الخميس 9 مايو 2024

العدوان على غزة.. والفرص الضائعة

محمد الشافعي

5-12-2023 | 21:11

بقلـم: محمد الشافعى
يقف العالم- كل العالم - منذ السابع من أكتوبر الماضى عاريا ومفضوحا.. بعد أن دخلت بعض الدول شرانق العجز ودخلت دول أخرى ملاهى الفرجة وراحت دول أخرى تدعم وتساند بل وتشارك فى هذا العدوان الإجرامى على المدنيين فى غزة، ورغم هذا السيرك السياسى الذى دخلته غالبية دول العالم إلا أن هذا العدوان البربرى وغير المسبوق فى تاريخنا المعاصر يحمل فى طياته الكثير من الفرص التى من الممكن أن تُغير وجه الكون.. وتُعيد التوازنات والانضباط إلى كثير من الأمور ولكن حتى وقت كتابة هذا المقال.. يبدو أن أصحاب هذه الفرص لم ينتبهوا إلى اغتنامها واستثمارها لتعظيم عوائدهم الذاتية وعوائد الآخرين أيضا، وتتمركز هذه الفرص فى يد الكثير من الأطراف.. يأتى فى مقدمتها روسيا والصين وأمريكا وأوروبا والعرب وفلسطين والكيان الصهيونى أيضا.. وسنحاول فيما يلى أن نقف بكثير من الرصد والتحليل أمام الفرص المتاحة أمام كل طرف من هذه الأطراف.. وبيان كيفية استثمارها.. قبل أن نعيش مسلسلا مؤلما من الفرص الضائعة. أولا: تبدو روسيا مكتوفة الأيدى خلال تفاعلها مع أزمة العدوان الإجرامى على غزة.. ولعل هذا الموقف يحيلنا إلى موقف مشابه للاتحاد السوفيتى قبل وأثناء العدوان الصهيونى على العرب فى الخامس من يونيه 1967.. وخلال الأزمة الحالية بلغ الاستفزاز الغربى لروسيا أقصى مدى.. فتلك البوارج والغواصات النووية وحاملات الطائرات لم تأتِ من أجل حماس أو حزب الله.. أو حتى إيران ولكنها جاءت من أجل روسيا.. بعد أن أصبح لها قدم وساق فى المنطقة من خلال القاعدتين العسكريتين الكبيرتين الموجودتين فى سوريا (القاعدة البحرية فى طرطوس - القاعدة الجوية فى حميميم)، والغريب بل المؤلم أن هاتين القاعدتين تركتا سماء سوريا مستباحة أمام الطيران الصهيونى لدرجة إخراج مطارى دمشق وحلب من الخدمة فى بداية العدوان على غزة.. والسؤال الملح هو لماذا لم تمنح روسيا حليفتها سوريا منظومة الدفاع الجوى الأكثر فاعلية فى العالم (S400)؟ تلك المنظومة التى باعتها لتركيا رغم أنف حلف الناتو.. وبعيدًا عن كل هذه التحفظات على روسيا.. فإن العدوان الإجرامى على غزة يمثل فرصة عظيمة لها.. إذا استطاعت أن تحسم الأمور على الجبهة الأوكرانية.. فى ظل تراجع الدعم الغربى المقدم إلى أوكرانيا بشكل كبير.. وحسم الأمور فى أوكرانيا.. سيعمل حتما على تيسير مهمة روسيا فى إيجاد نظام عالمى متعدد الأقطاب.. ذلك النظام المنتظر.. الذى سيعمل حتما على إيقاف التغول الأمريكى فى كل ملفات السياسة الدولية.. العدوان على غزة فرصة لم تستثمرها روسيا حتى الآن.. مما يجعلنى أستعيد العنوان الذى كتبته عن الدور السوفيتى فى عدوان يونيه 1967.. وذلك فى كتابى عبدالناصر.. حقائق وأباطيل.. الاتحاد السوفيتى ضعف أم تواطؤ، ويبرر البعض تراجع الدور الروسى فى الأزمة الحالية لسيطرة اليهود على كثير من مفاصل الاقتصاد والإعلام فى روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتى. ثانيا: تأتى الصين فى مقدمة الدول التى تعرضت للعقوبات الكبيرة والمتوالية من أمريكا.. ورغم ذلك جاء التحرك الصينى خلال أزمة العدوان الإجرامى على غزة خجولا ومتراجعا.. وربما تعمل الصين على عدم الانغماس فى أى صراع.. يمكن أن يتسبب فى تعطيل مخططاتها للتقدم الاقتصادى بل السيطرة والهيمنة الاقتصادية فى كثير من مناطق العالم.. من خلال سعيها إلى امتلاك الكثير من (الأصول) فى الدول التى تدخل معها فى شراكات اقتصادية، والحقيقة أن هذا الموقف الصينى الخجول من القضايا العربية يدعو إلى الحيرة والتساؤل؛ فإذا عدنا إلى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى لوجدنا مؤامرة غربية شرسة ضد الصين لدرجة استبعادها من عضوية الأمم المتحدة.. ووضع فرموزا (تايوان) فى مكانها وعندما التقى الزعيم جمال عبدالناصر مع رئيس الوزراء الصينى شوان لاى فى مؤتمر باندونج 1955 عرض عبدالناصر الاعتراف بالصين الشعبية.. ليحظى هذا الاعتراف بتأييد كل دول العالم الثالث.. لتعود الصين إلى مكانها ومكانتها رغم أنف الحصار الغربى.. وقد ظلت الصين لسنوات طويلة ممتنة لهذا الموقف المصرى النبيل.. ورغم ذلك تراجع الموقف الصينى منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى.. واكتفت بالسعى إلى الهيمنة الاقتصادية، ويأتى العدوان الإجرامى على غزة ليمثل فرصة سانحة أمام الصين للمساهمة مع روسيا فى تدشين نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب.. يعمل على كسر حلقة الحصار والعقوبات الرهيبة.. التى يفرضها الغرب على الصين. ثالثا: جاء العدوان الصهيونى الإجرامى على غزة.. ليمثل صفعة مدوية على وجه النظام الأمريكي.. ولعل الأمريكان يجدون الآن إجابة للسؤال الذى حيَّرهم طويلًا (لماذا يكرهوننا؟) فمثل هذا الانحياز الأعمى للكيان الصهيونى.. بل والمشاركة الفاعلة فى كل جرائمه ضد فلسطين بشكل خاص.. وضد العرب بشكل عام.. لابد أن يفجر كل براكين الغضب والكراهية، وليس غربيا هذا الانحياز البائس.. فأمريكا نشأت على يد العصابات الأوروبية التى عملت على إبادة الهنود الحمر وحضارتهم العتيدة.. ليصل بهم الحال فى الوقت الراهن.. إلى عرضهم أمام السائحين فى بعض الأماكن.. والكيان العبرى نشأ على يد العصابات الصهيونية.. التى تعمل منذ خمسة وسبعين عامًا.. على إبادة الشعب الفلسطينى.. وإجباره على الهجرة القسرية.. وتزعم أمريكا أنها حارسة الشرعية الدولية وحقوق الإنسان.. رغم أنها الأكثر اعتداء على الشرعية الدولية.. والأكثر إهدارًا لحقوق الإنسان، فالشرعية الدولية تؤكد على وجود دولتين فى فلسطين.. من خلال قرار الأمم المتحدة 181 عام 1947 فأين هذا القرار فى قائمة أولويات السياسة الأمريكية.. كما أن الشرعية الدولية تذهب إلى وجود دولة فلسطينية على حدود ما قبل يونيه 1967 (21 فى المائة من فلسطين التاريخية).. فأين ذلك على أجندة السياسة الأمريكية. والغريب أن هاتين الحالتين.. اللتين تقرهما الشرعية الدولية.. تؤكدان على أن ما فعلته المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر الماضى شرعى وقانونى.. وذلك لأن منطقة غلاف غزة التى تمت فيها عملية المقاومة جزء أصيل من الدولة الفلسطينية.. سواء فى قرار التقسيم.. أو فى حدود ما قبل يونيه 1967.. أو حتى فى أوسلو 1993 وذلك لأن مقاومة المحتل فعل تقره كل القوانين والشرائع الدولية فأين كل هذا أمام الانحياز الأمريكى البغيض.. بل والمشاركة الفجة فى هذا العدوان الإجرامى.. ولعلهم فقط يعرفون إجابة سؤال (لماذا يكرهوننا؟). رابعا: غريب أمر أوروبا القارة العجوز.. التى كانت سباقة فى النهضة والتطور حيث انتهى بها الأمر إلى مجرد تابع بائس للسياسة الأمريكية. وقد أدت التبعية الأوروبية للسياسة الأمريكية إلى كوارث وخسائر كثيرة وكبيرة فى كل الدول الأوروبية.. ولعل مراجعة سريعة للمواقف الأوروبية من الحرب الأوكرانية الروسية تلك الحرب التى فجرتها أمريكا وأرادت بها القضاء على روسيا وإضعاف حلفائها الأوروبيين، وقد سارت دول أوروبا وكأنها مسلوبة الإرادة خلف المخطط الأمريكى ولم تقف للمراجعة حتى بعد الأزمات الاقتصادية والمظاهرات الشعبية وللأسف الشديد تسير أوروبا خلف أمريكا فى مساندة العدوان الصهيونى الإجرامى على غزة بحجة أن من حق دولة الاحتلال الدفاع عن نفسها.. فأى دفاع عن النفس لكيان محتل ومغتصب لم يكن ليصل إلى هذا الحد من العدوان والإجرام إلا بمساندة دول أوروبا التى تزعم ريادة التطور والحرص على الشرعية الدولية، وجاء العدوان على غزة ليمثل فرصة كبيرة أمام أوروبا لتكسر ذلك القيد الأمريكى ولتثبت حقًا أنها معقل التحضر والدعوة إلى حقوق الإنسان.. والالتزام بالشرعية الدولية. سادسا: عندما وقف الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات على منصة الأمم المتحدة صائحا (لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدى) استمع إليه كل العالم.. لأنه كان يمثل كل فلسطين من خلال منظمة التحرير الفلسطينية ثم حدثت الفرقة والتفرق.. وأصبحنا أمام العديد من الفصائل.. وقد عملت الأزمة الأخيرة على توحيد غالبية الفصائل لمواجهة العدو ويجب أن يتمخض هذا العدوان الإجرامى على غزة عن وحدة اندماجية لكل الفصائل الفلسطينية فى كيان واحد على قلب رجل واحد لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر.. أو على الأقل إنشاء الدولة الفلسطينية واضحة المعالم. سابعا: أثبتت عملية المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر الماضى.. أن هذا المحتل مجرد بالون فارغ وكيان هش لا يستطيع الصمود فى المواجهات المباشرة، وحدث هذا فى حرب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر والنصر العظيم وحرب جنوب لبنان وكل حروب غزة، كما أن هذا الانتقام الوحشى ليس إلا تغطية على الضعف والتفكك والرعب من فوبيا (العقد الثامن).. حيث لم تستمر أى دولة يهودية أكثر من ثمانين عاما.. ولعل هذا العدو البربرى يرى فى عدوانه على غزة فرصة للمراجعة ليتأكد من أن الشعوب لا يمكن أن تُهزم أو تستسلم طالما تمتلك روح المقاومة، والشعب الفلسطينى حتما سينتصر؛ ليصبح المخرج الوحيد أمام هذا العدو الغاشم والغشيم هو القبول بالشرعية الدولية وإقامة الدولة الفلسطينية واضحة المعالم. وفى النهاية نؤكد على أن كل هذه الفرص لو ضاعت.. ستكون خسارة هذا العدوان أكبر وأشرس.. وسيكون العالم أكثر بؤسا وقسوة.