الخميس 9 مايو 2024

من شادية إلى ضمير العالم

أشرف غريب

5-12-2023 | 16:42

بقلـم: أشرف غريب
ست سنوات مضت على رحيل صوت مصر شادية (التاسع من فبراير 1931 - الثامن والعشرون من نوفمبر 2017) لم تغِب خلالها عن الوجدان الجمعى المصرى والعربى من المحيط إلى الخليج، بل وحتى لدى الجاليات العربية فى المهجر، ست سنوات كان غياب شادية فيها يؤكد حضورها الذى لم يحجبه لا سنوات الاعتزال منذ نوفمبر 1986، ولا سنوات الرحيل قبل تلك الأعوام الستة، فى كل حدث خاص أو عام، إنسانى أو وطنى مر علينا، كانت شادية ماثلة فى الذاكرة بأغنياتها وأفلامها ومواقفها الحياتية الكثيرة، حتى عند أولئك الذين لم يظلهم زمانها أو يعيشوا عصرها، لأنها كانت صاحبة فن صادق خُلق ليعيش، ورسالة سامية وُجدت لتبقى، فنانة وإنسانة جمعت بين المحبة والتقدير لدى كل مَن عرفوها أو سمعوا عنها، وتلك هى شيم أولئك الذين تكون سيرهم أطول من أعمارهم. ألم تكن هى التى غنت وغنينا معها فى كل مناسباتنا الوطنية الكبرى «يا حبيبتى يا مصر» تستدعيها آلاف الحناجر، فتسرى فى النفس حالة من الشموخ الوطنى؟ ألم تكن هى التى غنت وقت الهزيمة «يا أم الصابرين ع الألم عدينا» فرفعنا معها رءوسنا انتظارا ليوم الثأر، وغنت وقت النصر «عبرنا الهزيمة» و«راحة فين يا عروسة يا أم توب أخضر» فغمرتنا نشوة الانتصار واستعادة العزة والكرامة؟ نعم هى «صوت مصر» وضميرها الغنائى وكلمتها الصادقة القوية.. الصوت الغنائى الوحيد الذى اقترن اسمه باسم مصر فأصبح هذا هو لقبها «صوت مصر» ويا له من لقب تفردت به شادية بين كل من جهر بالغناء العربى فى أى زمان ومكان. وفى ذروة الأحداث الجارية فى قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضى، ومع توالى المذابح الإسرائيلية المتعاقبة التى طالت الأطفال والنساء العزل فى مخيم جباليا ومستشفى الشفاء ومستشفى القدس والمستشفى الإندونيسى وفى كل شبر من أرض غزة روته دماء الشهداء الأبرار كنت أستحضر – كما كان غيرى – صرختها المدوية التى أطلقتها فى أعقاب مذبحة «مدرسة بحر البقر» التى قامت بها الغطرسة الإسرائيلية فى الثامن من أبريل 1970 ضد أطفال هذه المدرسة التابعة لمحافظة الشرقية ذات صباح أليم لم تنسَه مصر إلى اليوم ولن تنساه إلى الأبد، كشاهد حى على تلك الوحشية والهمجية والممارسات اللاإنسانية، التى دأبت عليها إسرائيل منذ دير ياسين عام 1948 مرورا بـ«بحر البقر» وقانا على سبيل المثال، وصولا إلى جباليا ومستشفى الشفاء، يومها يوم مذبحة «بحر البقر» صرخت شادية بكلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوى وهى تغنى: الدرس انتهى لموا الكراريس بالدم اللى على ورقهم سال فى قصر الأمم المتحدة فى مسابقة لرسوم الأطفال إيه رأيك فى البقع الحمرا يا ضمير العالم يا عزيزى دى لطفلة مصرية وسمرة كانت من أشطر تلاميذى دمها راسم زهرة، راسم راية ثورة راسم وجه مؤامرة، راسم خلق جبابرة راسم نار، راسم عار ع الصهيونية والاستعمار والدنيا اللى عليهم صابرة، وساكتة على فعل الأباليس الدرس انتهى لموا الكراريس تأملوا معى هذه الكلمات التى صاغها صلاح جاهين قبل ثلاث وخمسين سنة، كأنها كُتبت بالأمس فقط لتخاطب ضمير العالم الساكت على فعل الأباليس، لا عليك إلا أن تستبدل عبارة «على طفلة مصرية وسمرة» بما يناسب الموقف الراهن، فالهمجية هى هى، والقتل بدم بارد هو هو، والضحايا كالعادة مدنيون عزل سواء كانوا أطفالًا أو نساء أو شيوخًا، أكثر من خمسة عشر ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء، أكثر من ستة وثلاثين ألف مصاب كلهم لا حول لهم ولا قوة بلا سلاح أو حتى حجارة، ربما لم يكن بينهم شهيد أو جريح من كتائب القسام، هم بالضبط كالضحايا العزل من الأطفال والمدرسات الذين قصفتهم آلة الحرب الأمريكية بيد إسرائيلية ملطخة بالدماء البريئة، والذين فضحتهم شادية بأغنية لا تزال طازجة رغم السنين، وصالحة رغم الأنين، ومعبرة وصادقة فى كل حين. المحزن أن ضمير العالم الذى كان ساكتا على فعل الأباليس منذ النكبة فى 1948 واستمر ساكتا على ما حدث لأطفال بحر البقر، لا يزال صامتا وساكتا على كل ما فعلته وتفعله إسرائيل فى غزة وفى شتى الأراضى الفلسطينية المحتلة، ولطالما بقى الأبالسة على أفعالهم، وبقى ضمير العالم فى غيبوبته المتعمدة، فإن صوت شادية سيبقى هو الآخر حاضرا ينكأ الجرح، ويهز الوجدان، ويخاطب الضمير، ويحرض على الثأر وهى تغنى: إيه رأى رجال الفكر الحر فى الفكرة دى المنقوشة بالدم من طفل فقير مولود فى المر إنما كان حلو ضحوك الفم الدرس انتهى لموا الكراريس فهل بالفعل «انتهى الدرس يا إسرائيل»؟ سلام إلى العظيمين صلاح جاهين وسيد مكاوى، إلى الفن الصادق الذى يبقى ويدوم، وسلام على شادية يوم غنت ويوم اعتزلت ويوم غابت عن الدنيا.