الخميس 2 مايو 2024

أدب المقاومة


إبراهيم السّعافين

مقالات9-12-2023 | 15:42

إبراهيم السّعافين

يعود أدب المقاومة في فلسطين إلى زمن مبكّر من القرن الماضي، أي إلى العقدين الأول والثّاني، مستندًا إلى الوعي السّياسي الذي اتّضح على أقلام المفكّرين والأدباء  والسّياسيين ورجال الصّحافة. وقد أشار نجيب نصّار صاحب مجلّة " الكرمل" في العقد الأوّل من القرن العشرين إلى خطر الصهيونيّة وإلى أطماعها في فلسطين قبل أن يصدر وعد بلفور المشؤوم في الثاني من نوفمبر عام ١٩١٧ بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.

وقد توالت الثّورات الشّعبيّة في فلسطين في أثناء الانتداب البريطاني في أعقاب الحرب العالميّة الأولى بعدما نشطت حركة الهجرة اليهوديّة المنهجيّة المنظّمة إلى البلاد ، ونشط المفكّرون والسّياسيّون والكتّاب والشّعراء ورجال الصّحافة للتّحذير والتّنديد والمشاركة في الفعاليّات الوطنيّة والشّعبيّة، على الرّغم من تآمر الإنجليز وتسهيل الهجرة ومدّ اليهود بالسّلاح، في حين كان امتلاك الفلسطيني لرصاصة واحدة كفيلًا بأن يؤدّي به إلى حبل المشنقة. 

شهدت البلاد نتيجة ذلك عصيان واحتجاجات في سائر البلاد كانت ذروتها ثورة عام ١٩٣٦ هزّت بريطانيا التي استنجدت بملوك ورؤساء العرب الذين تدخّلوا لدى قادة الثورة والإضراب لفكّ الإضراب ووعدوهم بأنّ الصّديقة بريطانيا العظمى تنوي إجراء حلًّ عادل، ولكن الأمور أصبحت أسوأ وزادت ضغثًا على إبّالة وظلّت بريطانيا تخادع وتراوغ وتوفّر الحماية لليهود الذين قويت شوكتهم وزاد صلفهم وغرورهم.

كتب الأدباء من وحي ذلك مقالات وقصصًا قصيرة وروايات ومسرحيات ، أمّا الشعراء فقد ارتفعت أصواتهم عاليةً مندّدةً ومحذّرةً، وكان أبرزهم الشّاعر إبراهيم طوقان خريج الجامعة الاميركية في بيروت الذي كان حربًا على الاستعمار والصّهيونيّة، وذاعت قصائده بين النّاس تثير الوعي وتبعث على الحماسة ومن أشهر قصائده " الثلاثاء الحمراء" التي كتبها عام 1930 غداة إعدام الشهداء الثلاثة عطا الزّير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي في أقاب ثورة البراق، ووصف شجاعتهم النّادرة في التّسابق إلى حبل المشنقة. هذه القصيدة التي مطلعها:

لمّا تعرّض نجمك المنحوس

وترنّحت بعرى الحبال رؤوسُ

ناح الأذان وأعول النّاقوس

فاللّيل أكدرُ والنّهارُ عبوسُ

وهي قصيدةٌ غنيّةٌ في مضمونها وإيقاعها.

ومن قصائده الذّائعة الصّيت قصيدة " الشهيد" التي تجمع بين الكتابيّة والشفاهيّة في آن معًا يقول منها::

عبس الخطب فابتسم

وطغى الهول فاقتحم

رابط الجأش والنّهى

ثابت القلب والقدم

لم يبالِ الأذى ولم

يثنهِ طارئ الألم

نفسه طوع همة

وجمت دونها الهممْ

ومن أبياتٍ له في قصيدة عنوانها " الفدائي" يقول:

لا تسل عن سلامته

روحه فوق راحته

بدّلته همومه

كفنًا من وسادته

هو بالباب واقفُ

والرّدى منه خائفُ

فاهدئي يا عواصفُ

خجلًا من بسالته

ومن ينسى ما نظمه الشّاعر الشّهيد عبد الرحيم محمود بطل معركة " الشجرة"، إذ أصبحت كلماته خالدة على كل لسان وكأنّه يستشرف ما آل إليه 

سأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الرّدى

فإمّا حياةٌ تسرّ الصديق

وإمّا ممات يغيظ العدى

ونفس الشّريف لها غايتان

ورود المنايا ونيل المنى

وما العيش لا عيش إن لم أكن

مخوف الجناب حرام الحمى

إلى جانب عدد من الشعراء كانوا يسيرون على هذا النهج في التوعية وإثارة الحميّة.

وإذا كانت النكبة قد ألهبت مشاعر الكتاب والشعراء العرب وانغرست عميقًا في وعيهم وفكرهم فإنّ آثارها المباشرة انعكست في أعمال الشّعراء والكتّاب الفلسطينيين في الوطن والشتات. على أنّ الآثار المباشرة بدت في موقف المحتل من المواطنين الأصليّين أبناء الأرض وما يمارسه من عنصريّة واضطهاد ومصادرة الأراضي. لقد جابهوا هذا المحتل العنصريّ وجهًا لوجه. صحيح أن أدب الشتات يصبّ في مفهوم أدب المقاومة ولكن مصطلح أدب المقاومة نجم في الأرض المحتلة عام 1948، إذ عانى النّاس من خنق الحريات والعزل وارتكاب المذابح مثل مذبحة كفر قاسم التي سبقتها مذابح كثيرة مثل مذابح الطنطورة ودير ياسين والدوايمة وسواها. كلّ ذلك جعل شباب الشّعراء يعبّرون عن غضبهم ورفضهم للواقع، انطلق بعضهم من بعد قومي وانطلق بعضهم الآخر من مفهوم أممي حسب ما كان متاحًا تلك الأيّام 

ظهر جيل من شعراء المقاومة بين الفلسطينيين الذين شاءت لهم الأقدار أن يبقوا في ديارهم رغم تهجير بعض قراهم إلى مناطق أخرى في وطنهم يعانون من العزلة والحصار والعنصريّة وكبت الحريّات لا يتجولّون في بلادهم إلّا بتصريح من الحاكم العسكري الصّهيوني. كلّ ذلك فجّر في أرواحهم طاقة التحدّي والمقاومة بالكلمة المقاومة ومن هؤلاء الشّعراء توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش وسالم جبران و راشد حسين وكان لقصائدهم أثر كبير في رفع معنويات مواطنيهم وفي قلق المحتل الذي تنبّه على تأثيرهم وخطرهم وصلابتهم ورمزيّة شعرهم من خلال ثنائيّة الأصيل والطارئ. يقول توفيق زياد في هذا الصّدد:

من هنا مرّوا غمامًا أسودا

يقتلون الزّهرَ والأطفالَ والقمحَ وحبّاتِ النّدى

ويبيضون عداواتٍ وحقداً وقبوراً ومُدى

من هنا سوف يعودون ... وإنْ طالَ المدى

وذاعت قصيدة محمود درويش " بطاقة هويّة" في الآفاق وكأنّها المثل السّائر لمًا فيه من تعبير عن حقيقة النكبة ومعنى المأساة إذ  يقول منها:

سجّل أنا عربي

ورقم بطاقتي خمسون ألف

وأطفالي ثمانيةٌ

وتاسعهم.. سيأتي بعد صيف

فهل تغضب؟

سجّل أنا عربي

ويقول منها :

أنا لا أكره النّاسَ

ولا أسطو على أحد

ولكنّي إذا ما جعتُ

آكل لحم مغتصبي

حذار حذار من جوعي

ومن غضبي

ولسميح القاسم قصائد ذائعة في شعر المقاومة منها قصيدة " منتصب القامة أمشي":

منتصب القامة أمشي

مرفوع الهامة أمشي

في كفّي قصفك زيتونٍ

وعلى كتفي نعشي

وبعد نكبة الخامس من حزيران وظهور حركة المقاومة في العلن وبعد معركة الكرامة التي طامنت من غرور العدو الصّهيوني وهمجيته برز شعراء آخرون كانوا يكتبون لفلسطين وعن النكبة وآثارها منهم فدوى طوقان وسلمى الجيّوسي و أحمد دحبور وعز الدين المناصرة ومحمد القيسي ومؤيد البرغوثي وعبد الرحيم غنيم وعلي فودة وقد شاركوا منذ مطلع الستينيات في هذا السياق.

وللأغنية الشعبية دور كبير في هذا السياق ومن أبرز شعرائها محمد حسيب القاضي وأحمد دحبور. وأسهم مهدي سردانة وحسين نازك ورياض البندك وصبري محمود وطه العجيل ووجيه بدرخان ومارسيل خليفة وآخرون بتلحين بعض قصائد المقاومة المشهورة وغنائها إلى جانب ملحّني الثورة وفنّانيها.

وفجّرت الانتفاضة عام ١٩٨٧ الشّعر على ألسنة الشعراء، إذ أسهم كثير من الشعراء العرب في التعبير عن أفكارهم ورؤيتهم ومشاعرهم بأشكال وأبنية مختلفة ولعلّ من أبرز القصائد شيوعًا قصيدة محمود درويش " عابرون في كلام عابر" وهي تجسّد بحرفيّة عالية ثنائيّة " الطّارئ والأصيل"  إلى جانب قصيدة سميح القاسم "إلى غزاة لا يقرؤون".

وكلتا القصيدتان تتحدثان بفنيّة عالية عن موضوعة الأصيل الذي يزرع ويبني ويعمّر ويحافظ على إرثه وتاريخه منذ أقدم العصور وبين الطارئ المعتدي السّارق القاتل المتوحش الذي هو في أحسن الفروض سائح لاينتمي إلى الأرض ولا إلى تراثها وتاريخها وجغرافيتها، يدعي تاريخًا وآثارًا وهويّة.

وقد ارتبط أدب المقاومة بتطوّرات القضيّة الفلسطينية وتحوّلات رؤية المبدعين. فالعلاقة ديناميّة تستقرئ الواقع وتحلّل العلاقة المعقّدة مع العدوّ. وفي هذه العلاقة ما هو ثابت لا يقبل التغيير أو التّعديل ولو اقتضت بعض الظّروف السياسية ذلك؛ فليس المبدع كالسياسي ،

وإذا تأمّلنا روايات غسّان، وهو من أوائل من تناولوا أدب المقاومة وأشار أعلامها نراه يطرح ثيمة أساسيّة هي أنّ الحلّ الواقعي والحقيقي هو في الاتجاه نحو الغرب لا البحث عن حلول آنيّة وهميّة تبدو بديلة، لكن سرعان ما تثبت بطلانها الأيّام،  على نحو ما نرى في رائعته " رجال في الشّمسِ" التي نشرها عام ١٩٦٣ ، تلك الرّواية التي تصنع مصيرًا مأساويًّا لثلاثةٍ من أجيال مختلفة بحثوا عن حلولٍ مؤقّتة أو دائمة بعيدًا عن الوطن، ماتوا في صهريجٍ في حرّ أغسطس دون أن يدقّوا الجدران فكانت عبارة قائد الصّهريج الذي ربّما يمثّل رمز القائد الفاشل أو الفاسد "لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان" خالدة في سمع الزّمن.

وأمّا رواية غسّان كنفاني " ماتبقّى لكم" فقد كانت الفعل والرّمز حين غادر الفتى مروان غزّة بحثًا عن أمّه في الضفّة الغربيّة، ولكنّه في صحراء النّقب يقف  وجهًا لوجه أمام جنديٍّ صهيوني، فينتزع سلاحه ومطّارة الماء ليتركه يموت ظمأً، كما مات مواطنيه ظمأً من قبل في الصّهريج في روايته  رجال في الشّمس تعبيرًا عن فعل المقاومة. وظهرت ثيمة المقاومة صراحة في رواياته التّالية مثل " عائد إلى حيفا" و"أمّ سعد" إذ نرى عبارة" خيمة عن خيمة تفرق" على لسان "أم سعد" في الرّواية الأخيرة أصبحت أقرب إلى الشّعار ، وهي خيمة الفدائي التي تختلف عن رواية اللّاجئ. ومن المؤكّد أنّ الإنتاج الأدبي الفلسطيني من رواية وقصّة وشعر ومسرحيّة لا تتّسع لذكره هذه المقالة الموجزة.   
 

Dr.Randa
Dr.Radwa