت حرب أكتوبر المجيدة ، كنت أعمل أمينا عاما للجامعة العربية بالإنابة إذ كان الأمين العام يشهد اجتماعات الأمم المتحدة ويعمل مع ممثلي الدول العربية لنصرة النضال القومى المشترك في المجال الدولي.
يوم السادس من أكتوبر
في ذلك اليوم الآغرّ، الخالد على الزمان، مهما حاول الأعداء محو آثاره ذهبت إلى مكتبى مبكرا كعادتي قبل الموعد الرسمي للعمل في شهر رمضان المبارك .. وتلقيت فور جلوسي أول الأنباء الواردة من تل أبيب والتي نقلتها طابعة الأخبار .. وقد جاء فيها أن عاصمة إسرائيل ومدنها وطرقها تعج بالحشود والمعدات العسكرية المتجهة إلى سيناء .. وفسرها المفسرون الأجانب بأنها عدوان إسرائيلي جديد لوقف أعمال الاستنزاف المصرية، وفرض الصلح على العرب ..
ووجدت الناس من حولى يظنون الظنونا وازددت ثقة بالله فى النصر، وأكدت ما كررته فى المحاضرات والتصريحات والكتب التي أصدرتها منذ عدوان الخامس من حزيران، مع أن القدرات العربية قادرة على سحق العدوان الإسرائيلي لو استخدمها العرب، وأن مصر وحدها قادرة على هذا الدور لو نهضت به فى حكمة وقوة، وأن العرب لن يتخلفوا إذا جد الجد ، ودعا داعي التحرير، وأن أسباب الضعف والهزيمة البادية فى بعض الأرجاء ستتلاشى فى محيط الإرادة القومية الغلاّبة.
وظللت أتابع الأنباء والاتصالات ، حتى إذا انتصف النهار، ثم مالت الشمس عن كبد السماء وكان النبأ الكبير بالعبــــــــــور المصرى العظيم للقناة والتصدى لخط بارليف وما نسج حوله من أساطير الهول والفزع .. وكان النبأ الآخر بالهجوم السوري على هضبة الجولان، وضرب إسرائيل في قلبها وكثافة سكانها .. ولم يمض كثير حتى جاءت الأنباء بنجاح العبور وسقوط الحصون الإسرائيلية الخرافية ، وتقدم القوات المصرية بخطى ثابتة وطيدة تخلع قلوب إسرائيل وتزلزل أرضها زلزالا.
وتوالت من بعد ذلك مظاهر العمل العربي المشترك في المجالين السياسي والاقتصادي، كما قدمت بعض الدول العربية دعما عسكريا للحرب العربية الكبرى التي حمل مسئوليتها البالغة وأعباءها الجسيمة أكبر الأقطار العربية، وأعظمها أخذا بوسائل العلم والتكنولوجيا المعاصرة .. وإذا كان الحديث ذا شجون وأطراف متشعبة، ولا يتسع لمثله مقال محدود المدى ، فلا يكن مناص من الاكتفاء بالإشارات الوجيزة في المجال السياسي.
كانت السياسة العربية المشتركة تعاني الهزيمة طوال السنوات الست التي أعقبت حرب الأيام أو الساعات الست فبعد أن التقى العرب على مبادئ بقمة الخرطوم فى نهاية أغسطس "آب"عام سبعة وستين، جاء قرار مجلس الأمن في نوفمبر "تشرين الثاني" لذلك العام ليعبر عن تفرق سياساتهم، حيث لا يقتضى الأمر تفريقا ، ولا يسمح الموقف به... فقرار مجلس الأمن عمل سیاسی، وتفسيره ومدى الانتفاع به رهن بما تتمتع به الأطراف المعنية من قوة .
وحاول العمل العربي المشترك توحيد هذه السياسات فى سبيل الصالح العربي المشترك ولهذا اجتمع وزراء الخارجية العرب في التاسع من ديسمبر "كانون الأول" لهذا العام واتفقوا على مشروع جدول أعمال القمة الخامس بالرباط، واقترحوا له اليوم السابع عشر من الشهر التالي .. لكن الخلافات العربية عطلت عقد القمة الخامسة عامين كاملين .. وحين اجتمعت في نهاية عام تسعة وستين كان فشلها تاما وغير مسبوق ولا ملحوق في أي من القمم العربية .
وظلت حرب الدعاية مستعرة بين العرب، وظلت المواقف العربية متباعدة، وظلت الروح اليأس تفرق الإخوة وتنسيهم مصالحهم، وتعمي أبصارهم وبصائرهم عن الأخطار المهددة لهم جميعا وكانت مأساة سبتمبر "أيلول الأسود" عام سبعين قمة المعاناة العربية قبل حرب أكتوبر .
وكان على القيادة المصرية أن تعمل لتلافى هذه الحالة، وأن تبذل أقصى الجهد لدعم التضامن العربى قدر الإمكان ، والنأي عن مواطن الخلاف، والعمل على أساس المبادئ المتفق عليها، وقد حققت في هذا نجاحا كبيرا، وجاءت حرب رمضان الخالدة، وبقدر ما عرفت العرب بقوتهم ، وأعلت من روحهم، وبددت اليأس الذى ران على نفوسهم، وقعدت من عزائمهم، وقوّت من مركز الجاذبية مصر الذي يوثق روابطهم من حوله بقدر فاعليته - بقدر ذلك كله توحدت السياسة العربية، وزالت أسباب الضعف والهزيمة.
وبهذا التقت السياسة العربية حول الموقف المصرى السوري الموحد بعد خلاف، وانطلقت السياسة العربية موحدة متناسقة في الأمم المتحدة والعواصم الأجنبية ، وفى جميع المؤتمرات والمحافل الدولية .. وكانت مكاتب الجامعة في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا توافينا تباعا بهذه التحركات العربية الموحدة المتناسقة، وآثارها العظيمة التي تحارب وتنتصر في كفاءة وإيمان.
كان سفراء العرب بواشنطن يلتقون مع وزير خارجيتها يحدثونه بلسان واحد ، مثلما يلتقي إخوانهم بوزراء خارجية بريطانيا وألمانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي والصين وغيرهم من وزراء خارجية الدول الوسطى والصغرى ...
وفى هذا النطاق تعددت السياسات العربية قوميا ودوليا، وزالت الخلافات الفاشية حول القضية الفلسطينية وقضية تحرير الأرض العربية المحتلة ، لأن جر القوة والنصر لا يسمح لأمثال هذه الخلافات البيزنطية أن تنمو وتظهر، كما تجددت السياسة العربية المشتركة تجاه القوى العالمية المختلفة ... وتأكدت حتمية الالتزام بوحدة العمل العربي سياسيا ودفاعيا واقتصاديا ..
وحين اجتمع مؤتمر القمة العربي السادس بالجزائر في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) عقب حرب أكتوبر، كان أروع مؤتمرات القمة العربية .. ولم تكن روعته في استحداث جديد بديع ، وإنما كانت في تقنين واقع رائع.
لقد حدد السياسة العربية في معركة التحرير المنتصرة بداية بأنها تحرير الأرض العربية المحتلة فى عدوان يونيو "حزيران" عام سبعة وستين، واستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد لهذا الشعب العربي الباسل، وإقامة السلطة الفلسطينية الوطنية على الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها وإذا كان الأردن قد تحفظ على بعض العبارات الخاصة بفلسطين لأنه لم يلبث أن عاد إلى الإجماع العربي في مؤتمر القمة السابع بالرباط عام أربعة وسبعين .
وفى مؤتمر القمة بالجزائر أجمع العرب على بناء الوحدة الاقتصادية والتضامن في إزالة العقبات التي تعترض طريقها .
وفي هذا المؤتمر اتفق العرب على قواعد التعاون العربي الأفريقي الذي أكدته حرب رمضان ، كما اتفقوا على قواعد العلاقات العربية الدولية سواء بالنسبة لأوروبا أو القوتين الكبريين أو الصين أو الدول الإسلامية أو الدول الاشتراكية أو الدول النامية.
وكانوا في ذلك كله يسجلون الواقع العظيم الذي حققته حرب أكتوبر المجيدة في مجال العسكرية العربية والعمل القومي المشترك والعمل السياسي في مختلف المجالات الدولية..
في المجال الاقتصادي : في خريف عام اثنين وسبعين ، وفي إحدى الحفلات التي أقامها صندوق النقد الدولي تحدّث أحد كبار الاقتصاديين الغربيين معقبا فى إشارة إلى تصاعد العائدات البترولية العربية، فقال : إن العباءة العربية ستحل محل الإسموكنج الغربي في السيطرة على النظام النقدى العالمي.. ولم يلتفت العرب كثيرا لهذا التعقيب الذي يعرف بمقدراتهم أنهم لم يكونوا بعد قد عرفوا أنفسهم.. وطلع فجر العاشر من رمضان المجيد وأضاء الوطن العربي والعالم أجمع بنور ظهيرته الوضاء، وكان الاقتحام العظيم لقناة السويس والاستيلاء الباهر على خط بارليف والتقدم بخطى ثابتة صلبة في قلب سيناء .. وتنامي إرادة النصر التام فى غير غرور ولا صلف .. ومضى أحد عشر يوما هي أمجد ما في التاريخ العربي الحديث ، إذ كان العالم بأسره مشدود القلوب والأبصار والأسماع إلى هؤلاء العرب الجدد الذين استعادوا سيرتهم الأولى، ودان لهم علم النصر وأحسنوا استخدام قواهم العسكرية وحق لهم أن ينعموا بالتقدير والإعظام.
حينئذ عرفت الأمة العربية نفسها، والتفت حول النضال المصرى السوري المشترك ، وطوت صفحة سوداء لتبدأ صفحة ذهبية في سجلها التاريخى، وبدأت تتحرك في مسيرة عظيمة لم تكن تخطر لأحد على بال .. واعترفت المخابرات الغربية والشرقية بمفاجأة الموقف العربى البترولي الرائع لها ، مثلما فاجأها العبور المصرى العظيم للقناة والاقتحام السوري الجرىء للجولان.
وفى السابع عشر من أكتوبر المجيد ، اجتمع وزراء البترول فى السعودية والكويت والعراق وأبو ظبي والبحرين وقطر وليبيا والجزائر بحضور وزيريّ البترول في مصر وسوريا .. وتم الاجتماع بدعوة من مصر والكويت، مع الأخذ بوجهة النظر المصرية فى أن يتم الاجتماع في نطاق المنظمة العربية للدول المصدرة للبترول ، وهى تضم الدول العربية العشر السابق ذكرها .. وطرحت أحكام التأميم الشامل للشركات الأمريكية وغيرها من شركات الدول المساندة أو التي تساند إسرائيل، والموقف العربي الشامل لضخ البترول، وتحويل الأرصدة العربية المودعة فى بلاد تؤازر العدوان على العرب ...
لكن القرار الذي صدر - أو التوصية كما سميت - دل فى وضوح على التقدير الحق للقوة العربية والدولية ، وأن السياسة العربية قد برأت من عوامل الضعف والاندفاع والضوضاء، لقد تضمن هذا القرار ثلاث مقدمات قوية متواضعة، ذات فاعلية وتأثير دوليين
وهي :
أولا : حيث إن الهدف العربي من المعركة الدائرة تحرير الأرض العربية المحتلة، واستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني طبقا لقرارات الأمم المتحدة .
ثانيا: وحيث إن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي مكنت لإسرائيل، بتزويدها بالسلاح والمال وجميع المطالب، من التشبث باحتلال الأرض العربية عناداً واستهتارا .
ثالثا : وحيث إن زيادة إنتاج البترول العربي لا تبررها الأوضاع الاقتصادية العربية وأنها تفعل ذلك لمقابلة حاجات الدول المستهلكة التي تتعاطف وإياها، وهو أمر لا تزال الدول العربية حريصة على استمراره.
ومن بعد هذه المقدمات الصلبة جاء القرار العربي بما يأتي :
أولا : تناقص إنتاج البترول العربي بنسبة شهرية متكررة لا تقل عن خمسة في المائة ابتداء من شهر أكتوبر وإلى أن يتم تحرير الأرض العربية المحتلة ..
ثانيا : الاستمرار فى تقديم البترول إلى الدول التي لا تساند إسرائيل وإلى الدول التي تتعاون مع العرب في نضالهم المشروع لتحرير أرضهم المحتلة واستعادة الحقوق الوطنية التابعة للشعب العربي الفلسطيني بل إن الدول العربية على استعداد لأن تزيد ما تقدمه من البترول إلى الدول المتعاطفة معها في تأييد العدل الدولى طبقا لمواقفها..
ثالثا : أن تنال أمريكا من التخفيض العربي التدريجي للبترول أكبر قدر حتى يؤدى إلى قطعه نهائيا عنها..
وكان تنفيذ القرار ، وهو المحك الصلب للإرادة أروع من انهداره..
فجميع الدول العربية المنتجة قد أعلنت تباعا الموقف التام للبترول عن أمريكا ، واتخذت الإجراءات التنفيذية لذلك ، ولم تنتظر شهورا ولا أسابيع.. ولم يقتصر الخفض على خمسة في المائة، بل تجاوزها منذ البداية إلى ما بين العشرة والعشرين.. صحب هذا رفع أسعار البترول بنسبة بدأت بسبعين في المائة وانتهت إلى أكثر من ثلاثمائة في المائة ..
ويبدو أن بعض الدول الغربية ، وخاصة ذات التاريخ الاستعمارى في آسيا وأفريقيا ، لم تكن تحسب للإرادة العربية الجديدة حسابها..
فسلكت حكومة هولندا مسلكا نابيا ، بقيادة وزير خارجيتها مظاهرة تؤيد إسرائيل ضد العرب وقيادة الحكومة لحملة تبرعات مساندة لإسرائيل، وإبلاغ السفراء العرب بالتأييد الهولندى لإسرائيل واعتبار الحرب العربية حربا عدوانية، والمطالبة بعودة القوات العربية إلى حدود ما قبل السادس من أكتوبر .. وذلك باتباعها للموقف الأمريكي.
واجتمع سفراء الدول العربية لدى هولندا ،التي تتاجر عالميا في البترول العربي ويقوم عليه اقتصادها وغناها الفاحش .. قرروا
توصية الدول العربية بالنظر في قطع البترول العربي عن هولندا..
وأبرقت بتوصيتهم فور تلقيها مساء إلى الدول النفطية .. وكم كانت دهشتی حین جاءني في الصباح الباكر سفير هولندا بالقاهرة في حالة فزع ورجاء يؤكد أن هولندا ستعيد النظر في موقفها ، ويرجو أن تعيد الدول العربية النفطية النظر فى قرارها الليلة الماضية قطع البترول عن هولندا .
وتبذل الولايات المتحدة مساعي حثيثة وضغوطا شديدة ضد الدول العربية البترولية وخاصة السعودية .. ويأتي الجواب السعودي العربي حاسما قاطعا بأن لا استئناف لضخ البترول إلا بعد الجلاء الإسرائيلي عن الأرض العربية المحتلة واستعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية..
وتتوالى المواقف العربية صلابة وحكمة ، ويتضامن العرب في وحدة الإعلام والكلمة العربية ..
وتتبدل المواقف السياسية الدولية بالخارج تبديلا وتتحرك أمريكا، وإن في بطء ، وتؤيد الدول الغربية الحق العربي ، وتقطع الدول الافريقية العشرون المترددة علاقاتها بإسرائيل، وتعلو الكلمة العربية في اليابان وفى كل مكان ..
حقا إننا عجزنا عن تقنين العمل العربي المشترك الذي سعدنا به في أكتوبر العظيم ، كما ألمّت بنا الهزائم والنكسات المريرة بأيدينا ومن داخلنا، وتمكنت القوى الأجنبية المستغلة من تحقيق بعض مآربها المدمرة فينا..
لكن الحقائق الكبرى التاريخية لا تموت أبدا.. وستنهض أمتنا ، بإيمانها وعملها من عثرتها وتستعيد صوابها، وتستجيب لوحي أكتوبر المجيد ..