الجمعة 22 نوفمبر 2024

ثقافة

الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان.. النضال بالشعر

  • 30-11-2023 | 22:05

الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان

طباعة
  • بقلم/ أبو الحسن الجمال


تنتمي الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان إلى أسرة عريقة هي أسرة "طوقان" في نابلس بفلسطين، كان والدها عبد الفتاح طوقان من رموز التيار القومي العربي الذي بدأ يتنامي في الوطن العربي مع بداية القرن العشرين، في مصر وليبيا وشمال إفريقيا التي تقاسمتها الدول الاستعمارية: بريطانيا وفرنسا وايطاليا، وأصبحت الولايات العربية العثمانية هدفاً لأطماع هذه الدول الاستعمارية، وكان أبوها يميل مع التيار القومي الواعي لأخطار الاستعمار، وفي عام 1917 -أي في العام الذي ولدت فيه فدوى طوقان- كانت الدولة العثمانية قد أفل شمسها عن البلاد العربية، وتقاسمت الدول الاستعمارية ميراثها في تلك البلاد، واحتلت بريطانيا فلسطين، ودخل الجنرال اللنبي مدينة القدس، وقال مقولته الشهيرة: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، وفي نابلس ألقى الانجليز القبض على أبيها ونفوه إلى مصر مع بعض رجال البلاد الوطنيين، من أمثال: الشيخ إبراهيم تفاحة، وسيف الدين طوقان، وفائق العنتباوي، وكان هذا أول عمل قمعي قامت به سلطات الانتداب البريطاني في سلسلة لا تنتهي مع القمع وكبت الحريات تمهيداً لتحقيق المطامع الصهيونية وأحلامها التي بدأت بمؤتمر بال بسويسرا، ووعد بلفور المشئوم 1916 الذي أصدره وزير خارجية بريطانيا قبل عام من احتلال فلسطين، وقد مكّنت سلطات الانتداب البريطاني للعصبات اليهودية من الهيمنة على الأماكن الحيوية، ومازالت الهجرة تزداد كل يوم حتى فجعنا على قرار تقسيم فلسطين 1947، ثم اندلاع حرب فلسطين في 15 مايو 1948 التي انتهت بالكارثة العظمى التي مازالنا نتجرعها إلى اليوم، كما أن أخاها إبراهيم طوقان(1905-1941)- الذي لقب بشاعر الوطنية وحارس الأرض- رغم عمره القصير فقد كان أحد أقطاب الشعر العربي الحديث حيث خضبت بدماء قضيته الوطنية صفحته الشعرية، وحارب بسطوة وحي القلم أغلال الاستعمار البريطاني، وقطرة الندى التي أحييت قسمات وجه التجديد في الشعر العربي.. أما الأخ الأكبر لهما فهو الدكتور أحمد طوقان (1903-1981)، فقد أكمل تعليمه وحصل على أعلى الشهادات من الجامعة الأمريكية في بيروت ودرس الفيزياء في جامعة أكسفورد، وقد تولى المناصب الرفيعة في التعليم، ثم تولى أكثر من حقيبة وزارية في الأردن حيث عمل وزيراً للخارجية والمعارف ووزيراً للآثار والسياحة، ثم رئيساً للديوان الملكي، ثم تولى رئاسة الوزراء عام 1970. وقد أنجبت الأسرة العشرات من الأعلام الذين عاشوا في فلسطين والأردن .. وسوف نتناول في مقالنا التالي محطات من حياة الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان، وقد رجعنا إلى كتبها النثرية وأعمالها الشعرية الكاملة.. 
*****
    كانت حياة فدوى طوقان (1917-2003) سلسلة من المعاناة فقد حاولت أمها الإجهاض مراراً، عندما كانت فدوى جنيناً في بطنها. تزوجت الأم فوزية أمين عسقلان في الحادية عشرة من عمرها، وعندما أنجبت أول أبنائها كانت في الخامسة عشر، وكانت أرضاً سخياً مثل فلسطين، أنجبت عشراً، خمسة بنين وخمس بنات، كانت الأسرة مثقفة وتدمن القراءة، فتذكر فدوى طوقان قائلة: "كان أبي وأمي من مدمني روايات جرجي زيدان التاريخية؛ أحبا شخصية البطلة في "أسيرة المتمهدي" واحتفظت ذاكرتهما بأسماء ليعطياه لأول أنثى تولد لهما فيما بعد".  
    وقد حالت التقاليد العتيقة التي رانت على العالم العربي لقرون وعقود طويلة من أن تكمل فدوى طوقان تعليمها، رغم أن والديها كانا على مستوى عال من العقل والتنوير، ولكن التيار العام كان عاتياً، وقد وقفت في تعليمها عند المرحلة الابتدائية، ولأنها كانت منذ نعومة أظفارها تتسم بصفات الإصرار والمثابرة والعناد لذا كافحت التقاليد البالية، ولم تستسلم لها، وعلّمت نفسها وكانت من العصامية بمكان، وقد ساعدها أخوها الشاعر الكبير إبراهيم طوقان على تلبية طموحاتها التي لا حد لها، ووجها نحو الاستفادة من الروافد المختلفة للفكر والأدب، فوفر لها كتب التراث ودواوين الشعراء القدامى والمحدثين، كما أطلعت على الكتب المترجمة وطالعت أيضاً الصحف التي كانت تحرص على الاعتناء بصفحات الأدب ونشر المقال الأدبي والشعر في صدر صفحاتها، وكانت فدوى تلتهم كل ما يصل إليها من الكتب والمجلات والصحف في سعادة غامرة.. 
كما وجهها أخوها أيضاً نحو كتابة الشعر حتى تعودت على السباحة فيه لمسافات طويلة في بحوره المتلاطمة الأمواج، حتى أشتهر أمرها، وساعدها أيضاً في نشره في العديد من الصحف العربية، وأطلق عليها الشاعر الكبير محمود درويش "أم الشعر الفلسطيني"، والبعض أطلق عليها "أم تمام، و"شاعرة فلسطين". وقد كانت فدوى طوقان توقع أشعارها في بداية رحلتها مع الإبداع باسم "دنانير" الجارية الشاعرة والمطربة التي ظهرت في العصر العباسي والتي ألهبت قلوب الشعراء والأمراء والخلفاء، ثم وقعت باسم "المطوقة" وقد كان أحب أسمائها المستعارة إلى قلبها، لأنه يتضمن إشارة مزدوجة، بل تورية فصيحة إلى حال الشاعرة بالتحديد، فالمطوقة تعني انتسابها إلى عائلة طوقان المعروفة، وترمز في الوقت نفسه إلى أحوالها في مجتمع تقليدي غير رحيم...
   وقد فجعت فدوى طوقان مبكراً في أخيها الأثير إلى قلبها إبراهيم طوقان عام 1941، وكانت قد فجعت في أبيها من قبل، ولم تنس أخيها يوماً وقد أهدت إليه معظم دواوينها، كما أصدرت أول كتبها النثرية وكان بعنوان "أخي إبراهيم" والذي صدر عام 1946، كما رثته في عدة قصائد في ديوانها الأول "وحدي مع الأيام". ثم تتوالى الأحزان فتفجع مع ملايين العرب بنكبة فلسطين قضية العرب الأولى، وقد كانت قضيتها أيضاً في صحوها ومنامها وتفاعلت معها بكل كيانها شعراً ونثراً ونضالاً، وقال عنها عبد الحكيم الوائلي: "كانت قضية فلسطين تصبغ شعرها بلون أحمر قان ففلسطين كانت دائماً وجداناً دامياً في أعماق شاعرتنا فيأتي لذلك شعرها الوطني صادقاً متماسكاً أصيلاً لا مكان فيه للتعسف والافتعال". وتأثرت أكثر عندما احتلت مسقط رأسها مدينة نابلس فذاقت طعم الاحتلال وطعم الظلم والقهر وانعدام الحرية..
****
    في كتابها "الرحلة الأصعب" تصف أهوال العدوان الصهيوني في نكبة 1948، حينما كانت تغير طائراته وتقصف البيوت على من فيها، في حارة الياسمينية في مدينة نابلس وقد هرع كل أفراد أسرتها ليحتمي في بيت الأسرة العتيق، وأصبح النوم في الأدوار العلوية غير مأمون العواقب، وتم نقل أغراض الأسرة جميعها إلى الأدوار السفلية ذات السقوف المقعرة والتي يستحيل وقوعها تحت طائلة الغارات الجوية، فهي أشبه من جهة حصانتها بالملاجيء.
    ولا تنسى الشاعرة المرهفة فدوى طوقان يوم كانت في القدس قبل وقوع العدوان الغاشم بيوم، للقاء صديق لها جاء من وراء المحيطات، حيث اقترح عليها المغادرة إلى عمان أو بيروت لأن الحروب وشيكة، ورفضت فدوى أن تهرب مهما كلفها الكثير، فنصها الصديق الغريب بالتزود ببعض الخبز والأطعمة والمعلبات والبن والسجائر.. ولأن العدو الصهيوني يتجرد من الإنسانية فهو يستهدف المدنيين والأطفال والمستشفيات ويقتل الأسرى بدم بارد، فانفعلت فدوى تقول: "الأطفال هم نقطة الضعف المركزية عندي، حبي لهم يبلغ حد الوجع، قفز تفكيري نحو أطفال شقيقتي الأثنتين، أديبة وحنان، ثم تخطاهم إلى الأطفال الآخرين، أولئك هم أحباب الله، فهل يتخلى عن حمايتهم، كيف السبيل إلى إنقاذ كرمة، وعمر، وهانية، وعمار وأخواته من مواجهة الشبح القادم؟ كيف السبيل إلى حماية هؤلاء الأطفال وكل الأطفال الآخرين نمن معاناة الخوف والجوع والعطش وأهوال الحرب ومآسيها؟ كم يعوزني الإيمان.. وكم أنا بحاجة إليك لأسألك الرحمة بأحبابك". ثم انفعلت شعراً في قصيدة بعنوان "إلى الصديق الغريب". 
صديقي الغريب
لو أن طريقي إليك كأمس
لو أن الأفاعي الهوالك ليست
تعربد في كل درب
وتحفر قبراً لأهلي وشعبي
وتزرع موتاً ونار
لو أن الهزيمة لا تمطر الآن أرض بلادي
حجارة خزي وعار
ولو أن قلبي الذي تعرفُ
كما كان بالأمس لا ترعف
دماه على خنجر الانكسار
ولو أن يا صديقي كأمس
أدل بقومي وداري وعزي
لكنت إلى جنبك الآن، عند شواطيء حبك أرسي
سفينة عمري
لكنا كفرخي حمام .
                             (فدوى طوقان. الرحلة الأصعب ص8-10)
   وفي قصيدة بعنوان "لن أبكي" وقد أهدتها إلى شعراء المقاومة الذين ظلوا في الأراضي المحتلة يكافحون بالكلمة التي كان وقعها أشد من السيف، ومن خلال هذه الكلمات خلدت أعمال النضال والفداء وعدم الاستسلام في كل مكان على أرض فلسطين وفي لقاء لهم في حيفا بتاريخ 4/3/1968: 
على أبواب يافا يا أحبائي
وفي فوضى حطام الدور
بين الردم والشوق
وقفت وقلت للعينين: يا عينين
قفا نبك
على أطلال من رحلوا وفاتوها
تنادي من بناها الدار
وتنعي من بناها الدار
وأن القلب منسحقاً
وقال القلب: ما فعلت؟
بك الأيام يا دار؟
وأين القاطنون هنا
هل جاءتك بعد النأي، هل
جاءتك أخبارُ؟
هنا كانوا
هنا حلموا
هنا رسموا
مشاريع الغد الآتي
فأين الحلم والآتي وأين همو
وأين همو؟
لم ينطق حطام الدار
ولمن ينطق هناك سوى غيابهمو
وصمت الصمت، والهجران.
                       (الأعمال الشعرية الكاملة لفدوى طوقان ص 393-394).
     وقد أهتزت فدوى طوقان لاستشهاد المناضل مازن أبو غزالة في معركة "طوباس"؛ تلك المعركة التي قامت بين رجال المقاومة والجيش الإسرائيلي بعد مرور أشهر قليلة على الاحتلال الصهيوني في 30 سبتمبر 1967، فبعد مقاومة عنيفة استمرت ثلاثة أيام نفذت الذخيرة وأصبح مازن وجهاً لوجه أمام العدو بعد أن تمكن من تغطية انسحاب رفاقه، وأخذ من وسطه قنبلتين فجرهما بين يديه، وتمزق ومزق معه عدداً من جنود العدو المحيطين به، وقد استشهد شقيقان له في معارك مع العدو بعد ذلك، وقد وجدت في مفكرة مازن كلمات صادقة، كان قد كتبها في مفكرته بعد نحو تسعة أيام من العدوان الغاشم بتايخ 15 يونيو1967، وفيها يقول: "يا أهلي يا شعبي، يارب، ماذا أكتب ولمن أكتب .. أرجو ألا أكتب إلا رسالة نصر"، ثم انفعلت لهذا الحادث وقالتفي قصيدة "الفدائي والأرض": 
أجلس كي أكتب، ماذا أكتب؟
ما جدوى القول؟
يا أهلي، يا بلدي، يا شعبي
ما أحقر أن أجلس كي أكتب
في هذا اليوم
هل أحمي أهلي بالكلمة؟
كل الكلمات اليوم
ملحٌ لا يورق أو يزهر
في هذا الليل...
***
في بهرة الذهول والضياع
أضاء قنديل إلهيٌ حنايا قلبه
وشعَّ في العينين وهج جمرتين
وأطبق المفكرة
وهب مازن، الفتى الشُّجاع
يحمل عبء حبه
وكل هم أرضه وشعبه
وكل أشتات المنى المبعثرة.  
                      (الأعمال الشعرية الكاملة لفدوى طوقان ص388-390).
****
    ورغم الاحتلال فقد كانت الساحة الأدبية في الضفة والقطاع وسائر الأراضي المحتلة تقاوم هذا الاحتلال البغيض مع نشوء التفاعل والتواصل الحيوي بين الجيل الجديد من الأدباء اليافعين، وبين الرموز الأدبية والأدبية والقيادات الفكرية الأدبية ظلت في الأراضي المحتلة ولم تغادرها منذ وقوع نكبة فلسطين سنة 1948. وقد تحدثت فدوى عن هذا المشهد قائلة: "من خلال هذا التواصل، ومن خلال هذا التفاعل، تكونت، وستظل تتكون وتتنامى قطرات الضوء تحت ليل الاحتلال، وسوف يستمر العمل معاً لإعادة تركيب ما هو كائن، انطلاقاً من الحلم بما سيكون، بالرغم من اصطدام الأقلام بالرقابة، ومحاولة خنق الأنفس، والسجون والمعتقلات وكل من شأنه إخماد الوعي الجديد المنبثق من رماد الهزيمة". 


لقاء مع جمال عبد الناصر: 
   زارت فدوى طوقان مصر واحتكت عن قرب بالأدباء والمفكرين والهيئات الفكرية والثقافية والأكاديمية، والتقت الزعيم جمال عبد الناصر وأخذت تبث إليه شجونها وهمومها وتبوح بالهم العربي والمأساة التي تحياها فلسطين منذ عشرين عاماً حينما وقعت النكبة، وقالت عن هذا اللقاء: "وأثناء لقائي بالزعيم جمال عبد الناصر في أواخر ديسمبر عام 1968، حدثته عن أولئك المتجذرين في أرضهم منذ عشرين عاماً برغم تحديات الحركة الصهيونية التي تواجههم، لا سيما المحاولات المبذولة لترسيخ العدمية القومية في وجدان الأقلية العربية، كما حدثته عن معاناة المثقفين الوطنيين هناك من أدباء وشعراء ومفكرين، وما يكابدونه من الاعتقالات وأوامر الإقامة الجبرية التي تحدد تجوالهم في وطنهم، التي أصبحت جزءً من حياتهم اليومية بسبب رسالتهم الكفاحية التي يحملونها ويبشرون بمضمونها الوطني والإنساني في الوسط العربي، وكم شعرت بالسعادة حين سمعت من إذاعة القاهرة التحية الحارة التي وجهها الرئيس بعد ذلك اللقاء إلى العرب الصامدين المناضلين تحت جناحي الخفاش الكبير منذ عشرين عاماً"، وأثناء زيارتها لمصر ترجمت إعجابها بمصر وعبقرية مكانها وزمانها فقالت: 
يا مصر، حلم ساحر الألوان، رافق كل عمري
كم داعبت روحي رؤاه فرفّ روحي خلف صدري 
حلم كظل الواحة الخضراء في صحراء قفر 
أن اجتلي هذا الحمى .. واضمه قلباً وعين..
واليوم، في حلم أنا، أم يقظة، أم بين بين؟
صدحت بقلبي إذا وطئت ثراك أنغام سواحر
فكأنما في قلبي المأخوذ غنى ألف طائر
وغرقت في أمواج إحساس بعيد الغورر فائر
أأنا هنا؟ في مصر، في الوادي النبيل؟! 
أأنا هنا في النيل، في الأهرام، في ظل النخيل؟!  
                        (الأعمال الشعرية الكاملة لفدوى طوقان، ص79).
    والأديبة فدوى طوقان لها أسلوب ساحر في النثر والشعر على السواء يظهر هذا في كتبها النثرية مثل "الرحلة الأصعب"، و"رحلة جبلية ..رحلة صعبة"، وقال عن كتباها الأخير الناقد الكبير رجاء النقاش: "أنها أصدق وأرقى وأجمل مذكرات كتبتها أديبة عربية في هذا العصر، وهي تستحق أن توضع إلى جانب أهم المذكرات المعروفة في الأدب العربي مثل "أيام طه حسين"، و"زهرة العمر" لتوفيق الحكيم.. ففدوى معروفة بشاعريتها الأصيلة، ولكن فدوى في هذه المذكرات شيئاً جديداً هو التعبير بصدق وصراحة عن هموم المرأة العربية، فالمرأة العربية، فالمرأة العربية لم تكتب عن هذه الهموم إلا بالرمز والتلميح والإشارة، وجاءت فدوى تبوح بكل شيء، في أسلوب بالغ الجمال والعذوبة، وفي صدق وشجاعة، جعلت من مذكراتها في آخر الأمر عملاً أدبياً رفيعاً، ووثيقة اجتماعية من الدرجة الأولى". 
 وكانت فدوى طوقان تكافح على كل المستويات تكافح الاستعمار بالكلمة التي تصليه ناراً حامية فهي مثل المدفع الهادر الذي لا يكف عن قذف حممه البركانية، ولم تستسلم له، ولم تضع حسامها في نزاله، رغم المغريات . كما كافحت التقاليد البالية وتسلحت بالصراحة التامة في تعرية الواقع وتشريحه، فهي لم تعرف لليأس طريقاً، فهي قادرة على العطاء كل يوم، ولم تكن راضية عن حياتها -كما تقول-، فشجرة حياتها لم تثمر إلا القليل، وظلت روحها تتوق إلى إنجازات أفضل وآفاق أرحب، فهي تقول: "لا ضير علينا لة خسرنا المعركة، فالمهم ألا ننهزم أو نلقي السلاح. إن قوى الشر، سواء أكانت غيبية أم اجتماعية أم سياسية، تقف دائماً ضد الإنسان وتعمل على تحطيمه، ولكن الإنسان يقف أمام القوى بكبرياء وعناد بالرغم من ضعفه". 
       وفي خضم هذه الآلام والأسى والنضال لم تنسى فدوى طوقان الحب الصادق والمشاعر الدافقة وكانت لها جولة مع الناقد المصري الكبير أنور المعداوي وتبادلا الرسائل التي جمعها الكاتب الكبير رجاء النقاش في كتابه "بين المعداوي وفدوى طوقان – صفحات مجهولة بين الأدب المعاصر"، والتي لم تكلل لها النجاح فقد رحل المعداوي في سن مبكرة عام 1965 عن 45 عاماً، وكان يحبها، ولأنه كان شديد المسئولية تجاه فدوى ، وكان يخشى أن ينتهي به المرض الذي يعانيه إلى الموت الفجائي وهو ما حدث بالفعل، لذا قام بإتلاف رسائل فدوى إليه فلم يجدها الناقد رجاء النقاش في أوراق المعداوي بعد وفاته.وبالطبع لا توجد نسخة منها لدى فدوى طوقان، وتوصل النقاش في كتابه "بين المعداوي وفدوى طوقان. صفحات مجهولة في الأدب العربي"، إلى أنه كان هناك "حب عاطفي" بين فدوى والمعداوي، وليس حباً قائماً على الإعجاب والصداقة الأدبية فقط، وأن هذا الحب كان عنيفاً مؤثراً على الطرفين، ولكن هذا الحب كان من النوع المأساوي، لأنه كان حباً رومانسياً، وكان حباً "عذرياً"، أو أفلاطونياً، فالناقد المصري والشاعرة الفلسطينية لم يلتقيا في أي يوم أكثر من اللقاء الروحي الخيالي عن طريق الرسائل، ومع ذلك كان بينهما حب عفيف ولكنه عنيف، تماماً كما نشأ الحب بين مي زيادة وجبران خليل جبران على البعد، فقد كانت مي في مصر، وجبران في أمريكا، ولم يحدث قط أن التقى الأثنان أو تبادلا النظرة والابتسامة والكلام والموعد واللقاء، حسب المعادلة التي رسمها أحمد شوقي.    
  وفي مساء السبت الثاني عشر من شهر ديسمبر عام 2003 ودعت فدوى طوقان الدنيا عن عمر يناهز السادسة والثمانين عامًا قضتها مناضلة بكلماتها وأشعارها في سبيل حرية فلسطين، وكُتبت على قبرها قصيدتها المشهورة:

كفاني أموت عليها وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشبًا على أرضها
وأبعث زهرة إليها
تعبث بها كف طفل نمته بلادي
كفاني أظل بحضن بلادي
ترابًا،‌ وعشبًا، وزهرة ...

الاكثر قراءة