الخميس 16 مايو 2024

مصر والطريق إلى حقن الدماء

الكاتب الصحفي أحمد أيوب

3-11-2023 | 20:36

بقلم: أحمد أيوب
عندما تعلن مصر أن فلسطين هى قضية القضايا بالنسبة لها، فليس هذا من قبيل المزايدة أو مغازلة الأشقاء، فمصر لا تلعب مثل هذه الأدوار ولا تمارس أفعال الصغار الذين احترفوا الجهاد التليفزيونى عن بعد، ومساندة القضية بالبيانات وبعض المظاهر الخادعة، مصر منذ البداية فى قلب القضية، تعمل على الأرض ولا تتخلى عن مسئوليتها، لا تتعامل بمنطق المكاسب السياسية من وراء فلسطين مثلما يفعل آخرون، كما لا تتعامل مع القضية بشكل موسمى، فى الأزمات فقط، وإنما هى حاضرة دائمًا فى أجندة الأولويات المصرية، لأن جزءًا من العقيدة والإيمان المصرى هو الدفاع عن وجود دولة فلسطين العربية المستقلة، وعلى مدى سبعين عامًا تقريبًا لم يخرج عن هذا المبدأ رئيس مصرى واحد، عدا بالطبع المندوب الإخوانى محمد مرسى الذى كان على وشك البيع الكامل للقضية وتمزيق ملفاتها وقبض الثمن، لولا ثورة 30 يونيو وإسقاطه هو وجماعته الخائنة. إذًا فلسطين بالنسبة لمصر ليست مجرد ملف ينال اهتمامًا ولا قضية للحديث وإطلاق الشعارات، ولا درجة سلم تصعد عليها كى تحقق مصالح سياسية واقتصادية على حساب دماء الشهداء والأبرياء، لو كانت مصر تريد أن تسلك هذا الطريق كما يفعل البعض، لحققت من المكاسب ما لم يكن أحد يستطيع تحقيقه، ليس فقط فى الأزمة الأخيرة بل منذ سنوات طويلة، لكنها ارتضت أن تدفع الثمن سياسياً واقتصادياً، فى سبيل أن تظل مدافعة عن فلسطين وحقوق شعبها المشروعة، وحتى هذه اللحظة تقف مصر أمام جبل ضخم من المغريات التى تزيغ أعين أضخم الدول ومعه كثير من الضغوط، من أجل أن تقبل بمخطط تصفية القضية ولو بشكل غير مباشر، لكنها رفضت وتمسكت بمبادئها وثوابتها التى تحافظ على الحلم الفلسطينى فى إقامة الدولة المستقلة على أرضه، وعندما نجد التأكيد القاطع على لسان الرئيس السيسى فى كل اتصال أو لقاء مع أحد القادة الدوليين والإقليميين وكذا مع الرئيس الأمريكى أنه لا قبول بتصفية القضية ولا بالتهجير القسرى للأشقاء عن أرضهم، فمعنى هذا أن الأمر ما زال مطروحا بالفعل، وهناك ضغوط تُمارس بلا توقف ومغريات تُقدم بطريق أو بآخر من أجل تنفيذه، وأن الدولة المصرية صامدة ورافضة لهذا الأمر بكل وضوح، ورغم أنه ليس كل ما يُقال أو يُناقش فى الغرف المغلقة يُعلن، لكن الإشارات بين السطور واضحة ومفهومة، وحتى لو صدرت تصريحات من قادة ومسئولين غربيين تؤكد عدم قبولهم لتهجير الفلسطينيين فإن أغلبها كما نعلم جميعا تصريحات إعلامية لا تعنى شيئًا، ولا تعبر عن الموقف الحقيقى لهذه الدول التى تتمسك بخطة دولة الاحتلال الإسرائيلى على كامل الأرض الفلسطينية، والعقبة الأكبر أمامهم هى مصر وقيادتها السياسية التى ترفض تمامًا السماح أو الموافقة على هذا القرار الشيطانى، رغم أن قوى ودولًا إقليمية وافقت عليه وقبلت تمريره فى الغرف المغلقة، بل وتعهدت بدعمه وإن كانت تتظاهر بغير ذلك فى العلن. ورغم أن مصر تتحمل تبعات كثيرة لموقفها الرافض لهذا المخطط، وتتعرض لحملات وضغوط غير مسبوقة، وبعضها للأسف بمعاونة من دول المفترض أنها تدافع عن القضية الفلسطينية، لكن مصر تصرّ على التمسك بثوابتها. لكن الغريب أنه بدلًا من أن تجد مصر مساندة لموقفها هذا من الأشقاء وتقديرًا للجهود التى تبذلها منذ اليوم الأول لدعم القضية الفلسطينية وإيقاف العدوان الغاشم ضد الشعب الفلسطينى والإصرار على إدخال المساعدات الإنسانية لأبناء غزة، بمعدلات تفوق كل ما قدمته دول العالم يحدث العكس ونجد بعض الفلسطينيين يتجاهلون عمدًا ما تقوم به مصر من جهد على المستوى السياسى والدبلوماسى والإنسانى، بجانب موقفها الحاسم فى رفض تصفية القضية والتهجير، ويصرون على تحميلها كل تبعات الأزمة، بل ويصل الأمر ببعضهم إلى ترويج ادعاءات مغلوطة ضد مصر، وهى فى الحقيقة أكاذيب، تقف وراءها جماعات وتنظيمات معلومة ولا هدف لها سوى تشويه مصر وقيادتها، بل الأكثر من ذلك أن هؤلاء الذين يزايدون على مصر لا ينظرون إلى فلسطين باعتبارها أولوية عندهم حتى وإن ادعوا الجهاد فى سبيلها، ولا يفكرون فى الدولة الفلسطينية أصلا لأن لديهم مشروعًا أكبر من ذلك، وهو الخلافة، ومن أجله يستخدمون القضية الفلسطينية كوسيلة ليس أكثر، وهذا ما اعترفوا به صراحة، مثلما اعترفوا بأنهم أحيانا يلجأون إلى التضحية بدماء بعض الأطفال والأبرياء من أجل تسخين الأوضاع. ومع كل ذلك ومع إدراك مصر لكل هذه الأفكار، لكنها تترفع عن الرد على هذه الإساءات المتعمدة والتى تعرف أهدافها، كما تأبى أن ترهن موقفها من القضية الفلسطينية على أساس موقف بعض أصحاب الأجندات الخاصة والمزايدين، أو حتى بعض التصرفات الصغيرة من تنظيمات أو عواصم، وإنما تتعامل مع فلسطين باعتبارها قضية مصر الأولى، وتتحرك فى سبيلها بكل ثقلها السياسى والدبلوماسي؛ سعيا لحصول الفلسطينيين على دولتهم المستقلة التى يحلمون بها وفق قرارات الشرعية الدولية، وفى سبيل ذلك تتحمل مصر الكثير، وتنفتح على كافة الأطياف والفصائل الفلسطينية، وتتحاور معهم، وتحاول التوصل إلى نقاط تلاقٍ تسهم فى لمّ الشمل الفلسطينى، فيما تلعب بعض الدول الإقليمية على التناقضات من أجل تحقيق مصالحها. وأعتقد أنه إذا سأل كل فلسطينى مخلص لقضية بلاده نفسه، منْ الأكثر انشغالًا بالقضية وتضحية فى سبيلها ورغبة فى تحقيق الحلم الفلسطيني؟، فسوف تكون الإجابة الأكيدة هى مصر، لأن هذا الواقع فعلا، ولو كانت مصر من الدول التى تحترف المزايدة بالمواقف والمتاجرة بالقضية أو تحترف شراء الرضاء والولاء من البعض لكان الوضع مختلفًا، لكن فى زمن الراقصين على جثث الأبرياء وخونة الأوطان لا مجال للحديث عن مبادئ، ولا مساحة لطرح الثوابت، وإنما علينا العمل بما تمليه علينا مسئولياتنا التاريخية ودورنا تجاه الأشقاء، وهذا ما لجأت إليه مصر التى بطبيعتها تدرك دورها وتعرف معنى الأمن القومى العربى وقيمة التراب الوطنى والثوابت التى لا تتهاون فيها، وفى الأزمات تظهر قوتها الحقيقية وتأثيرها ويتبدى دورها بوضوح ويتأكد الجميع أنه لا أحد يستطيع القيام بهذا الدور. صحيح قد نجد أدوارًا من عواصم ودول مختلفة، منْ يتوسط ومنْ يتبنى طرحًا للحل ومنْ يقدم مساعدات ومنْ يتواصل لتحقيق التهدئة، لكن الدور المتكامل القادر على الحوار والتوصل إلى حلول حقيقية وإنجاز خطوات جادة فى طريق التهدئة وعودة الاستقرار لا يمكن أن تقوم به غير مصر، مهما زايد البعض، وهذا ما أجمع عليه كل خبراء السياسة الدولية والاستراتيجيون فى الغرب وليس فى مصر، بل وصل الأمر ببعض كبار المحللين والمفكرين الغربيين إلى مطالبة واشنطن والدول الغربية صراحة بإعادة النظر فى علاقاتهم بالقاهرة والقيادة السياسية المصرية، وضرورة التخلى عن محاولات استهداف مصر، والتحول إلى دعمها، والحفاظ على استقرارها وقوتها، لأنه ثبت بالدليل القاطع أنها الدولة الوحيدة القادرة على تحقيق الاستقرار فى الشرق الأوسط ولا بديل لها ولا مجال لتهميشها. ويؤكد هذه الرؤية حرص قادة ومسئوولى الدول الأوربية والقوى الدولية والإقليمية على التواصل المستمر مع القيادة المصرية والتباحث مع الرئيس السيسى حول طرق الحل للأزمة، ويكفى أن الرئيس الأمريكى تواصل مع الرئيس السيسى ثلاث مرات منذ بدء الأزمة وفى المرة الأخيرة وضح أنه تفهم الموقف المصرى الثابت ودورها الإيجابى الذى لا غنى عنه وأقر بذلك مجدداً مثلما أقر به أيضاً كل القادة الأوربيين. هذه الشهادات والمواقف المتغيرة لم تكن لتظهر إلا لأن العواصم الغربية والمتخصصين فى شأن الشرق الأوسط أدركوا فى ظل الأزمة والتصعيد المتوالى أنه مهما كانت التحركات الإقليمية والدولية، تبقى القاهرة هى المفتاح فى القضية الفلسطينية باعتبارها معضلة المنطقة، بالإضافة إلى الدور المصرى فى كلّ قضايا الشرق الأوسط والثقل والثقة اللذين تحظى بهما مصر وقيادتها، ما يجعلها مؤهلة للعب الدور الأهم فى الاستقرار الذى أصبح الغرب يعى أهميته فى المنطقة. هذا هو الدور المصرى والقوة التى تمتلكها القاهرة، وهذا هو ما أكدته الأزمة الأخيرة، وستظل مصر متمسكة بثوابتها تجاه القضية الفلسطينية مهما كانت الظروف، لأنها لا تسعى سوى لحق الشعب الفلسطينى، فلا مجال للمزايدة عليها ولا يمكن الإنتقاص من دورها، والأفضل لكل العواصم أن تبنى على ما تنجزه القاهرة فى هذه الأزمة حتى نصل إلى حلول حقيقية تنقذ الأبرياء وتحقن دماء الأشقاء.