الجمعة 3 مايو 2024

في ذكرى رحيله.. نقرأ من مجلة الهلال رسالة طه حسين لنهضة الشرق العربي

طه حسين

كنوزنا28-10-2023 | 12:59

محمد جادالله

قدمت مجلة الهلال استفتاء لقرائها تحت عنوان «نهضة الشرق العربي وموقفه بإزاء المدنية الغربية»، وجاء ذلك في العدد الرابع لشهر يناير 1923م ، محملًا بجوابين لأستاذين فاضلين، أحدهما يقدمه الدكتور أنيس الخوري المقدسي، من أساتذة الجامعة الأمريكية في  بيروت، والثاني  للدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، أستاذا بالجامعة المصرية حينذاك، والذي نعرض خطابه للقراء بمناسبة ذكرى رحيله الخمسين ويصادف اليوم 28 أكتوبر 2023

جواب الدكتور طه حسين 

«أفهم جدًا أن تأتي مثل هذه الأسئلة في هذه الأيام التي نعيش فيها لأن الشرق العربي كله مضطرب اضطرابًا شديدًا لم يكن لنا به عهد من قبل فمن المعقول أن نسأل عن مصدر هذا الاضطراب وعن قيمته وعن نتيجته. ولسنا في حاجة إلى أن تعرف مصدر هذا الاضطراب فهو معروف. فالشرق يستيقظ من نومه وينهض بعد انحطاطه ويتحرك بعد هذا السكون الطويل، لسنا في حاجة إلى أن نطيل البحث عن مصدر هذا الاضطراب، ولكنا مضطرون إلى أن نتعرف قيمة هذا الاضطراب وخطر هذه النهضة.

أحق أن الشرق العربي ينهض وأن نهضته قيمة صحيحة قوية تستطيع أن تقاوم الخطوب وأن تؤتي من آنته النهضات في أوربا وأمريكا من الثمرات؟ أما أنا فلا أشك في ذلك بالقياس الى مصر وسوريا. ولكني لا أستطيع أن أجيب بنفي او إثبات في أمر غير مصر وسوريا من البلاد لان علمي بأمر هذه البلاد قليل.

لا أشك في أن النهضة المصرية والسورية صحيحة قوية منتجة،  ولا استدل على ذلك ألا بشيء واحد وهو أن هذه النهضة ليست بنت اليوم ولا أمس وإنما مضت عليها عشرات السنين، بل مضى عليها أكثر من قرن وهي تزداد في كل يوم قوة وثباتًا ونموًا وتناولًا لطبقات الشعب على اختلافها. ولو أنها نهضة متكلفة لما عاشت هذا الشعر الطويل ولما استطاعت أن تقاوم منتصرة حرب الأجنبي التي لم تخمد نارها لحظة منذ ابتدأ القرن الماضي.

هذه النهضة الصحيحة إذن، وهي عامة تتناول فروع الحياة جميعًا فهي: الحياة السياسية والاجتماعية والعقلية كما تتناول حياة العواطف والشعور. ومصر وسوريا في جميع هذه الفروع من الحياة تذهب مذهبًا واضحًا بينًا هو مذهب الاتصال المتين بالحضارة الأوربية. فسواء أراد المصريون والسوريون أم لم يريدوا فسيتصلون اتصالًا قويًا متينًا بأوربا في كل فرع من فروع الحياة،  هم يفكرون كما يفكر الأوربيون ويشعرون كما يشعر الأوربيون ويسعون إلى نظام سياسي كنظام الأوربيين. ولا بد من أن يتم هذا كله وأن تغمر الحضارة الغربية مصر والشام حتى يصبح هذان البلدان جزأين من أجزاء أوربا.

وفي الحق أن مصر والشام ليستا من هذه النهضة في منزلة واحدة؛ فقد تكون مصر أرقى من الشام نهضة سياسية وقد تكون أرقي من الشام من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية لأن وحدة مصر قد بقيت دائمًا موفورة لم ينلها فساد ولا تقسيم فكانت النهضة عليها أسهل وأيسر. بينما لقيت سوريا أهوالًا وضروبًا من العناء أفسدت عليها أمرها غير مرة واضطر السوريون إلى جهاد عنيف مؤلم لم يضطر إليه المصريون. فلعلنا لا ننسى أن الحضارة الأوربية قد عرضت نفسها على مصر فقبلتها مصر وأن أهل الشام قد هاجروا إلى أوربا وأمريكا يخطبون الحضارة ويتحيلون في اجتذابها إلى بلادهم وقد تكلفوا في ذلك خطوبًا وصروفًا وظفروا آخر الأمر، ولكن بعد عناء شديد.

مصر إذن أرقي من سوريا من الوجهة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن سوريا أرقي من مصر من وجهة الحياة المادية الجديدة. فالسوريون أحرار من هذه الجهة،  والمصريون محافظون. بينما يستطيع السوري في سهولة ويسر أن يقطع كل ما بينه وبين القديم من صلة وأن يصبح أوربيًا في حياته المادية والمعنوية يجد المصري في ذلك عسرًا شديدًا، ولقد تجلس في جماعة من شباب السوريين وفتياتهم فيخيل إليك أنك في جماعة أوربية خالصة.

ثم تجلس في جماعة مصرية من الفتيان – لا من الفتيات – فما تشك في أنك في بيئة مصرية شرقية خالصة قد أخذت من الحضارة الأوربية بنصيب. وإذن فسيكون الرقي المصري هادئًا بطيئًا مأمون العافية لأنه سيحتفظ بالشخصية المصرية دون أن يهمل المدنية الغربية. وسيكون الرقي السوري سريعًا مندفعًا خطرًا أشبه بالوثوب منه بالسعي وستكون عواقبه شديدة الخطر إن لم يجتهد زعماء السوريين في تنظيمه وتهديئه لأنه سيعرض الشخصية السورية للضياع والفناء في الحضارة الغربية.

أما تضامن مصر والشام فشيء لا شك فيه، ولكن الى حد، فمصر والشام شرقيتان تتكملان لكنة واحدة وتشعران شعورًا سياسيًا واحدًا أو متشابهًا على أقل تقدير ولكنهما ليستا حرتين، فأمامهما أوربا، وأروبا قوية جبارة ومنافع أوربا كثيرة مختلفة معقدة وكل ذلك يحول بين المتضامن الفعلي السياسي وبين هذين القطرين، وإذن فستنال الصلة بين مصر والشام متينة ولكنها لن تتعدى المنافع المادية والاشتراك في طريقة التفكير لك ،   وربما كان من الشعر المنكر أن يحاول المصريون والسوربون إيجاد صالات أخرى بين البلدين فإن ذلك يشري بهذين الصالات البلدين كيد أوروبا ومكرها. وستظل اللغة أهم الصالات بين مصر وسوريا، وذلك ظاهر لا يحتاج الى بحث ولا إلى استدلال.

من كل ما تقدم يظهر أن المصريين والسوريين مضطرون بحكم الطبيعة الاجتماعية والمنفعة الى ان يقتبسوا نظم الحضارة الغربية، ولكن هذا الاقتباس يجب أن يتفاوت قلة وكثرة.

فأما من الوجهة السياسية فيجب أن تمضي في ذلك مسرعين لا يقيدنا إلا شيء واحد وهو استعداد شعوبنا لقبول النظم السياسية المعتدلة أو المتطرفة. فالجمهوريات مثلًا ممكنة جدًا في سوريا ولعل نظامها مع شيء من الاعتدال أشد النظم ملاءمة لأحوالها السياسية، والدينية، والاجتماعية، والجغرافية،  وهذا النظام نفسه مستحيل خطر سيء العاقبة في مصر. فيجب أن تسلك مصر طريقها الملكية الدستورية على ان يكون دستورها أقرب الدساتير الى النظام الحر الذي تستمتع به البلاد الانجليزية.

وكذلك قل في العلم، فيجب أن تتدفع في الطريق العلمية الغربية اندفاعًا لا حد له إلا مقدرتنا الخاصة. لان العلم قد أصبح غربيًا خالصًا وليس لنا فيه نصيب قومي. وعلى العكس من ذلك في الفن والأدب والحياة الاجتماعية. قلنا فنوننا وآدابنا ونظامنا الاجتماعي. وواجبنا هو أن نحتفظ بشخصيتنا قوية واضحة في هذه الأشياء وألا نقتبس من أدب الغرب وفنه ونظامه الاجتماعي إلا ما يمكن شخصيتنا من أن تنمو وتتطور وتحتفظ بما بينها وبين العالم المتحضر من الاتصال»

ترك لنا الدكتور «طه حسين» هذا الجواب الشافي الكافي، لمعالجة الأمة العربية بما تعيشه اليوم من الأمراض الفكرية والاجتماعية، وحتى تتحسن الأمة العربية وتستنشق أنفاس عروبتِهَا.

Dr.Randa
Dr.Radwa