الخميس 2 مايو 2024

خمس دلالات على نهاية عصر العولمة

مقالات30-10-2023 | 18:21

ارتبطت العولمة بما عُرف بـ «إجماع واشنطن»، وهي عقيدة اقتصادية ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي بدعم من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ووزارة الخزانة الأمريكية كوصفة ناجحة للأسواق الناشئة في أمريكا اللاتينية من خلال تخفيف قيود رأس المال والاستيراد، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، وتحرير الاقتصادات المحلية، وفرض الانضباط المالي والسياسة النقدية التي تهدف إلى انخفاض التضخم.

روجت حكومات الاقتصادات المتقدمة لتلك السياسات خاصةً مجموعة الدول السبع الكبرى G7 باعتبارها وصفة للثراء، وفازت بقلوب وعقول الكثيرين في العالم النامي. وعلى الرغم من تدفقات رأس المال الهائلة التي حققتها العولمة بالأسواق الناشئة، إلا أنها تسببت في اندلاع أزمات مالية وركود حاد، لاسيما بعد الانهيار المالي العالمي في سبتمبر2008.

طرأت بعد ذلك مجموعة من المستجدات التي أحدثت تطورًا كبيرًا للمفهوم الشائع للعولمة؛ فلم تعد فكرة «العالم الواحد» أو «القرية الصغيرة» قائمة، كما كان الحال في الماضي، إنما حَلَّت محلها مصطلحات جديدة باتت تمثل تهديدًا لاستمرار العولمة مثل: التجارة الآمنة، والكيانات الاقتصادية الإقليمية، ودعم الحلفاء، وغيرها. ومن أبرز تلك المستجدات ما يلي:

أولاً: صعود القوميين والدعوة للانغلاق:

شهد العالم في الآونة الأخيرةظهور العديد من الحركات الشعبوية الداعمةلبعض الأفكارالمتعلقة بإعادة التوطين، والسياسات الحمائية، وترسيخ القوميات، ومنع انتقال الوظائف للخارج، بل وصل الأمر إلى استخدامتلك الشعارات للتأثير على الناخبين؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية - على سبيل المثال - ساهمت تلك الحركات في دخول الرئيس الأمريكيالسابق «دونالد ترامب» البيت الأبيض عام 2016من خلال الترويج لمثل تلك الشعارات خلال حملته الانتخابية كاعتباره أن العولمة هي السبب وراء سرقة المهاجرين للوظائف الأمريكية.

الحال نفسه بالنسبة لبريطانيا؛ حيث دفعت مخاوف العولمة الناخبين إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي رسميًّا عام 2021 تحت ما سُمي إعلاميًّا بـBREXIT إلا أن كان له تأثيرًا سلبيًّا على الاقتصاد البريطاني؛ حيث واكب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدء رفع القيود المفروضة على فيروس كورونا وزيادة طلب المستهلكين ووجدت بريطانيا نفسها تفتقر إلى بعض الوظائف كسائقي الشاحنات غير البريطانيين الذين واجهوا متطلبات تأشيرة مرهقة، الأمر الذي أدى إلى تخفيض سوق العمل إلى ثُمن الحجم الذي كان عليه سابقًا، ومن ثمَّ ارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق خلال العام 2021 - 2022 وبداية ظهور شبح الركود.

كذلك في أوروبا، تُعارض الأحزاب الشعبوية التجارة الحرة والهجرة؛ ففي فرنسا تعهدت زعيمة اليمين المتطرف «مارين لوبان»، خلال حملتها الانتخابية للرئاسة 2022، بتشكيل تحالف من اليسار واليمين للحد من التجارة وطرد المهاجرين، ورغم خسارتها في الانتخابات إلا أنه مازالت سياساتها تحظى بشعبية كبيرة داخل الأوساط السياسية في فرنسا.

وفي المجر، لم يُخفِ رئيس الوزراء «فيكتور أوربان»، الذي تم انتخاباه لأول مرة عام 2010 في ظل انتخابات ديمقراطية، نواياه المتعلقة بالوطنية؛ فقد أعلن في مقابلة إذاعية أنه من الواجب الأخلاقي لبلده رفض قبول اللاجئين أو طالبي اللجوء من خارج الاتحاد الأوروبي بموجب نظام الحصص الأوروبي.

ثانيًا: الحرب الباردة الجديدة وسياسة فرض العقوبات:

ارتبط التنافس الاقتصادي والجيوسياسي بين الولايات المتحدة الأمريكيةوالغرب، والصين وحلفائهابكافة النقاشات المتعلقةبالعولمة؛ حيثيتزايد خطر فرض عقوبات تجارية ومالية تؤدي إلى تفاقم تراجع العولمة، وهذا ما حدث بالفعلمع كوريا الشمالية، وإيران من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب مما دفعهما إلى التجارة فقط مع حلفاء غير رسميينكالصين، وروسيا.

والحال نفسه بالنسبة لروسيا؛ حيث أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى فصل روسيا عن الاقتصاد العالميعن طريق استبعاد معظم البنوك الروسية من نظام المدفوعات العالميSWIFT، كما صودرت احتياطات البنك المركزي الروسي.

ترتب على ذلك ارتفاع أسعار الطاقة والمنتجات الغذائية خاصةً وأن روسيا وأوكرانيا تعتبران من كبار منتجي ومصدري الغذاء العالميين، حيث تُعد روسيا أكبر مُصَدِّر للقمح ومن أكبر منتجي الأسمدة في العالم فيما تأتي أوكرانيا في المرتبة الخامسة. هذا بالإضافة إلى استحواذ روسيا وأوكرانيا على نسبة كبيرة من سوق تصدير زيت عباد الشمس في العالم.

لم يقتصر النقص في المواد الغذائية الأساسية وارتفاع أسعارها على البلدان ذات الدخل المرتفع فقط إنما شمل أيضًا البلدان النامية والناشئة، وقد يؤدي ذلك إلى حدوث مجاعات في الدول التي تعتمد بشكل كبير على واردات القمح والزيت بأسعار رخيصة.

على الرغم من العقوبات المفروضة على روسيا، زادت الصين والهند مشترياتهما من النفط الروسي من 1.7 مليون برميل يوميًّا في يونيو 2021 إلى ما يقرب من 2.8 مليون برميل يوميًّا في يونيو 2022. وفي الوقت نفسه ما زالت الدول النامية تعتمد على الحبوب والأسمدة الروسية، هذا بالإضافة إلى استمرار اعتماد العديد من الجيوش النظامية وغير النظامية على الأسلحة الروسية.

يعكس هذا الأمر التطور الكبير الذي طرأ على مفهوم العولمة، وهو ما أسمته وزيرة الخزانة الأمريكية «جانيت يلين» بسياسة «التجارة الآمنة ودعم الأصدقاء»، وتعني التركيز فقط على التجارة والاستثمار بين الأصدقاء والحلفاء بعيدًا عن المنافسين الاستراتيجيين؛ بهدف التقليل من المخاطر التي يتعرض لها الاقتصاد الأمريكي، وكذلك شركائها التجاريين الموثوق بهم.

ثالثًا: تغير المناخ وسياسات الأمن البيئي:

تحفز المعايير البيئية الدعوات العاجلة للحمائية؛ فمعظمالاتفاقيات التجارية التي توقعها الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا مع الأسواق الناشئة أصبحت مشروطة باتخاذ تدابير تستهدف مواجهة تغير المناخ؛ حيثتثير الأهداف الطموحة لخفض غازات الاحتباس الحراري صدامات مع الأسواق الناشئة كالصين، والهند اللتين من المتوقع أن تزداد انبعاثاتهما بتوسع اقتصاداتهما خلال السنوات القادمة، وفي هذا الخصوص اقترح الاتحاد الأوروبي وكذلك الكونجرس الأمريكي فرض ضريبة كربون حدودية حتى تتمكن الشركات الأوروبية والأمريكية من التنافس على قدم المساواة مع المنافسين في الأسواق الناشئة.

رابعًا: وباء كورونا وانعدام الثقة:

يشير البعض إلى أن العولمة كانت سببًا رئيسيًّالانتشار وباء كورونا بشكل أسرع، وكانت النتيجة أن تم فرض قيود قاسية على حركة الأشخاص؛حيث أصبح السفر إلى الخارج أمرًا مستحيلاً في وقت الأزمة، هذا بالإضافة إلى اختناق سلاسل التوريد العالمية وزيادة القيود المفروضة على حركة البضائع مما أدى إلى محاولة البلدان تحقيق المهمة المستحيلة المتمثلة في زيادة الاكتفاء الذاتي الوطني في السلع الأساسية.

وخلال ذروة الوباء، وتنافس الدول على توفير مستلزمات الوقاية ثم اللقاحات، تحطمت فكرة «العالم الواحد»لاسيما مع استيلاء بعض الدول على صفقات قفازات وأقنعة وجهبدلاً من مشاركة ما هو متوفر من مستلزمات.

أحدث وباء كورونا حالةمن انعدام الثقة حيث أصبح هناك توجس من اللقاحات بشكل عام ومن مصداقية المواصفات، والمعايير، والمقاييس لكثير من المنتجات كالرقائق الذكية أو المواد الأولية كالحديد، والألمنيوم، والنحاس، والمواد الزراعية التي انقطعت بأشكل متفاوتة؛ مما أدى إلى تأخر إيصال طلبات الدول والعملاء في المواعيد المتفق عليها الأمر الذي انعكس على علاقات الدول ببعضها البعضمما ولد حالة من الريبة والشك، تطورت بمرور الوقت إلى حالة شبه عدائية.

خامسًا: الكياناتالاقتصادية الإقليمية البديلة:

شهد العالم توقفًاللمفاوضات التجارية متعددة الأطراف، ولكن الصفقات التجارية الجديدة ما زالت مستمرة في الظهور، بما في ذلك اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشامل RCEPالذي يجمع بين 15 دولة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، هي: أستراليا، وبروناي،وكمبوديا، والصين، وإندونيسيا، واليابان،وکوريا الجنوبية، ولاوس، وماليزيا، وميانمار، ونيوزيلندا، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند، وفيتنام.

وكذلك الاتفاق الشامل والمتقدم للشراكة عبر المحيط الهادئ CPTPP الذي يضم 11 دولة، هي: أستراليا، وبروناي، وكندا، وتشيلي، واليابان، وماليزيا، والمكسيك، ونيوزيلندا، وبيرو، وسنغافورة، وفيتنام.كما أن عدد اتفاقات التجارة الإقليمية المطبقة واصل ازدياده منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ ارتفع بنسبة تجاوزت الضعف منذ عام 2008.

أيضًا من أبرز التكتلات الاقتصادية مجموعة بريكس BRICS، وهي تضم: البرازيل، والصين، وروسيا، والهند، وجنوب إفريقيا. تمثل دول المجموعة أكثر من 40% من سكان العالم، وحوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أنها تساهم بأكثر من 50% في النمو الاقتصادي العالمي.تبلغ حصة المجموعة من التجارة العالمية نحو 17% واحتياطاتها تبلغ ما يزيد على أربعة تريليونات دولار.

وفقًا لبيانات من المكتب الوطني للإحصاء في الصين، ارتفعت التجارة الثنائية لبكين مع دول البريكس عام 2021 إذ بلغ مجموعها أكثر من 490 مليار دولار بزيادة 39.2% على أساس سنوي، لتتضاعف عما كانت عليه قبل خمس سنوات.

في عام 2021 بلغت التجارة بين الصين والبرازيل حوالي 164 مليار دولار بزيادة 35% على أساس سنوي. وأصبحت الصين الشريك التجاري الرائد للبرازيل في العقد الماضي ومن بين أكبر خمس دول تتدفق منها الاستثمارات الأجنبية المباشرة للبرازيل.

 في ضوء ما سبق ذكره، يمكن القول إن بداية الحديث عن تراجع العولمة كانت مع الانهيار المالي الذي شهده العالم عام 2008، وما أعقبه من أحداث رسَّخِت من فكرة حتمية الانغلاق مما جعل البعض يتنبأ باقتراب نهاية عصر العولمة،ومن أبرز تلك الأحداث وباء كوروناالذي اعتبر البعض سرعة انتشاره نتيجة طبيعية للعولمة.

كذلك الخروج الرسمي لبريطانيا عن الاتحاد الأوروبي عام 2021 وصعود القوميين للسلطة وارتفاع أصواتالخطابات المناديةبرفض التجارة الحرةوالمهاجرين.

أيضًا الحرب الباردة الجديدة وما ترتب عليها من فرض عقوبات اقتصادية أدت إلى عزل بعض الاقتصادات عن الاقتصاد العالميكروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران، مما دفعهم إلى استحداث سياسة تجارية جديدة لاقت استحسانًا أمريكيًّا وأوروبيًّا هي «سياسة التجارة الآمنة ودعم الأصدقاء».

هذا بالإضافة إلى تدابير مواجهة تغير المناخ التي أصبحت شرطًا أساسيًّا لمعظم الاتفاقيات التجارية التي توقعها الدول الكبرى مع الأسواق الناشئة.

وأخيرًا اتجاه الدول نحو الشراكات الاقتصاديةالإقليمية كبديل عن المفاوضات التجارية متعددة الأطراف، ومن أبرز تلك الشراكات مجموعة «بريكس» التي يعتبرها البعض بديلاً للعولمة.

باحث بمكتبة الإسكندرية

Dr.Randa
Dr.Radwa