الخميس 9 مايو 2024

المقاطعة.. وعى وذكاء

الكاتب الصحفي أشرف غريب

12-11-2023 | 15:28

بقلـم: أشرف غريب
كلما زادت وتيرة الهجمات الإسرائيلية المتلاحقة على الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، ارتفعت فى الشارع العربى نبرة الحديث عن مقاطعة المصالح الغربية وخاصة الأمريكية كحد أدنى من رد الفعل الشعبى تجاه الدعم اللامحدود الذى تقدمه دول الغرب للسياسة الإسرائيلية فى المنطقة، وهو موقف شاهدنا مثله فى مناسبات سابقة على النحو الذى حدث مع كل انتفاضة فلسطينية، أو إبان التدخل الأمريكى فى العراق عام 2003. وفى غياب أرقام دقيقة غير مدفوعة بالحماس الوطنى لا نستطيع للأسف تقييم الآثار الاقتصادية التى أحدثتها موجات المقاطعة السابقة على اقتصادات تلك الدول الداعمة لإسرائيل، لكننى أميل إلى محدوديتها بل إلى عدم وجود أية آثار، وإلا لكانت هذه الدول قد استوعبت الدرس فى كل مرة، وأعادت النظر فى سياستها الداعمة لإسرائيل بصورة تلقائية ومستمرة، وفى تقديرى فإن هذا الأثر المحدود يعود إلى أمرين: أولهما أن المقاطعة العربية حتى على مستوى الشعوب لا تكون بشكل كامل أو صارم، فكثير من الشعوب العربية ذات القدرة الشرائية الهائلة والمؤثرة لا تلقى بالًا بهذا الأمر، ومن ثم لا تغير شيئًا من عاداتها الشرائية أو مواقفها من المصالح الغربية، ربما لكونها شعوبا اعتادت على النمط الاستهلاكى فى ظل اقتصاد الوفرة، فباتت ليست مستعدة للتنازل عن شيء من رفاهيتها من أجل قضية يرون أنفسهم غير معنيين بها، أو على الأقل غير مستعدين لدفع ثمن موقفهم المؤيد للقضية الفلسطينية من نمط حياتهم المعتاد، ويكفيهم فقط القول الدائم والمستمر بإيمانهم بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، فقط مجرد قول ولا تنتظروا منهم أو تطلبوا شيئًا خلاف ذلك. الأمر الثانى أنه حتى هذه الشعوب التى ترفع شعار المقاطعة وتؤمن به إيمانًا حقيقيًّا لا تقاطع المنتجات الغربية الثقيلة ذات الأثر المباشر على اقتصادات دولها، وإنما تقاطع منتجات وسلاسل و«براندات» يستثمر فيها رجال أعمال بعضهم مصريون، ومن ثم هم الذين يقع عليهم الضرر المباشر الذى تكون نتيجته فى النهاية هروب رأس المال وتراجع حظوظ الاستثمار فى مصر مثلا، فضلا عن تأثر ملايين المصريين الذين يعملون فى هذه المشاريع دون ذنب أو جريرة، وقد قال لى أحد هؤلاء إن المقاطعين لا يستوعبون أو ينتبهون إلى أمر قانونى مهم، وهو أن المستثمر المصرى أو حتى العربى والأجنبى الذى يستثمر فى «براند» عالمى تنقطع صلته تماما بصاحب الترخيص الأصلى بعد خمس سنوات من بدء نشاط المشروع وفق شروط ومعايير اقتصادية وقانونية متفق عليها، ويصبح المشروع المقام على أرض مصر من حيث الإدارة والأرباح والولاية الضريبية مصريًا كاملًا، وهو الذى يقع عليه الضرر جراء تلك المقاطعة، وليس الطرف الأجنبى المالك الأصلى للاسم التجارى. وعليه فإن المقاطعة يجب أن تكون رشيدة وواعية، تفرق بين ما أصبح منتجاً مصريا أو عربيا وبين ما هو منتج أجنبى أصيل، إننى لا أقول لأحد توقف عن المقاطعة، وإنما أدعوه لأن يكون مقاطعا ذكيا، قاطع مثلا السيارات والأجهزة الكهربائية والمنزلية المستوردة غير المصنعة محليا، قاطع المنسوجات الواردة من هناك، قاطع إن استطعت المكون الأجنبى فى بعض الأدوية التى يتوفر لها بديل محلى مناسب، قاطع السياحة فى تلك الدول، قاطع حتى الأفلام الأجنبية ولو بصورة مؤقتة، لا تدفع فيها نقودا، فهى صناعة مهمة لا يُستهان بها، دع دافع الضرائب هناك – وأقول هناك – يعجز أو يكاد عن تمويل آلة الحرب الإسرائيلية، كف يدك عن أى شيء يمكن أن يدعم عملاتها وابحث عما يساعد عملة بلدك ربما تستعيد عافيتها قريبا. لقد أثبتت الرغبة الصادقة فى المقاطعة حتى لو كانت ليست بالوعى الكافى قدرة المواطن على الاعتماد على المنتج المحلى الخالص، وكم من مصانع استعادت نشاطها وعادت للعمل بكامل طاقتها، وكم من ماركات كنا نعتبرها فى الماضى فخر الصناعة المصرية عادت إلى صدارة المشهد من جديد فى الأسابيع الأخيرة، وهذا يعود بالنفع المباشر على الاقتصاد المصرى وعلى عملة بلدك. إن الأفلام المصرية القديمة تحدثنا عن زمن كان فيه الدولار الأمريكى أقل قيمة من الجنيه المصرى، وقت أن كان نمط حياتنا لا يعتمد على الانفتاح الاستهلاكى، رغم أننا فى كثير من الأوقات كنا نعيش فى ظل اقتصاد حرب. إننى أدرك بالتأكيد الفوارق بين كل التجارب التى عاشتها مصر، وأعى تماما مقتضيات الواقع الحالى، وأن ما كان يحدث فى السابق لا يمكن استنساخه حاليا، لكن يمكن على الأقل استلهامه والاستفادة منه، والتأسيس على ما يمكن التأسيس عليه، الأمر بحاجة إلى إيمان حقيقى بالفكرة وإلى توجه عام ودائم وليس فقط فى أوقات الأزمات، وإلى إرادة شعبية قوية لدعم صناعتنا المحلية والاعتماد عليها، ولنا فى تجربة الصين الشعبية ودول شرق آسيا أسوة حسنة ونموذج يمكن الاقتداء به، هذا النموذج الذى بات الغرب يخشاه ويعمل له ألف حساب، بل ويعتبره عدوه الأول بعد أن كانت تلك الدول حتى وقت قريب مجرد كيانات نامية ترتمى فى أحضان الاقتصاد الغربى. وإذا كانت هذه الدول قد احتاجت إلى عقود من الزمن، وتراكم من التجارب، وواجهت الكثير من التحديات والعقبات التى وضعها الغرب فى طريقها، فإن إرادة الشعوب قبل الحكومات هى التى أنضجت تلك التجارب، ووصلت بها إلى مصاف النمور الكبرى، ونحن أيضا قادرون على النهوض حتى لو كان المشوار طويلا، والصعوبات كثيرة، والمعوقات ضاربة بجذورها فى صلب التجربة المصرية، وقد تكون أزمة غزة الحالية هى الضارة النافعة التى تجعل من فكرة المقاطعة نقطة انطلاق حقيقية وواضحة يمكن التأسيس عليها فى كل ما هو قادم حتى تصبح مصر حقًا أم الدنيا.