الأحد 12 مايو 2024

عندما اعتصم المثقفون بوزارة الثقافة

صورة أرشيفية

7-11-2023 | 18:09

بقلم: يوسف القعيد
منْ يذكر تلك الأيام رغم مرور عقد كامل من تاريخ مصر على وقوع الحدث فى أرض الواقع. عشر سنوات مرت على هذا الحدث الجليل ونحن ننعم كل صباح بنتائج هذه الثورة النادرة والمهمة فى أى لحظة تمر علينا. وذلك هو حال الأزمنة العبقرية التى يكون لها ما قبلها وما بعدها. يختلف الحال بينهما بمسافة يُمكن أن تصل الأرض بالسماء. عُدت إلى أوراقى وحاولت النبش فى ذاكرتى لكى أصل إلى حكاية ما جرى قبل عشر سنوات. وكان من مُقدمات ثورة 30 يونيو 2013، التى أطاحت بالجماعة الطاغية الباغية من حُكم البلاد، وطهَّرت مصر منهم. وعندما أقول مصر فأنا لا أقصد القاهرة، ولكن مصر التى تبدأ من شواطئ البحر الأبيض المتوسط شمالاً. وشواطئ البحر الأحمر شرقاً. وحدود ليبيا غربا. وحدودنا مع السودان الشقيق جنوباً. عندما اتصل بى الصديق خالد يوسف المخرج السينمائى المعروف، وصاحب أهم مسلسل عُرِضَ فى رمضان الماضى بعنوان: سره الباتع. المأخوذ عن إحدى قصص الدكتور يوسف إدريس. ودخل فى الموضوع مباشرة وقال لى إن وزير الثقافة الحالى “لازم يمشى” ولا بد من فعل قوى فى مستوى الحدث. لهذا قررنا أن نمهله ثلاثة أيام لتقديم استقالته أو أن يقوم رئيس الوزراء فى ذلك الوقت الدكتور هشام قنديل بإقالته. سألته: وبعد الثلاثة أيام؟ قال لى بهدوء لا يتناسب مع خطورة الكلمة: سنقتحم الوزارة وسنعتصم بها لحين رحيله. عدت أسأله: ألا يوجد حل آخر غير اقتحام الوزارة؟ قال لى: لا يوجد. وقبل أن يعطينى مهلة لتفكير جديد. أكمل: أنه سيتصل بى لاحقاً ليحدد لحظة الاقتحام. خُيِّل إلىَّ وأنا أستمع إلى هذا الكلام أن خالد يوسف يتصرف فى الحياة كمخرج. يأمر فيطاع. يقول ستوب فيتوقف كل ما فى الاستوديو. وأنه ربما لا يعنى كلماته بدقة. وربما كان خالد يوسف بكلامه عن الاقتحام ينفذ استراتيجية القائد العسكرى الألمانى الداهية: روميل. عندما قال إن التلويح باستخدام القوة قد يكون بديلاً لاستخدامها فى أرض الواقع. قلت لنفسى ربما وصل خالد يوسف لآخر المدى كلاماً. لأن هذا الكلام قد يعفيه من اللجوء لاستخدامه. ويعفينا أيضاً من مسألة اقتحام وزارة الثقافة. فكرة خطيرة وأنا عن نفسى استهولت الفكرة. كيف نقتحم وزارة الثقافة ثم نعتصم فيها إلى أن يتقدم وزير الثقافة باستقالته وهو لن يفعل هذا؟ وربما يفضل أن يموت ولا يفعله. أو أن تقوم الدولة الإخوانية بإقالته. وأنا متأكد أن رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل لا تعنيه جماعة المثقفين فى قليل أو كثير. وأيضاً فإن الرئيس الإخوانى محمد مرسى أو مندوب الجماعة إياها فى قصر الرئاسة لا يفكر كثيراً فى المثقفين. ومن ورائهم جميعاً فإن الجماعة الإرهابية تعتبر نفسها فى حالة صدام دائم ومستمر مع الأدباء والمفكرين. إن شعار الجماعة هو نفس شعار جوبلز وزير إعلام هتلر الشهير الذى قال فيه: كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسى. وهو نفس المبدأ الذى حكم تصرفات هذا الوزير منذ أن جاء إلى الوزارة. وقد أكمل أكثر من شهر وهو لم يفعل سوى التهديد والوعيد لكل الناس. بل وفصل معظم قيادات الوزارة فصلاً تعسفياً. وأتى بإخوان ليتولوا مؤسسات فى وزارة الثقافة. وهو الفعل الذى لم يكن يجرؤ وزير ثقافة إخوانى أن يقوم به. إن كان فى مصر وقتها ستة عشر حزباً دينياً تُشكل أطيافاً كثيرة قد يختلفون حول أمور متنوعة. فإن الأمر الوحيد الذى يتفقون عليه ويلتفون حوله هو العداء الشديد لكلمة مثقف. ورفض المفردات التى يتكلم بها المثقف. مثل حرية التفكير، حرية الإبداع، حتى كلمة الخلق التى يطلقها المثقف على عملية الكتابة ينظرون إليها على أنها نوع من الشرك لأنه لا يخلق فى الدنيا كلها إلا الله سبحانه وتعالى. وما إن يقرأها أحدهم حتى يستغفر الله ويصلى على النبى ويطلب الهداية لمن كتب الكلمة. مفهوم البطولة فكرت فى الأمر طويلاً. ولا أدعى أننا من فرسان هذا الزمان. فلم أقدم على أفعال عنيفة فى حياتى السابقة. ولم أدخل السجن. وكانت هذه العبارة وما زالت وأعتقد أنها ستظل دليل اتهام يستخدم ضدى. باعتبار أن دخول السجن - علامة على البطولة المطلقة الناتجة عنه – فهو شهادة لمن يدخل السجن بأنه رفض. ورفضه أدخله السجن. ومن لا يدخل السجن لا بد أن يكون مع النظام. هذه فرضية من أدبيات المراهقة السياسية التى عانينا وما زلنا نعانى منها حتى الآن. لأذهب إلى ما أريد كتابته مباشرة. إنها قضية البسالة فى مواجهة المواقف الصعبة. أو ربما التأرجح بين الخوف والشجاعة فى لحظة الاختيار الحاسمة. وأنا شغلتى الكتابة ومهنتى التفكير وقضية عمرى الأساسية التأمل فى حال الواقع. لذلك فربما كنت فى دنيا الأفعال متأخراً عمن لا يستخدمون عقولهم كثيراً فى التفكير. وأُخْضِعْ أى فعل أقوم به لقدر كبير من التفكير. والأخذ والعطاء. وطرح كل وجهات النظر المختلفة ولعب دور محامى الشيطان أحياناً. والوقوف فى صف الملائكة أحياناً أخرى. لدرجة أن العبارة التى أحفظها عن ظهر قلب هى الجملة التى يرددها هاملت فى المسرحية التى تحمل اسمه: أكون أو لا أكون، تلك هى المسألة. والجملة التى تليها هما بيتان من الشعر كتبهما ت إس إيليوت عندما قال: بين التفكير والفعل يسقط الظل. ولو كنت قد قمت بالاستعداد الذى أقوم به عادة قبل كتابة المقال لاستحضرت أبيات شعر كثيرة جداً لصلاح عبد الصبور تقوم على الثنائية بين التفكير والفعل. قرارٌ فردى لم أتناقش فى الأمر مع ابنتى رباب ولم أتصل بابنى أحمد فى كندا لكى آخذ رأيهما. لأننى أعرف نظرتهما للتظاهر وللأعمال العنيفة وحرصهما على حياتى. وهى مشاعر أبناء طبيعية للغاية. قلت لنفسى فلأتخذ قرارى وليكن ما يكون. ورغم رنين هذه العبارة فى عقلى. إلا أننى كنت متردداً. حاولت عقلنة فكرة اقتحام وزارة الثقافة. قلت لنفسى: ألا يعد هذا فعلاً من أفعال العنف؟ وكيف نقدم عليه ونحن نشتغل بالفكر؟ ونهتم بالخيال؟ ونعانق المستقبل؟ ونحلم بالآتى نيابة عن كل المصريين، ربما كل العرب، وجميع المسلمين، بل العالم كله؟. أعرف أن العنف أحياناً قد يكون مبرراً، ولكن ماذا عن الجماعة الطاغية الباغية التى تُمارس العنف كل صباح ضد المصريين جميعاً؟. وما زلت أذكر أن جمال حمدان المستشهد قبل عشرين عاماً كان فى سنوات عمره الأخيرة يردد أمامى عبارة كنت أستهولها منه. لكنى كنت أستمع إليها وأراها منطقية بالنسبة لتكوينه الشخصى وللعزلة التى يعيش فيها ولنظرته للدنيا. كان يقول دائماً وأبداً: إن قليلاً من العنف يمكن أن يشفى المعدة المصرية. وكان يضيق ذرعاً بى عندما أناقشه فى العنف المشروع والعنف غير المشروع. وأفرق بين العنف الذى تقف وراءه أيديولوجية فكرية وبنيان إنسانى. وبين العنف الذى يمكن أن يُمارَس من أجل العنف فقط. دون أن يكون وراء ممارسته أى هدف كان. كان يقول لى بحسم الجنرالات الذين يقودون المعارك الكبرى: العنف هو العنف. ونحن فى أمس الحاجة لهذا العنف حتى نستأصل حالة الرخاوة التى أصابت الشخصية المصرية والاستسلام لمعطيات الواقع الذى يعيشه المصرى كأنه قدر من أقداره. لكن من رحمة الله بجمال حمدان أنه رحل عن عالمنا قبل سنوات. ولم يرَ ما رأيناه. ولم يسمع ما استمعنا إليه. ولم يعاصر ما كتب علينا أن نعاصره. فها هو العنف يا صديقى الشهيد جمال حمدان يطالعنا فى كل لحظة. نخشى الخروج من بيوتنا لأن العنف وراء الأبواب. نهاب النظر من نوافذنا لأن العنف يوشك أن يدخل منها إلى عقر دار كل منا. عندما يأتى الليل نتصور أنه لن يكون ثمة نهار بعده. لأن العنف يتجول فى الشوارع والحوارى والأزقة براحته طول الليل. لماذا أريد أن أكون رحيماً معهم. فالعنف يتجول نهاراً ويمرح ليلاً. وتلك سمة أساسية فى حكمهم الباغى الطاغى الأثيم.