اعتدنا الخطأ وتكراره برغم إدراكنا بخطئِنا في المرات الأولى، هي آفة كل ابن آدم، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وها أنا أتوب وأعيد خطأي من ثانِ وأعيد معه توبتي وطلب المغفرة، فأنا لم أعتد الانبهار بمظاهر الشخوص، ولكن بمعاملاتهم وسلوكياتهم، ولكني في نفس الوقت اعتدت الوقوع في خطأ التسرع في الحكم على الأشخاص من الوهلة الأولى، ويظل وازعي في هذا هو مراجعة الضمير من خلال مراجعة مواقفي وردود أفعالي بنهاية كل يوم، فقد يغفر الله لنا تقصيرنا في حقه، أما ما هو في حق العباد، فهو باقٍ ببقاء الذنب دون طلب المغفرة والسماح.
كنت في طريقي للطرف الآخر من القاهرة -منذ ما يقرب من عام مضى- للقيام بزيارة هامة، وكنت أكاد أغفو من فرط التعب وعدم نيل قسطٍ كافٍ من النوم، فاستأذنت أمي بأن ندخل محطة الوقود ونبتاع بعضاً من القهوة لي ولها، وبالفعل اشتريت ما احتجت له وخرجت ممسكة بحامل القهوة الكرتوني، وإذ بي أفاجىء بِمَسّاحات الزجاج الأمامي لسيارتي وهي مرفوعة كعلامة على أن الزجاج قد تم مسحه، وهي إحدي الإشارات التي تستثير بداخلي مشاعر الغضب في أقل من ثانية، لأنها تجعلني في موقف "المفروض عليه" لا "طالب الخدمة"، وهي أمور تعلمتها ونشأت عليها في عدم الاعتماد على أشخاص أُخَرْ.
على كل حال، ما حدث هو أني وبكل أسف اشتطت غيظاً وصببت جم غضبي على من كان يقف أمامي مرتدياً "تي شيرت وبنطلون وكاب" وتبدو عليه ملامح السمرة من الشمس، واستطردت في توجيه اللوم والعتاب بصوت عالٍ، وهنا أتاني صوت نسائي مهزوز يرد علي "حضرتك معاكِ حق دي عربيتك مش من حقي ألمسها غير بطلب منك، بس أعمل إيه هم اللي بيطلبوا مني كده"، وهنا فوجئت أنها أنثى من الأساس!! وسمعت الرد وأنا أَهِمُّ بالدخول لسيارتي لرغبتي في اللحاق بموعدي ولم أعطِ لأذني الفرصة الكاملة لسماع الجملة بروية وتأنٍ، وهنا سقط كوبي القهوة داخل سيارتي وغرقت كافة تفاصيل العربية فيها.
وما أن بدأت بمحاولاتي لامتصاص أي سوائل حتى أن وجدت نفس السيدة تبادر بالدخول مسرعة لمحل القهوة عائدة بكم كبير من المحارم الورقية كي تساعدني أكثر في اللحاق بالأذى الذي حدث... وصلتني الرسالة الربانية من عند الله، وتلقيت الجزاء والعقاب في نفس الزمان والمكان، استهنت بها –برغم عدم معرفتي بحقيقة شخصيتها كأنثى- فاستهان الله بي ومنحني درس التأديب، ولم أجد نفسي إلا وهي عائدة لهذه السيدة تعتذر وتقبل جبينها وتطلب منها السماح، واحتضنتها أمي في حنو ودفء محاولة أن تبرر لها موقفي بأدب، فإذا بها تذرف الدموع وتخبرني أنها لم تكن ترغب في العمل بتلك الوظيفة إلا أنها أجبرت عليها، وأصرت على منحي كل الحق في غضبي، وكلما أسهبت هي، شعرت أنا بضآلة حجمي، وغلظة رد فعلي.
على كلٍ، أنجزنا الالتزام الذي كان واجباً فعله، وعدت أنا وأمي نسأل على نفس السيدة مرة ثانية ونحن في طريق العودة، ولكنها كانت قد انصرفت بالفعل، ولم أيأس فحاولت كل المحاولات للوصول إليها والحصول على رقم هاتفها لأؤكد على عميق أسفي وشعوري المرير بالذنب نتيجة التسرع، وقد يكون نتيجة استباق الحكم، ووفقني الله في الوصول إليها لأنه عليم قدير بما تحوي النفوس وعَلِمَ بصدق إحساسي بالذنب، تواصلنا مرة أخرى وتقابلنا مرات، وامتدت مشاعر الود والمحبة بينها وبيننا على النحو الأجمل والأرق.
نحن لا نحيا فراداً على هذا الكوكب، فقد خلقه الله بمقدار وحساب، وتنويع واختلاف، وتبديل واتفاق، بحسب ما يرى ولحكمة لا يعلها إلا هو، فلا يحق لنا –حاشاه- مراجعته أو معاتبته، ولكنها وحدها الدروس العملية من تلك النوعية هي التي تبطىء سرعتنا على طريق الحياة كي ننتبه لخطواتنا واتجاهات كلماتنا، وحتى نبرات أصواتنا وتعابير أوجهنا، هي أمور قد تبدو في مجملها ليست ذات جدوى للبعض، ولكنها في حقيقة الأمر هي لب الحياة.
لا تستبقوا الحكم على الأشخاص سواء ذوو الهيئة البسيطة أو غيرها، امنحوهم فرصة الكيان والتعبير عن الوجود.. فلولا ترتيبات الله لكنا في نفس موقعهم على سبيل الاختبار.. وها أنا المذنبة أتوب.