الجمعة 10 مايو 2024

عندما اغتالوا البراءة بجنون التوحش

مدحت بشاى

12-11-2023 | 21:32

بقلـم: مدحت بشاى
فى عتمة أيامنا الصعبة هبط على أرض غزة شيطان مجنح خبيث قبيح الملامح غادر أثيم كحدأة سوداء الجناح لايمكن رؤيتها فى الظلام إلا وهى تخطف فلذات أكباد أهل غزة فى استباحة لسلام وأمن وبراءة أطفال شعب محتل فى ليال حالكة السواد.. براءةٌ مختطفة، طفولة يتم النيل من ملامح سعادة ومرح وبساطة ولطف أعمارها، سرقوا زهوة أعمار الولد وفرحة البنت الغزاوية الفلسطينية وهم يستقبلون بدايات أعمارهم، ونسوا ما يحملون من تبعات ميراث القهر والظلم من الآباء والأجداد، ومواصلة تخلى الدنيا عن قضيتهم التاريخية. وبالرغم من مواجهة العيال الكبار لكل تلك التحديات وهم يغادرون أزمنة اللهو واللعب الطفولى الطيب الجميل إلى حالة الحضور الشجاع فى حضرة الموت، نراهم وكأنهم قد ولدوا وفى أحضانهم كل تبعات ملفات قضية شعبهم التاريخية بكل أوجاعها.. وكأنهم قد خرجوا إلى دنيا الشقاء ومعهم أكفانهم، على أرض فلسطين ينزل الطفل وقد تم تسليمه وتوريثه صفات التشبث بالحق فى الحياة بشجاعة نراها فى صورهم الحية، كلامهم ضربات موجعة، وحكاويهم تهز قلوب الأنقياء فى دنيانا، حتى الأجنة فى بطون أمهات البطولة لم يسلموا من ويلات وحوش الغدر، فكان أصغر شهيد فى «طوفان الأقصى» جنين عمره 6 أشهر وضعته أمه خوفا قبل استشهادها! وهل هناك رسالة أبلغ وأهم وأشد تأثيرًا من التى جاءت على لسان الطفل الغزاوى للإجابة عن سؤال مراسل على أرض المعارك؟! ـــ تحب تكون إيه لما تكبر يا حبيبى؟ ـــ إحنا الفلسطينيين لا نكبر.. إحنا بنموت !! إنه الموت الساكن فى وجدان فلذات الأكباد وهم فى عمر الزهور.. نعم، لقد مس الجنون الأسود يد الغدر والتوحش، فاغتالوا أكثر من ألفى طفل بريء فى أيام قليلة ! لقد توقفت بالتأمل وإبداء الدهشة، ومشاعر الغضب والحزن والاكتئاب عند متابعتى مشهد تليفزيونى يوثق حالة انفراد طفل فلسطينى مصاب تسيل الدماء من أكثر من موقع فى جسده، وهو يحاول أن يستنطق طفلا مجاورا له الشهادة لملاحظته أن جاره على أرضية بلاط مستشفى ــ يتم تدميرها بوحشية ــ يلفظ أنفاسه الأخيرة. أرى أن ذلك المشهد بدلالاته يشى بالتالى: يتضح مدى خبرة الطفل الملقن لجاره بطقوس الوجود فى المشاهد الدموية لتكرار وقوعها فحفظ عن الكبار تلك التفاصيل. شعور الطفل بالمسئولية الأخلاقية والدينية فى غياب والديهما وأمهما !! أرى أن مشهد مقتل الطفل محمد الدرة وهو فى حضن أبيه الذى استحوذ على تعاطف العالم قد لا يرقى فى دلالاته مشهد استنطاق طفل للشهادة بمعاونة طفل شريك لحظات الموت لتجاوز المشهد حالة عجز أب عن حماية ابنه إلى مشهد عجز وطن بمؤسساته الصحية عن تقديم واجب العلاج والحماية الإنسانية !! كيف يمكن تصور حال أطفال حضروا تلك المجازر، والقيم السلبية التى ترسخت لديهم، وما أصاب الصحة النفسية وتداعيات المشاهد الدموية عليها عند من كتب لهم الحياة من أبناء ذلك الجيل؟! هل باتت لدينا وسائل ومؤسسات محترفة لتوثيق تلك الأحداث بما تحفل من بطولات شعوب تم قهرها من الخارج المحتل أو الداخل الانتهازى البغيض؟! قد تصيبنا الحيرة والاستغراب والدهشة ونحن نتابع سقوط الضحايا فى المشاهد الدموية الأخيرة على أرض قطاع غزة عند وصف الحيوانات المفترسة بصفة «الوحشية»، مما قد يغبن الوحوش بذلك الوصف، فيقول «إيريك فروم» فى مقارنة بين الإنسان و الحيوان الوحش «إن الإنسان يختلف عن الحيوان فى حقيقة كونه قاتلًا، لأنه الحيوان الوحيد الذى يقتل أفرادًا من بنى جنسه ويعذبهم، دونما سبب بيولوجى أو اقتصادي، بأريحية تامة من فعل ذلك»، وفى كتاب «التعذيب عبر العصور» ترد هذه الفقرة الهامة فى التمييز بين الإنسان والحيوان: «فالوحوشُ لا تقتلُ المخلوقات الأخرى من أجل الابتهاج والقناعة فقط، والوحوش لا تبنى معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تعذب الوحوش أبناء جنسها إلى أن تهلكهم ألمًا، ولا تستنبط الوحوش متعة جنسية منحرفة من معاناة أقرانها وآلامهم». لقد أسهم أهل الصحة النفسية فى الإشارة والعمل على علاج أخطر تلك الأمراض إلى حد كبير، وأوجدوا لها الدواء المناسب من أجل أن تتعافى النفس البشرية من هذه الأمراض التى أصابتها سواء بالعلاج الدوائى أو بالحمية والوقاية من الوقوع بهذه الأمراض، والمأمول بذل المزيد من الجهود العلمية حتى نتجاوز مرحلة بات البعض يطلق عليها ــ للأسف ــ عصر نشر سلوكيات العنف الوحشى الحيوانى. بكل بساطة، يمارس الإنسان قتل أخيه الإنسان دون الشعور بأى ذنب أو تعايش لاحق بالمراجعة والندم، بخلاف الإحساس الفطرى للحيوانات الأخرى، وعلاوة على ذلك فإن شراسة الوحوش لا تقارن مع شراسة الإنسان لأن الوحوش لم ترتكب مثل بشاعة الإنسان.. إن القارئ لتاريخنا الإنسانى المحايد والأمين، يدرك بالتأكيد ويستطيع رصد وقائع عدة لمحاولات الإنسان الابتعاد عن هذا الوحش الكامن فى صدره وعقله، وهى مشكلة ضخمة لتسيد تلك المفاهيم الوحشية وتمكنها من وجدان البعض منا، وقد دأب رجال الإصلاح الفكرى والاجتماعي، وأحيانًا بدعم رسالات الأديان الداعية إلى التسامح والمحبة والإخاء، للبحث عن آليات لالتئام جروح الضحايا وبلسمة آلامهم. يذكر «جوزيه دى كاسترو» خبير تغذية فى الأمم المتحدة فى كتابه الهام «جغرافية الجوع»، أن تسلط الجوع التام على الإنسان يطور سلوكه إلى العنف مثل سلوك الحيوان تمامًا.. والجوع يهدم الشخصية ويقضى على التجاوب الطبيعى بين الإنسان وجميع مؤثرات البيئة التى لا تمت بصلة إلى إشباع غريزة الأكل، أما العوامل الأخرى التى تصوغ السلوك البشرى فلا يبقى لها أثر، وكذلك دوافع المحافظة على الحياة وتحكم العقل تختفى بالتدريج إلى أن ينتهى بانعدام كل حذر وكل وازعٍ من ضمير، وعندئذ يستحيل الإنسان، كما يقرر «شبنجلر»، أكثر مما يستحيل فى أى وقتٍ آخر، إلى حيوانٍ ضار. لا ريب، أن ضياع القيم الإنسانية الإيجابية تدفع فى اتجاه إعمال السلوكيات القمعية والوحشية، مما يُنذر بمخاطر سيادتها على حركة المجتمع الإيجابية نحو البناء والتنمية وتحقيق التقدم لوطن يعلم فيه المواطن تميز هويته الحضارية عن سائر هويات الناس. إن ضياع الهوية الإنسانية لإنسان العصر فى موقع السلطة أو خارجها يشكل العديد من المخاطر المهددة لحالة السلام والأمن الاجتماعي، وما يترتب على ذلك من تشكيل مليشيات ارتكاب أعمال العنف والجريمة المنظمة وغير المنظمة والى إراقة الدماء وأعمال القمع والتعذيب ودعم رسائل الكراهية ونبذ الغير المختلف فى هويته الدينية أو المذهبية أو الفكرية أو الجنسية، هدمًا لحلم تحقيق « المواطنة الكاملة». يقول أحد الحكماء: إن الماء عندما يغلى يحجب رؤية ما فى جوفه، وكذلك الأمر عندما تغلى الأحداث، وإلى أن تبرد سيحترق الأبرياء العزَّل وتحجب الرؤية عن العالم.