السبت 4 مايو 2024

عالم افتراضى بدون أكاذيب

صورة أرشيفية

21-11-2023 | 18:54

بقلـم: د. محمد عزام
بدون شك نحن نعيش ليس فقط فى عالم جديد لم تألفه البشرية منذ بدايتها، ولكن فى عالم متجدد بسرعة تفوق استيعاب الكل تقريباً. وأكثر ما يؤثر علينا وعلى وعينا هو الانفجار المعلوماتي. هذا الأمر الذى أصبح خارج التصور وأيضاً خارج السيطرة. ففى بدايات الألفية الثالثة، كان إنتاج البشرية من المعلومات أقل من 1 زيتا بايت. ولمن لا يعرف ماهى وحدة زيتا بايت فهى تريليون جيجا بايت، أى 10 أس 21 بايت. وفى أقل من عشرة أعوام من بداية الألفية أصبح هذا الرقم 2 زيتا بايت، بنهاية عام 2010. وبعد عقد واحد من الزمان أصبح الإنتاج البشرى من المعلومات 64 زيتا بايت فى عام 2020، ليصل إلى حوالى الضعف فى غضون ثلاث سنوات فقط لا غير، ليصبح 120 زيتا بايت فى عام 2023. أى فى أقل من ربع قرن قفز الإنتاج البشرى من المعلومات إلى أكثر من 120 ضعفا، وهذا أمر فوق التصور مقارنة بما شهدته البشرية من قبل، عندما ابتكر جوتنبرج ماكينة الطباعة فى منتصف القرن الخامس عشر، لتتمكن البشرية من طباعة 100 مليون كتاب على مدار قرن ونصف القرن من الزمن. لذا كان من الضرورى وجود رؤية دولية موحدة للتعامل مع هذا الانفجار المعلوماتى غير المسبوق، والعمل على جعل عالمنا الافتراضى أكثر سلاماً وأماناً. لذا نظم مركز أبحاث السياسات بجامعة الأمم المتحدة بنيويورك، بالتعاون مع الاتحاد الدولى للغرف التجارية بباريس، فى الأسبوع الأول من نوفمبر 2023، ورشة عمل للخبراء لمناقشة هذا الأمر الحيوى والخطير فى ذات الوقت، والتى أسعدنى الحظ أن أكون أحد المشاركين بها، بجانب مجموعة من الخبراء من حول العالم. وخلال ورشة العمل تمت استعراض العديد من التحديات ومناقشة مجموعة من التصورات للتعامل مع هذا الأمر. ففى عالم أصبح متصلا ومترابطا بصورة غير قابلة للعودة للخلف، يجب العمل على الاستفادة القصوى من قوة البيانات وبل تسخيرها لتخليق حلول لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والتى من أهمها الصحة والأمن الغذائى ومواجهة الكوارث والتحديات المناخية، وخاصة فى ظل الأزمات المتلاحقة التى شهدها العالم خلال الأعوام القليلة السابقة، بدءاً من انتشار جائحة «كورونا» فى مارس 2020، ومروراً بالأزمة الروسية الأوكرانية التى اندلعت فى فبراير 2022، ثم المأساة الإنسانية الحالية فى قطاع غزة نتيجة أحداث 7 أكتوبر 2023، والتى تمثل أحد فصول الصراع الإسرائيلى الفلسطينى الممتد لأكثر من سبعة عقود حتى الآن بدون أفق لحل سياسى يتوافق عليه الكل ويمكن تطبيقه على أرض الواقع. فإعادة توظيف البيانات، والربط فيما بينها، سيمثل مفتاحاً سحرياً للتصدى للعديد من المعضلات التى تواجه عالمنا المعاصر، وخاصة فى ظل الكوارث المتواصلة التى يشهدها العالم، سواء فىالشكل الاقتصادى أو الصحى أو الجيوسياسى أو البيئى منها، كما أشارت مجموعة من الباحثين فى مركز أبحاث السياسات بجامعة الأمم المتحدة بنيويورك، حيث إن عدم التعامل مع البيانات العملاقة بطريقة تسمح لمتخذ القرار وضع سياسات ابتكارية لتحديات اليوم، سوف يقلل من القدرة على بناء رؤية متكاملة للحلول المقترحة، والأهم من ذلك هو عدم وجود المقدرة على التحرك السريع والفعال للتعامل مع تلك المعضلات العالمية المتلاحقة، والمؤثرة فى بلدان الشمال المتقدم والجنوب النامى فى آن واحد بصورة كبيرة لم يشهدها العالم إلا مؤخراً. ولكن هذا ليس بالأمر الهين أو السهل، فهناك العديد من العوائق للوصول إلى منظومة فعالة للتعامل مع البيانات، منها عدم وجود قواعد تنظيمية وبروتوكولات تشغيلية تسمح بالتطبيق السهل وغير المكلف والسريع، تسمح بالتعامل الآمن والمسئول مع البيانات بصورة منهجية تتبع معايير الحوكمة، وإن كانت هناك بعض التشريعات قد ظهرت للنور فى هذا الشأن، مثل القانون الأوروبى لحكومة البيانات، والقانون المصرى لحماية البيانات الشخصية، وهذا لبناء الثقة فى تلك المنظومة والعمل على استغلال الثروة المعلوماتية لصالح البشر وليس العكس، مع الأخذ فى الاعتبار التوازن بين ما يقدمه التقدم التكنولوجى المذهل من فرص ونماذج أعمال جديدة ابتكارية، وبين التشريعات الحاكمة للتعامل مع هذا الكم الكبير من المعلومات. وعليه فإنه من المهم إنشاء إطار للالتزام المتبادل Mutual Commitment Framework (MCF) قبل حدوث الأزمات، كما توافق عليه المشاركون فى ورشة العمل، ليكون بمثابة أداة فعالة، ذات مصداقية وآليات حوكمة واضحة، للتعامل مع المعلومات فى مجابهة الأزمات وتقليل زمن الاستجابة المحلية أو الدولية للأزمات، مع تعزيز الثقة بين أطراف المنظومة المعلوماتية من حكومات ومنظمات غير حكومية ومؤسسات تجارية وأفراد، بما يخلق بيئة أكثر قدرة على التعاون فيما بينهم، مع تقليل آثار المخاطر المشتركة. والأمثلة كثيرة، فهذا التعاون والتكامل المعلوماتى بين الأطراف المختلفة، من خلال بروتوكولات مشاركة البيانات وفى ظل المبادئ التوجيهية الأخلاقية المتفق عليها، سيؤدى إلى تعامل أفضل مع الأزمات والجوائح الصحية، سواء من ناحية الاستعداد لوجود هذا الخطر الصحى من خلال وجود نظام إنذار مبكر، ومتابعة انتشار أى عدوى ناشئة، وكذلك توحيد وتنسيق الجهود المتعلقة بتوزيع اللقاحات بصورة فعالة وعادلة مع التغلب على العقبات اللوجستية المرتبطة بهذا الأمر، بين كل من سلطات الصحة العامة، وشركات الأدوية، ومقدمى الخدمات اللوجستية والسلطات المحلية. وكذلك هو الحال فى حالات الإغاثة الإنسانية، فآليات تبادل وتكامل المعلومات سوف تساعد وكالات الإغاثة، والسلطات الحكومية المعنية، والجهات الدولية والأممية، بالإضافة لمنظمات العمل المدني، على توحيد وتنسيق الجهود، وتوجيه المساعدات للمناطق المنكوبة والأكثر تضرراً بصورة أكثر دقة وفعالية، واستغلال الإمكانيات المتاحة الاستغلال الأمثل، وحصر نوعية المساعدات المطلوبة على الأرض بطريقة أقرب للواقع، وتحديد المسارات الآمنة واللوجستيات الخاصة بالإغاثة وأماكن تواجد فرق الطوارئ بطريقة أكثر فعالية وأقل خطورة، مما يعزز كفاءة وفعالية عمليات الإغاثة الإنسانية. كما تتضمن تطبيقات التعاون والتكامل المعلوماتى التخفيف من آثار التغييرات المناخية، من خلال تبادل وتحليل بيانات الانبعاثات وجهود إزالة الكربون وبذل الجهود المشتركة لرصد انبعاثات الغازات الدفيئة والحد منها، وكذلك تحفيز التعاون بين الأوساط الأكاديمية، والمؤسسات الصناعية والهيئات الحكومية، لتبادل البيانات والأفكار حول الممارسات المستدامة، بما يساهم فى تطوير حلول تكنولوجية ابتكارية فى مجالات الاستدامة والتحول الأخضر للصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة. هذا بالإضافة إلى مراقبة جودة التعليم بالتكامل بين المؤسسات التعليمية وقطاعات الأعمال والمنظمات غير الربحية لتبادل وتحليل البيانات المتعلقة بجودة التعليم وتحديد الثغرات ومشاركتها بشكل أفضل بين الجهات ذات الصلة ووضع التدخلات لتعزيز النتائج التعليمية للأطفال والنشء، بالإضافة إلى تبادل البيانات حول التطعيمات اللازمة لحماية صحة الطفل ومتابعة مؤشرات سوء التغذية، وضمان الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية بصورة عادلة وفعالة، مما يتيح وضع وتعديل السياسات الخاصة بتلبية الاحتياجات الصحية للأطفال بشكل أفضل، هذا بالإضافة إلى التطبيقات الخاصة بعدالة توزيع الخدمات، وخاصة فى المناطق الأكثر احتياجاً، ومكافحة التمييز والعنف ضد المرأة وذوى الإعاقات. كما أن غياب وجود هذا الإطار التعاونى والتنظيمى لتداول البيانات ستصاحبه آثار سلبية، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، الاستجابة غير الفعالة للأزمات، حيث يمكن أن يؤدى التأخير فى التعاون فى مجال البيانات، إلى إعاقة فعالية البيانات فى الوقت المناسب للاستجابة للأزمات العالمية العاجلة، مثل الكوارث الطبيعية أو الأوبئة أو الأزمات الإنسانية، بما يعقد المشهد ويؤدى إلى معاناة طويلة الأمد للمتضررين من تلك الأزمات. كما أن عدم وجود هذا التنظيم سيؤدى إلى زيادة العبء على الكيانات الصغيرة والمتوسطة، للتصدى للعديد من التحديات بطريقة سهلة ومنخفضة التكاليف، بالإضافة إلى إهدار الكثير من موارد الدول والمنظمات الدولية، لعدم كفاية البيانات المطلوبة للتعامل مع هذا العالم المتغير، بما سيقلل فاعلية تلك الجهات عند الحاجة للتصدى لمعضلات قهرية مثل الكوارث الطبيعية وحالات تفشى الأمراض الوبائية أو خلال ظروف الحرب الاستثنائية. كما أن عدم وجود هذا الإطار سيعمق فقدان الثقة بين مختلف الأطراف المعنية، وهذا يعنى تكلفة أعلى وفاعلية أقل، نتيجة تكرار الجهود وعدم الاستغلال الأمثل للموارد، جنباً إلى جنب مع تقليل فرص تطوير نماذج أعمال أكثر ابتكاراً وقدرة على مجابهة التحديات سواء المحلية منها أو الإقليمية أو حتى العالمية. وخلال ورشة العمل اقترحت أن يضم الإطار العام لتبادل البيانات مفاهيم التعامل مع الحجم المتنامى للمعلومات المغلوطة والكاذبة والأخبار المفبركة، وتحديد أدوار الأطراف الفاعلة، مثل الحكومات وشركات التكنولوجيا العملاقة. حيث إن تلك النوعية من المعلومات أصبحت تؤثر تأثيراً بالغ الخطورة على الأمن والسلم المجتمعى فى جميع دول العالم، المتقدم منها قبل النامي. فلقد رأينا تأثير المعلومات المغلوطة والمفبركة على الانتخابات الأمريكية منذ 2016، وكذلك أثناء الحرب الروسية الأوكرانية، ومؤخراً خلال العدوان الإسرائيلى على قطاع غرة، فلقد تم تزوير فيديوهات بنظم التزييف العميق Deep Fake المعتمد على استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي، واستخدامها من قبل رئيس أكبر دولة فى العالم، الرئيس الأمريكى جو بايدن، فى إحدى خطاباته بشأن الأزمة فى غزة، هذا الأمر الذى استدعى أن يقوم البيت الأبيض بالاعتذار عنه فى اليوم التالى. كما تناقلت أكبر شبكة إخبارية فى العالم، وهى شبكة «سى إن إن»، أيضاً فيديوهات ملفقة على شاشتها، وبعدها تم الاعتذار عن ذلك الأمر بعد تداولها. فتلك المعلومات المغلوطة والمفبركة وتداولها أصبحت أمراً يصاحبه أخطار ومخاوف عديدة، نتيجة هذا الأسلوب المستحدث لإنشاء المحتوى والتعامل معه وإعادة نشره، ومنها استخدام البعض وسائل التواصل الاجتماعى لنشر الدعاية الكاذبة والمعلومات المضللة وخطاب الكراهية والتطرف، من خلال توظيف خوارزميات الذكاء الاصطناعى بمنتهى الحرفية لهذا الغرض، كما أشار الباحث نيلول فتح وفيق بالجامعة الإسلامية بإندونيسيا، فى مقاله المنشور على موقع Modern Diplomacy فى مايو من العام 2023، وخاصة أن مصدر المعلومات للكثير منا أصبح هو ما يتم نشره وتداوله على المنصات مثل إكس (تويتر سابقاً) وفيسبوك وإنستجرام والواتس آب وغيرهم، وبدون حتى التأكد هل تلك المعلومات هى معلومات صحيحة وموثقة أو هى معلومات تم التلاعب بها بحسن أو سوء نية أو هى مجرد معلومات ناجمة عن تخاريف بعض مرتادى المنصات الرقمية. لذا علينا جميعاً أن يكون هناك التزام بتوفير النجاح للبيانات لإعادة استخدامها، وخاصة فى أوقات الأزمات، بما فى ذلك تحديد حالات الاستخدام ذات الأولوية، حيث قد تكون هناك حاجة إلى الوصول السريع للمعلومة، وضمان الوصول فى الوقت المناسب إلى البيانات ذات الصلة لإعادة استخدامها أثناء حالات الطوارئ أو الأزمات، مع الالتزام بمعايير حماية البيانات، بتحديد أنه حيثما لا يمكن الاتفاق على مشاركة البيانات بالنسبة للبيانات التى تتضمن معلومات التعريف الشخصية، يمكن تسهيل التحليل الأساسى من خلال تطوير التعلم الموحد وتطبيقات الخصوصية التفاضلية من خلال الذكاء الاصطناعي، وإنشاء بروتوكولات محددة مسبقًا لمشاركة البيانات خلال هذه الأوقات لدعم السرعة المطلوبة للتصدى للأزمات وحالات الطوارئ. وهذا سيتطلب الالتزام بالشفافية والمشاركة الهادفة، بما فى ذلك تحديد الأدوار والمسئوليات والعلاقات المتبادلة بين جميع الأطراف المعنية المتشاركة فى البيانات، وتوحيد القدرات والتعاون من الناحية الفنية للوصول بشكل أفضل لتحليل وإدارة البيانات المشتركة داخل المنظمة العالمية الجديدة للبيانات، وكذلك بناء الوعى لدى المستهلك النهائى للبيانات مع تعزيز الثقة بين جميع أطراف المنظومة بإنشاء آليات للمساءلة، لنحقق من خلالها التعاون المسئول فى التعامل مع البيانات، وضمان الشفافية فى الممارسات المتعلقة بها، وكذلك تطوير آليات لحل المشكلات والنزاعات الناجمة من تبادل البيانات. وأخيراً وليس أخراً، نحن مقبلون على عقد جديد، هو عقد البيانات كما تم تسميته من قبل الأمم المتحدة، ما بين عامى 2025 و2035، وعلينا أن ندرك أن البيانات هى ثروة تفوق التصور، ولابد من تسخيرها لصالح الإنسان ورفاهيته ليس إلا، فى إطار من التعاون والتكامل والشفافية والحوكمة بين كل الأطراف فى مختلف بقاع الدنيا، وهذه هى طبيعة العصر، وليس من الممكن لأى أحد الوقوف أمام هذا التطور، مهما كان!