الإثنين 6 مايو 2024

المنطق الرشيد

إيمان رسلان

13-11-2023 | 13:36

بقلـم: إيمان رسلان
بدأ د. أحمد جلال كتابه الجديد بقصة «موت سقراط» بعد محاكمته بتهمة إفساد أفكار الشباب، حيث اعتاد سقراط استخلاص الحقائق من الآخرين وكشف تناقضات الأفكار ما جلب السخط عليه، ويطرح «جلال» مع القصة أسئلة هامة عن علاقة المثقف بمجتمعه، بل ربما لذلك وضع د. أحمد جلال المثقف ووزير المالية الأسبق عنوانا له «ضد التيار»، وعنوانا جانبيا «حكايات ما قبل وبعد يناير 2011» والصادر مؤخرا عن «دار المحروسة» للنشر. فما هى الحكايات، ولماذا «ضد التيار»، ولماذا سقراط، وما هو المنطق البراجماتى أو الرشيد هو الأنسب اقتصاديا لنا؟ فى الجلسة الاقتصادية لمؤتمر «حكاية وطن» سأل الرئيس عبدالفتاح السيسى المنصة المكونة من د. هالة السعيد وزيرة التخطيط، ود. محمد معيط وزير المالية، قائلا: هل تستمعون وتسألون خبراءنا الاقتصاديين خاصة ممن لديهم رؤى هامة اقتصادية مثل د. أحمد جلال؟ أخذت الكلمات فى ذهنى، وكنت أكتب عن كتابه، وقررت أن أختار عنوانًا له هو المنطق الرشيد، أى ضرورة الاستماع لمختلف الآراء. الكتاب هو وثيقة بأوراق ومستندات عن رؤيته الاقتصادية والإصلاحية عبر مسيرة طويلة من العمل وليس عن فترة تولى الوزارة القصيرة، لذلك اختار عنوان «ضد التيار» وفى ماذا تحديدا ضد التيار؟، ولكن بعد القراءة للكتاب وبالتأكيد نستنتج من القراءة، بل ومن الكلمات الرسمية أنها ليست من المعسكر الآخر أو ضد الدولة، بالعكس فهو أحد أبنائها المجتهدين والمخلصين وطلب الرئيس نفسه الالتفات إلى كلماته وأفكاره. ومن هنا قررت أن تكون الأولوية والاختيار فى عرض كتابه والإصلاح من زوايا تعليمية واجتماعية، ولا سيما أنها ذكرت كثيرا بالكتاب، أى عن الإصلاح الاقتصادى من بوابة ضرورة الإصلاح التعليمى والنظر إلى التعليم من وجهة النظر الاقتصادية والتى يتضمن الكتاب الكثير منها، لأنه لا اقتصاد دون تعليم، ولا تنمية دون تعليم جيد وحقيقى للجميع (وليس ظاهرة كان التعليمية التى نعيش فيها) انتهت ملاحظتى. أسعفتنى كلمات د. أحمد جلال، وهو أيضا كانت له دراسات عميقة وكتب عن الأحوال التعليمية فى مصر والمنطقة أيضا، وكانت له دراسات أيضا به حينما، كان يشغل منصبا دوليا، إذًا فهو حديث فى المنهج وليس خارج المنهج. يصف د. جلال فى كتابه «أحوال التعليم» بأنه لم يكن هناك جهد منظم لإتاحة فرص اقتصادية متساوية للمصريين؛ إذ لم تقدم الحكومات المتعاقبة سوى محاولات هزيلة -إن وجدت- لتحسين نوعية التعليم، فعلى الرغم من الاستمرار فى انتهاج سياسة المجانية فإن نوعية هذه الخدمات التعليمية التى تقدم، لم تمكن الفقراء من اكتساب المهارات اللازمة لتمكينهم من العمل أو الالتحاق بسوقه، وقد قدم د. جلال ورقة عمل كمستقل حول السياسات الاقتصادية والنمو قبل ثورة يناير، حيث كان يشغل مديرا للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية وأيضا عمل مديرا لمنتدى البحوث الاقتصادية، والدراسة موجودة فى الكتاب لأن الكتاب يتضمن المراحل الأربع من قبل ثورة يناير وبعدها مباشرةً، وحكم جماعة الإخوان الإرهابية ثم تولى الوزارة بعد زوالهم. ففى الورقة التى قدمها فى أول حوار قومى يتم بعد ثورة يناير 2011 والذى عُقد بقاعة المؤتمرات بمدينة نصر أيضا. فتحت عنوان «تحقيق النمو الاقتصادى» يكتب د.جلال عن ضرورة إصلاح نظام التعليم لأهمية ذلك للاقتصاد الكلى والحياة، لأن ضرورة الإصلاح التعليمى ليست فقط لتلبية الطلب فى سوق العمل، وإنما للاستفادة من الفرص التى يتيحها النمو الاقتصادى (وهذه الفكرة تحديدا أرجو أن تنضم لأدبيات وزراء الاقتصاد والتعليم الذين يتحدثون فقط عن أن دور التعليم هو سوق العمل مع أن التعليم دوره أكبر من سوق العمل المتغير دائما)، ويضيف أنه حتى يتمكن معظم المصريين من الاستفادة لا بد من تحسين جودة التعليم، ويفصل رأيه قائلا: إنه وحتى الآن ركزت معظم إصلاحات التعليم على الجوانب المادية دون العناية لتحفيز المعلمين والتلاميذ وأولياء الأمور والمؤسسات التعليمية ويجب الإبقاء على المجانية التى يشترطها بالتعليم الثانوى، ثم يتحدث عن التعليم الفنى وضرورة تطويره ويقترح أن يتم الإلغاء التدريجى للتمييز بين التعليم الفنى (تعليم الفقراء) والتعليم العام. ثم يتكلم عن روشتة اقتصادية للإصلاح، ولكن ما توقفت عنده فى الكتاب كان الجزء السياسى أيضا وخاصة علاقة الإخوان بالاقتصاد، لذلك فمن أمتع أجزاء الكتاب هو الجزء الخاص بفترة حكم جماعة الإخوان الإرهابية وربما قبلها أيضا، وهى كاشفة على كل حال لفكر وسلوك هذا التنظيم العدائى لمفهوم الحريات والدولة والوطنية والبناء الاقتصادى المستقل. ثم يختتم كتاب «الذكريات» بفصل عن فترة تولى وزارة المالية بحكومة د. حازم الببلاوى الانتقالية، وكيف قبل منصب الوزارة الذى كان يرفضه فى السابق فقد رأى أنه فى مهمة وطنية للبناء والإصلاح، لذلك قبل المنصب الوزارى الذى استمر شهورا فقط، ولكنه ذكر أيضا فى كتابه أن النقاش معه امتد لتولى حقيبة التعليم بعد دمج التعليم مع التعليم العالى، وهى الفكرة التى أرى أنها كانت صائبة للغاية، ولكنه يبرر رفضه فى القبول بالتعليم بأن إصلاح التعليم يحتاج إلى استمرارية، فى حين أن عمر الوزارات وقتها كان عدة أشهر فقط، أى لن يكون هناك إصلاح أو استمرارية إنما (مجرد منصب وزاري)، وهى وجهة نظر صائبة فى كل الأحوال، وإحدى الأزمات التى ابتُليت بها السياسات التعليمية على مر العقود. ثم ينتقل لسرد وقائع تولى د. الببلاوى منصب نائب رئيس الوزراء وترشحه لمنصب وزارة المالية والإجراءات التى تم اتخاذها فى تلك الظروف المضطربة وقتها بل وشهادته كوزير، أى من داخل الموقع الرسمى حول اعتصام رابعة من الإخوان وحلفائهم وضرورة فضه، حيث احتل النقاش فى أول اجتماعين لمجلس الوزراء بعد الثورة على حكم الإخوان والحوارات حول تلك القضية وماذا يريد الإخوان. الكتاب هام للمتخصصين فى الاقتصاد والمالية لأنه يتضمن أيضا ملاحق ووثائق وأرقاما وتفاصيل عن كل ما قدمه من رؤى إصلاحية اقتصادية منذ وقبيل ثورة يناير أو المنصب الوزارى، وكذلك ملاحق هامة عن مقترحات تعديل الدستور والمواد به ومنها مواد هامة للغاية خاصة بالتعليم والبحث العلمى، بجانب التفاصيل الاقتصادية والعملية الصالحة للتطبيق، والتى وصفها د.غنيم فى الغلاف الأخير للكتاب بأنها تحكى قصة 4 مراحل من الأحوال الاقتصادية لمصر منذ ما قبل يناير حتى جلاء الإخوان، وبلغة رصينة وسلسة ذات بعد سردى وأدبي، وصياغة سهلة الهضم والفهم على القارئ العادى مثل الذى ربما يفهم فقط الفرق بين النمو والتنمية. انتهيت من الكتاب وكتابة المقال قبل شهر تقريبا، ولم تكن الأحداث قد تفاقمت هكذا بمنطقتنا، لذلك عدت الآن، ووقت النشر إلى الكتاب مرة أخرى وما به من معلومات لأضيف الخاتمة الآتية، والتى ربما جاء تأخير الكتابة من أجل سرد هذه الواقعة أو الحكاية الهامة لأنه مازالت دلالاتها والأفعال مستمرة حتى الآن. والواقعة تتعلق بزمن وبتأسيس المنتدى الاقتصادى عام 1993، حينما طرح واقترح أحد المؤسسين للمنتدى وتحديدا د. ستانلى فيشر، وكان وقتها نائبا لرئيس البنك الدولى، واقترح إضافة كلمتى الشرق الأوسط لاسم المنتدى رغبة منه فى أن تصبح إسرائيل عضوا به، ولكن الجانب العربى من المؤسسين وتحديدا الراحل د. سعيد النجار أصرّ على عدم ضم إسرائيل، حتى يتم حل القضية الفلسطينية وكان لرأيه الغلبة والأغلبية، بينما كان رد فعل السيد فيشر شديد الحدة فى مواجهة ذلك، لدرجة أنه أرسل مكتوبا لعدد كبير من المانحين طالبا منهم عدم تمويل أنشطة المنتدى ولم تستجِب معظم المؤسسات المانحة لطلبه.