السبت 27 يوليو 2024

فلسطين قضية العمر الكُبرى.. قدم المصريون حياتهم لفلسطين جيلاً بعد جيل

مقالات6-12-2023 | 15:23

● تبقى فلسطين المُحتلة استثناء نادراً فى الذاكرة الجمعية لنا نحنُ الذين عاصرنا تلك الأهوال التى أكدت لنا أن عدونا الأساسى والجوهرى هو العدو الصهيونى
● فى القاهرة كنتُ أبادر بلقاء الأشقاء من أدباء وكُتَّاب وشُعراء فلسطين والكلام معهم والاستماع إلى ما يقولونه الذى كان يلمس حبة القلب، عندما يأتون إلينا ويزورون مصر


كنتُ فى الرابعة من عمرى عندما وقعت حرب فلسطين الأولى. كنتُ أعيش فى قريتى البعيدة. وأكتُب الآن أننى لم أدرِ وقتها طبيعة ما يحدث. وإن كانت السنوات التى جاءت بعد السنة الثامنة والأربعين قد فتَّحت وعيىّ على ما يجرى. خاصة العدوان الثُلاثى على مصر الذى قامت به إنجلترا وفرنسا والكيان الصهيونى سنة 1956، وكنت فى السنة الثانية بعد العشر سنوات الأولى من عُمرى.


لم تكن الصحف تصل إلى قريتنا. ولكن كلام الناس الذى كنتُ أسمعه فى كل وقتٍ تقريباً بين صحفٍ مُتنقلة ومُستمرة ومتواصلة. يحمل أخبار النكبة الأولى والتى تواصلت معنا وعاصرتنا وأصبحت جزءاً من وجداننا على مدى كل هذه السنوات.


كتبتُ من قبل كثيراً عمَّا جرى لنا فى  1967، 1973. وأنا أدوِّن 1969 حيث حرب الاستنزاف الكُبرى التى أعتبرها حرباً عربية إسرائيلية كاملة مُكتملة. صحيح أنها لم تصل إلى النهايات المرجوة منها. ولكنها كانت ومازالت وستبقى مدرسة فى الوطنية المصرية. وفى الدفاع عن أرض الوطن. وتعلمت منها ومن غيرها ومن المواجهات مع العدو أن فلسطين قضية مصرية لا تخص أهل فلسطين وحدهم. وإنما تخصنا نحن أبناء مصر وأعتقد وأتصور وأتأكد أنها تخص كل أبناء جيلى الذين ولدوا فى أربعينيات القرن الماضى فى الوطن العربى كله، وربما العالم الثالث وقطاعات كثيرة من الدنيا كلها.


تُغرينى أشياء كثيرة للتوقف أمام تفاصيل ما جرى وما حدث، خاصة أنها تملأ ذاكرتى ووجدانى بصورة تُقاوم كل أسباب النسيان التى يُمكن أن تحدث لها. فالنسيان عادة إنسانية أو فلنقل مرض إنسانى يجعل الذكريات تبهُت ألوانها ويتراجع تأثيرها فى النفس وتُصبح من رماد الماضى.


لكن فلسطين المُحتلة والمُغتصبة تبقى استثناءاً نادراً فى الذاكرة الجمعية لنا نحنُ الذين عاصرنا تلك الأهوال التى أكدت لنا أن عدونا الأساسى والجوهرى هو العدو الصهيونى. وأن الصراع معه صراع وجود وليس صراع حدود كما يتوهم البعض أو يتصور الأمر بطريقة خاطئة. فإما نحن وإما هم. ولعل فى الحرب الأخيرة ما يؤكد كلامى عندما أصرَّ ومازال يصر العدو الصهيونى على أن يُرحِّل أشقاءنا الفلسطينيين إلى جزء من سيناء.


وأعتقد أن الموقف المصرى الرافض لهذا الكلام يُعفينى من الرد عليه. فكل حبة رمل من سيناء رويت بدماء الشهداء فى حروبنا مع العدو الصهيونى على مدى أكثر من نصف قرنٍ من عُمر مصر وعمر الصراع. بل ربما كانت أكثر من 70 عاماً مرت علينا بأهوالها وأحداثها الجسام وظروفها الصعبة والقاسية التى عشناها ومازلنا نتذكر أيامها ولياليها لحظة بلحظة ودقيقة بدقيقة.


بعد ما سُمئ بمعاهدة السلام مع العدو الصهيونى وسافر البعض إلى هناك قالوا لنا فى البداية أنهم يريدون السفر إلى الفلسطينيين. علماً بأن كلمة فلسطين كانت قد مُحيّت من الوجود تماماً ولم يبق منها شئ. وأصبح الكيان الصهيونى هو العنوان. ولابد من المرور عبره ومن خلاله وبموافقته وتأشيرته. وهذا كان ومازال وسيظل بالنسبة لى من رابع المستحيلات. بل مستحيل العُمر كله.


ولهذا اكتفيت بأن أحلُم بعودة فلسطين لنا ولو فى الخيال. ثم ما المانع أن تعود فى الحقيقة؟ فنحن فى زمنٍ يخلو من المستحيلات وكل شئ ممكن الحدوث فيه. خاصة أن حُلم العودة لفلسطين هو حلم كل عربى وكل أبناء العالم الثالث وكل شُرفاء الدنيا حتى فى الدول التى تُساعد العدو الصهيونى فى معركته الأخيرة ضد الفلسطينيين. أقصد بذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا. وغيرها من الدول التى ناصرت العدوان ولم تخجل لا من تاريخها ولا من منجزها، ولا من مواقفها المُعمِّرة. والتى أصبحت جزءاً من ثوابتها. لكن الزمن يفعل بالناس ما لا يُمكن تصوره.


اكتفيتُ فى القاهرة برؤية الأشقاء من أدباء وكُتَّاب وشُعراء فلسطين عندما يزورون مصر ويأتون إلينا. كنتُ أبادر بلقائهم والكلام معهم والاستماع إلى ما يقولونه الذى كان يلمس حبة القلب. أذكر منهم: محمود درويش، وسميح القاسم، وإميل حبيبى. كان من عادة محمود درويش أن ينزل فى فنادق القاهرة الكبرى. التى تُطلُ على النيل. وهذا يعكس غرامه بمصر. فهل يُمكن أن نذكر مصر دون أن يأتى إلى خيالنا نهر النيل المسافر فى الزمان أبداً، والمتحرك فى حنايا الفؤاد فى كل لحظة تمر؟.
أما سميح القاسم وإميل حبيبى فعلاوة على زياراتهما لى فى دار الهلال، كنتُ أتجول معهما فى سيدنا الحسين والسيدة زينب حيث عبق القاهرة التاريخية القديمة. فى وسط الناس البُسطاء الطيبين والذين يعكسون أنبل وأجمل ما فى الشخصية المصرية على مر العصور. كنتُ حريصاً على الذهاب مع ضيوفى الفلسطينيين إلى مكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل.


ولو قلت الأستاذ دون ذكر اسمه لعرفناه على الفور الذى كان يُعلِّق على جدار الطُرقة المؤدية إلى مكتبه خريطة فلسطين. حيث كان هناك مراسل حربى فى الحرب الأولى والنكبة الأولى. وظلت فلسطين حتى آخر العُمر إحدى قضايا حياته الأساسية والجوهرية. ما من مناسبة فلسطينية إلا وكان معنا الأستاذ هيكل رغم تقدم العمر وقسوة الارتباطات وسطوة ما يفعله بنا الزمن. لكنه كان بيننا دائماً وأبداً.


كنا نذهب إلى نجيب محفوظ فى مركب فرح بوت الراسية على نيل الجيزة. التى كنا نجلس فيها يوم الثلاثاء من كل أسبوع مساء بعد أن كنا نلتقى فى مقهى ريش وبعد أن أُغلِقت أبوابه فى وجوهنا تجولنا فى أماكن كثيرة وسط القاهرة إلى أن رست بنا الأمور فى مركب فرح بوت حيث نيل الجيزة المُسافر فى الزمان أبداً الساهر والناس نيام ولا كلام لنا إلا عن القضية الفلسطينية التى لو قلتُ عنها قضية العُمر ما كنتُ متجاوزاً وكان فى كلامى أكبر قدرٍ من الصدق والموضوعية ووصف الأشياء بكلمات حقيقية وليست مستعارة ولا مأخوذة من أى سياقات أُخرى.


ذات صباح توجهت إلى أحد الفنادق المطلة على نيل الزمالك. كان ثمة موعد بينى وبينى الروائى والكاتب الفلسطينى الفذ إميل حبيبى لكى يذهب إلى ضريح جمال عبد الناصر. وباعتباره روائياً والرواية هى فن التفاصيل الصغيرة فكان قد جهَّز كل ما يريد حمله معه فى هذه الرحلة الحبيبة إلى قلبه، الجميلة فى وجدانه. كانت معه باقة ورد انتقى ورودها وردة وردة من محلٍ لبيع الزهور فى الفندق. وفى جيبه كان قلم حبر جديد اشتراه خصيصاً لكى يكتب به كلمة فى دفتر زيارات الضريح. وهناك وضع إكليلاً من الزهور وسمعته يقرأ الفاتحة التى كان يحفظها عن ظهر قلب ويدوِّن كلمة طويلة استغرقت صفحة كاملة من دفتر زيارات ضريح جمال عبد الناصر.


عندما كنت أشاهد العباءة أو الشال الفلسطينى فوق أكتاف أى إنسان فى شوارع القاهرة كنتُ أشعر برجفة فى القلب وهزةٍ فى النفس. فها هم أبناء قضية العُمر الكبرى ومأساة الجيل الأولى والأخيرة فى حياتنا.


فلسطين؟ أحاول أن أكبح جماح نفسى، وأن أختصر الجيشان الداخلى عندما أكتُب واهتزاز روحى وانفعال وجدانى. فلكل قضية من القضايا التى عاصرناها كان ثمة حل ونهاية إلا قضية فلسطين. طالما حلمنا بعودتها ولم تعد. بل إننا كلما مرت علينا الدقائق والساعات والأيام والليالى والأسابيع والشهور والسنوات، كلما ابتعد الحُلم عنا. وتراجع عن أنظارنا واحتل خيالنا كله. وأصبح من قضايا العُمر المؤجلة.


فى ذلك الوقت كنتُ أنتظر مجلة الكرمل التى أسسها وكان يرأس تحريرها شاعر فلسطين الكبير محمود درويش وكأننى على موعد من مواعيد العُمر الغرامية التى يحتشد الإنسان لها وينتظرها بفارغ الصبر ويحسب الوقت المُتبقى على وصولها إلينا بالأيام والساعات وربما الدقائق. وإن كنتُ الآن وأنا أكتب هذا الكلام لا أعرف مصيرها ومن المؤكد أنها توقفت ولم يعد لها وجود، ولم يبق أمامنا سوى أن نتوه فى صفحات دوواين محمود درويش أو دوواين سميح القاسم أو روايات وقصص إميل حبيبى.


إلى أن جاءت المأساة الكبرى الأخيرة وأحلم أن تكون الأخيرة وأتمنى أن تكون الأخيرة، وهالنى حجم المظاهرات اليومية فى شوارع أوروبا، بالتحديد العواصم الأوروبية المعروفة لندن وباريس وروما وبرلين ولكن ها هى المظاهرات المؤيدة للحق الفلسطينى تصل حتى إلى واشنطن وبعض عواصم أمريكا اللاتينية التى ربما أستمع إليها للمرة الأولى فى حياتى حتى أستراليا البعيدة البعيدة البعيدة. وصلها أنين فلسطين وصوته مما يجعلنى فى الليالى الطويلة أسأل نفسى: أما آن لهذا العذاب لنهاية؟ والنهاية الوحيدة التى أحلم بها قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف على كامل التراب الوطنى الفلسطينى.