الإثنين 29 ابريل 2024

حماية حقوق الشعوب ضمانة أساسية لوحدة الأوطان

مقالات13-12-2023 | 12:44

دائما ما تتجه أنظار العالم في صورته الرأسمالية المسيطرة إلى الأوطان المستقرة، وعنوان كل استقرار وبناء هو حماية حقوق الإنسان وحرياته، والتي لم تعد بطبيعتها السياسية والمدنية منفصلة عن نظيرتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هكذا الميثاق الأممي والعهدان الدوليان، ومعهم وثائق تاريخية يُكشف عنها تباعًا تبين أثر خطايا بعض الأنظمة وسلوكياتها بحق شعوبها.

ولأن المؤرخ يتعامل مع الوثيقة بعين مدققة ونظرة مجردة من أي انحياز، فأهمية الوثائق البريطانية بالأخص تكمن في كونها تقدم صورة متكاملة للمشهد في مناطق تواجد جيوش السيدة العجوز، أو ارتباط دبلوماسيتها بنقاط تأثير واضحة على الأحداث، والشخصيات أحيانا، وفي هذا الصدد يقدم الكاتب شيركو حبيب بعين الصحفي والباحث والمؤرخ، وهو أحد أمهر ممارسي المهنة ممن يجيدون الترجمة عن الإنجليزية، جهودَه العلمية في الكشف عن جوانب ومحطات مهمة في نضال وكفاح الشعب الكردي نحو حقوقه الوطنية المشروعة ودوره في حماية واستقرار المنطقة، عبر كتابين جديدين معتمدًا فيهما اعتمادًا كليًّا على وثائق بريطانية عبارة عن رسائل وتقارير كتبها المسؤولون البريطانيون في العراق في العهدين الملكي والجمهوري.
الكتاب الأول بعنوان: «حركات بارزان الوطنية في عدد من وثائق الأرشيف الوطني البريطاني حزيران 1929 – حزيران 1947»، والثاني تحت عنوان: «أزمة الخليج: الكورد في العراق والمفاوضات الكوردية-العراقية 1991 في وثائق الأرشيف الوطني البريطاني».
تؤكد الوثائق البريطانية التي يضمها الكتاب الأول تبلور المفهوم الوطني القومي لدى الكرد في وقت مبكر، وسعي هذا الشعب بقيادة البارزانيين إلى إرساء وترسيخ ذلك على أرض الواقع بالوسائل السياسية السلمية مع الحكومات العراقية بين عامي 1929-1947م، لكن الأخيرة لم تسمع إلى مطالب الكرد، ولم تحترم طموحاتهم، ولم تتعامل معهم على قدم المساواة مع بقية المكونات العراقية، وبالتالي ظلت المناطق الكردية تعاني من مظاهر الإفقار والتجهيل والتهميش وجدب من المرافق والخدمات المعيشية. ومع إصرار تمسك الكرد بحقوقهم وطموحاتهم واجهتهم الحكومات العراقية المختلفة بالقوة العسكرية والأمنية، فاضطر الكرد إلى الدفاع عن أنفسهم وديارهم، ونجحوا في ذلك في أكثر من محطة ثورية انطلاقًا من منطقة بارزان التي أخذت على عاتقها قيادة نضال الشعب الكردي في العصر الحديث بقيادة الشيخ أحمد البارزاني في ثلاثينيات القرن الماضي ثم بقيادة أخيه ملا مصطفى البارزاني منذ عام 1943م وحتى وفاته عام 1979م. 
وتشير الوثائق ذاتها إلى أن القوات العراقية عندما عجزت عن إسكات تلك الصحوة الوطنية الكردية، استعانت بسلاح الجو البريطاني، الذي به تم إفشال مساعي الثورات البارزانية عام 1945م، لتعيث القوات العراقية في القرى والبلدان الكردية فسادًا وتدميرًا، مما اضطر الثوار البارزانيون إلى اللجوء إلى القسم الكردي في إيران ليكونوا عونًا كبيرًا في تأسيس جمهورية كردستان وعاصمتها مهاباد عام 1946م التي لم يتجاوز عمرها أحد عشر شهرًا مما يضطر أغلب هؤلاء الثوار بعد ذلك إلى الفرار إلى الاتحاد السوفيتي ويبقوا في المهجر حتى سقوط النظام الملكي في العراق عام 1958م، ليعود ملا مصطفى إلى العراق عن طريق مصر والتقائه بالرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي رحب به وتقديره لحقوق الشعب الكردي باعتباره من الشعوب المهمة لاستقرار المنطقة.
هناك 55 وثيقة بريطانية في الكتاب الثاني للصحفي شيركو حبيب تتحدث عن حرب الخليج الثانية 1990-1991م التي اعتدى فيها صدام حسين على الكويت نهبًا وتدميرًا واحتلالاً، وكيف قام نظام صدام حسين باستخدام القوة الغاشمة في قمع ثورات العراقيين في الجنوب وثورة الكرد في الشمال المعروفة بـ «انتفاضة آذار 1991م» أو «الانتفاضة الربيعية»، ما اضطر الكرد إلى هجرة مليونية عصيبة إلى داخل الحدود الإيرانية والتركية هربًا من بطش وجرائم قوات صدام حسين التي ألحقتها بالعراقيين عامة والكرد خاصة، حتى اهتزت ضمائر القوى الكبرى وساعدوا الكرد وبقية العراقيين في إنشاء «المنطقة الآمنة» التي كانت بمثابة ملاذ آمن لهم ضمن الخط 36 شمالاً.

ويكشف الكتاب عن معلومات نادرة عن المفاوضات العراقية الكردية التي بدأت مباشرة عقب قمع الانتفاضة الربيعية للكرد.
الكتابان يمثلان الإنجازين الخامس والسادس لشيركو حبيب الذي أخذ على عاتقه – بحكم حِسّهِ الوطني وخبرته العلمية وتمكنه من اللغة الإنجليزية - الكشفَ عن الجديد عن تاريخ الشعب الكردي من خلال الوثائق التي تحتويها بعض الأرشيفات العالمية على رأسها الأرشيف الوطني البريطاني. وفي الواقع فإن الكتابين بحاجة إلى حلقات وندوات نقاشية لمدارسة وتحليل ما ورد فيهما بعمق وتمحيص لما يحتويانه من معلومات مهمة نستطيع أن نبني عليها لصالح منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. وقد عودنا حبيب على أن نقرر أن نتاجاته العلمية تعد إضافة مهمة في المكتبة التاريخية لما تشتمل عليه من معلومات كثيرة وجديدة، وتغير كثيرًا من القناعات التي اعتقدها البعض سلبًا عن تاريخ ونضال شعب من أهم شعوب منطقة الشرق الأوسط، والذي يعدُّ استقراره واستتباب أراضيه عامل قوة لأمن وسلام المنطقة عامة في ظل الأخطار والتحديات التي تواجها إقليمًّا وعالميًّا.

* الكاتب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأزهر وخبير بشؤون الشرق الأوسط

Dr.Randa
Dr.Radwa