الجمعة 3 مايو 2024

وأرسل عليهم أبابيل غزة

مقالات11-10-2023 | 09:43

ولم يكن يُدرِك ذلك الطفلُ صاحبُ السنوات السبعة حين يقرأ نشرة الأخبار في الإذاعة المدرسية مُختالاً مُنغِّماً صوتَه بما يتناسب والخبر ؛ أقول لم يكن يدرك أيامَها ... لماذا يَسْتخِفُّه الفرحُ كلما قرأ خبراً عن إحدى عمليات المقاومة الفلسطينية المسلحة ؟!! كانت قوات (العاصفة) التابعة لحركة فتْح تُصدِر بياناتها تحت مسمى "العاصفة"، ولم يستطع ذلك الطفل آنذاك أن يجد عقلُه الأخضرُ تعليلاً أو مبرراً لهذا الشعور الجارف كلما قرأ خبراً من ذلك النوع ، أو أتيحتْ له قراءةُ  البيان كلما انفرد بتعليق أحد بيانات "العاصفة" في لوحة الإذاعة المدرسية ..؟!!       

أجلْ ..كانت صدورُنا مفعمةً بتلك المشاعر الفيَّاضةِ تجاه الأمة العربية من أقصاها إلى أقصاها متأثرين بوسائل الإعلام تتقدمها إذاعة "صوت العرب" صوت النضالِ العربي وتوعيةِ الشعوب العربية بحقوقها ،لقد سطع نجم "صوت العرب" في الخمسينات والستينات إذ كانت تبث فكرة الوحدة وتحارب الاستعمار الأجنبي للبلدان العربية ، ومدَّتْ المناهجُ الدراسيةُ مشاعرَنا الفيَّاضةً بالوقود الدافق ...!! وإلا فمن أعْلمنا بكارثة" زلزال أغادير" في المغرب وموقعة "ميسلون"..؟!!،ومن حبَّب إلينا تلك الشخصياتِ العظيمةَ : القائد السوري" يوسف العظمة "والمجاهد" عبد الكريم الخطابي" ضد الاستعمار الفرنسي والأسباني في المغرب ، والمقاوم الأمير"عبد القادر الجزائري" بل وضابط البحرية السوري "جول جمال" الذي تخرج في الكلية البحرية المصرية ، وحينما بدأ العدوان الثلاثي لم يرحل وشارك في إغراق البارجة الفرنسية العملاقة "جان بار" في معركة "البرلس" البحرية مخالفاً اللوائحَ العسكريةَ التي لا تسمح بخروج أجنبي في دورية بحرية ، لكنه أصرَّ على الخروج رفْقةَ قائده "جلال الدسوقي" لمواجهة البارجة العملاقة ، واستطاع تدميرها بعتادها وجندها قبل أن ينال الشهادة مختلطاً دمُه بدماء إخوانه المصريين مستحقاً لَقَبَ "سليمان الحلبي" القرن العشرين"..!! فكلاهما من حلب ، وكلاهما كافح الاستعمار الفرنسي ، وكلاهما نال الشهادة ...!! ولم ينْسَ ذلك الطفلُ -وقد تقدَّم به العمرُ- هاتين الدمعتين الحارتين المسرعتين دونما إرادةٍ منه كلما وصل إلى ختام القصة..!!                                                                                                                                                

أجل ... لقد نهلتْ قلوبُنا قبل أكوابِنا من أشعار "حافظ إبراهيم":(إذا ألَمَّتْ بوادي النِّيلِ نازِلَةٌ/باتَتْ لها راسِياتُ الشّأمِ تَضطَرِبُ) (وإنْ دَعَا في ثَرَي الأَهْرامِ ذُو أَلَمٍ/ أَجابَهُ في ذُرَا لُبْنانَ مُنْتَحِبُ) ، أقول ذلك وشاشات التلفاز تنقل لنا بثَّاً مباشِراً من المجازر الإسرائيلية التي تهدف إلى حرْق الأخضر واليابس ، واستئصال "غزة" من الوجود..! ، لقد سقطت الأقنعة مثلما قال "أحمد شوقي":(وَلِلمُستَعمِرينَ وَإِن أَلانوا/ قُلوبٌ كَالحِجـارَةِ لا تَرِقُّ) أجل ..إننا نوقن أن الثمنَ غالٍ لاسترداد ما سُلِبَ                                                                                                                                                                                         

(وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا/إِذا الأَحرارُ لَم يُسْقَوا وَيَسقُوا) فذلك هو الطريق الوحيد (وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا/وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ)رغم ما يجد البعض  استغراباً في استخدام لفظة "الضحايا" لكنها شاملة ما يُبذل أو يُضحَّى به في سبيل الغاية ؛ ليختم "أحمد شوقي" ببيتٍ يجري مَجْرَى المَثَل (وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ/بِكُلِّ يَدٍ مُضَـرَّجَةٍ يُدَقُّ)،أتمتم بذلك البيت وفي القلب لوعةٌ ألَّا أجد الآن من الشعر ما يواكب الكارثة ، وفي القلب حسرةٌ إذ أجد من شبابنا من لا يدري عن (جول جمال) إلا أنه شارع في منطقة "المهندسين" أو منطقة "رشدي" بالأسكندرية ليس إلا ..!! 

ولا أخفي إعجابي الشديد بقصيدة "رباعية غزّةَ " للشاعر المبدع" أحمد الخطيب" من ديوانه الأول (أصابع ضالعة في الانتشار)1985، ذلك الشاعر الرائي الذي وكأنه تسوَّر الغيب ، فالقصيدة كتبها أول الثمانينات وقت أن عانى الكفاح الفلسطيني تبعات الخروج من لبنان فأين كانت غزَّةُ؟!! ليخاطبها الرائع "أحمدالخطيب" هكذا :(تشجَّرَ قلبي ... وكان لغزّةَ وقع الخطى/وكان فتاها يجرِّبُ نسفَ الرهانِ القَصي) لتنثال الدفقة الأولى راسمةً مُفْتَتَحاً مدهشاً ، وكأن بصيرتَه ترى ما يحدث الآن ، وتأتي الدفقة الثانية آخذةً بطوْقِ المتلقي لا تدع له رفاهية الالتفات ( على حَجَرٍ تُرْضِعُ الأرضُ طفلًا... ليكبرَ ذاتَ نِزالٍ)، إن منمنمات اللوحة تشي بتمكُّن الشاعر فهذا المدد المستمر للكفاج ينشأ بعيداً عن الفُرُش الوثيرةِ ، وخبراتُه مستمَدةٌ من أبجدية الصراع (وخلف المنازل تربضُ وردةْ... تُعِدُّ الحياةَ لطفلٍ سيحملُ روحَ النزال السَّخي) لنرى في استخدام الفعل "تربض" ما يوحي بالكمون المُوقِعِ بالفرائس ، والطبيعة لا تتوانى عن دخول الصراع (وخلف الحصار الأخيرِ ستلقي الحواملُ نسغَ المخاض البهي/وخلف انشطار السكونِ ستبزغُ شمسُ النبيْ..!!) إنه اليقين بتبدل المشهد الراهن باستخدام أسلوب المفارقة (تربض وردة/الحصار .. المخاض/انشطار السكون) واليقين باستخدام الظرف (خلف) الذي لايسمح بفارق زمنيٍّ كبيرٍ يثبِّط الهممَ ويقتل الأمل !!                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                لنصل إلى محطة الشعر الأفريقي والشاعرة الإيفوارية "تانيلا بوني" وقصيدة من مجموعتها الشعرية (جلدي نافذة على المستقبل) ؛ إذ تنقل لنا صورةً صادمةً لصراعٍ فرَض ألوانَه وأدواتِه وظلالَه القاتلة التي يستحيل معها العيش في أمان وسلام ...!!

غيوم النهار تمزّق كلام القلب

السماء قماشةٌ ملتهبة

نخيلٌ ... وأضواءٌ خافتةٌ ... نوافذُ ... ورشّاشاتٌ غير متوقَّعَة

غيومُ النهار تستر الجفونَ ... و شوارعَ العالم

كي يأخذ الحلم دوره قرب الظلّ الذي لا ينتهي ..!!

 

Dr.Randa
Dr.Radwa