● كان إيليا سليمان يحلم دائما بأن يقدم سينما جديدة ومختلفة بعد دراسته الفلسفة، عرض "يد إلهية" في دورة مهرجان كان 2002 ونال عنه جائزة لجنة التحكيم الخاصة
● يأتي طوفان الأقصى كردة فعل قوية على بشاعة ممارسات المحتل ويبقى عمل إيليا سليمان توقعا حتميا لانتصار المقاومة وهزيمة جيش الاحتلال
نبوءة المخرج إيليا سليمان " يد إلهية"، عمل إبداعي خاص جدا وشديد الرقي، إيليا سليمان صاحب " سجل اختفاء " الفيلم المهم في مسيرة السينما التي تتناول القضية الفلسطينية ليس على طريقة الأخبار المصورة أو بأسلوب السينما عالية الصوت. هو مخرج لا يكتفي بالتواجد وراء مكونات العمل الفني من تأليف وإخراج بل يحضر بشخصه مؤديا دور مواطن فلسطيني في ظروف محددة، يبدو كشخص لا يمثل ولكنه يشخص بنظراته الموجهة إلينا وكأنه يريد أن يخبرنا، (هذا أنا، وهذه حياتي، تعتقدون أنكم تعرفونها، لا ليس بعد). في العشر دقائق الأولى من "يد إلهية" يقدم لنا مشاهد تبدو متناثرة لا رابط بينها، بادئا بشخص يقود سيارته متوجها بأقذع الشتائم إلى المارة، يلقي آخر بأكياس القمامة في حديقة جارته، عجوزان يراقبان في رتابة صبي يلعب الكرة وعندما تسقط على سطح جاره لا يوبخه، ولكنه يحضر سكينا ويبقر الكرة، عنف لفظي وجسدي، سخرية من الآخر، أشكال مختلفة للعنف ترسم صورة مجتمع يعيش فيه الجميع حالة غليان حيث تسيطر الكراهية على الجميع. ووسط جو الكراهية هذا يقف المخرج مؤديا دور مواطن ينتظر حبيبته على محطة أتوبيس، يستفز انتظاره الذي يطول شخصا ساكنا بجوار المحطة فيصرخ ويخرج إليه معنفا ( فيش باس ) والمواطن مازال منتظرا يكتب على الحائط ( مجنون بحبك). هل يقصد حبيبته أم بلده التي يتحمل من أجلها صابرا وينتظر مهما كان الاستفزاز. كل هذه الصور تبدو غير مترابطة بإيقاع رتيب لم نعتد عليه نحن الذين تربينا على الفيلم الأمريكي والهندي والمصري التجاري. ولكن في حالة صبرنا ولو قليلا- والله مع الصابرين إذا صبروا- كما يصبر القاريء أمام عمل إبداعي كبير أو عند قراءته تحليلا سياسيا عميقا، إذا استطاع المشاهد أن يعبر متلقيا الدقائق العشر الأولى فسوف يدخل في نسيج العمل الذي يرسم لوحة شديدة العبث لأطراف ندينها جميعا، القنبلة التي تلقى على منزل في القدس ويخرج أحدهم فيعيد إلقاءها كما لو كانت كرة شاردة. حواجز العبور الدائمة والتي يقاومها بطلنا بصبره وطول انتظاره معبرا عن كبرياء روح المقاومة في مشهد لخطيبته التي لا تأبه لتحذيرات جنود الاحتلال وتسير في مشية مختالة بلا توقف، فتعقد الدهشة الجنود ويعجزون عن المساس بها، وفي مشهد منفذ بحرفية عالية وبالسرعة البطيئة يسقط الحاجز الذي يعتليه الجنود بينما تكون المرأة الفاتنة مستمرة في مشيتها المختالة شديدة الثقة وقد نجحت في العبور وتجاوز الحاجز دون أن يصيبها أي ضرر. وفي سيارة الجيب التي تنتظرها تتبادل مع المواطن (إيليا سليمان) لمسات الأيدي بإصرار مجنون على الحب بجانب الحواجز. جنونهما يختلف عن جنون الجندي الإسرائيلي الذي سئم الدور الذي يقوم به على الحاجز فيقدم عرضا هزليا بإخراج الفلسطينيين من سيارتهم ويجعهلم يركبون سيارات أخرى ويجبرهم على التغني بنشيد إسرائيلي.
المشاهد الفائقة في " يد إلهية" لا تنتهي ففي المستشفى ينتحر الجميع حيث يخرج الكل إلى الردهة بعد نزع أجهزة العناية المركزة، يدخنون بشراهة، مرضى وأطباء، مجتمع ينتحر فيه الجميع، الضحايا والجلادون. في المستشفى يلتقي أشخاص شاهدناهم في المشاهد السابقة تجمعوا الآن في ساحة الجنون هذه. لايقدم إيليا سليمان ما يتوقعه المشاهد أبدا، بل يكسر كل التوقعات، كما في مشهد على الحاجز حيث تم تذنيب ثلاثة شبان فلسطينيين، أضحك بمرارة متذكرة تلاميذ في فصل دراسي يتم تذنيبهم برفع الأيدي عاليا، تصل سيارة مسرعة ينزل منها ثلاثة إسرائليين متأنقين، نتوقع أن ينهالوا ضربا على الشبان الفلسطينيين كما يحدث ونشاهدهم في نشرات الأخبار، ولكنهم يمسحون أحذيتهم برفع الأقدام على حاجز الرصيف بحركات متوافقة وكأنهم يؤدون رقصة ثم يصعدون إلى السيارة التي تنطلق بسرعة. هذا القدر من الآلية ومن توترنا الماثل في شعورنا بإهانة ترك الموقوفين الفلسطينيين لأجل غير مسمى، مختلف عن التعامل مع الموقف وتكرار ما يحدث تماما في الواقع. ليس في أسلوب المخرج إعادة إنتاج الواقع كما نعرفه فعمله الفني يقدم صورا تعطي بديلا عن الواقع الفج لتظهره أشد قسوة وإيلاما مما اعتدنا عليه. نأتي إلى المشهد الفائق لبالون عرفات الذي يرتفع كروح حارسة تطوف الأماكن المقدسة وكل معالم القدس وسط فشل الجنود الإسرائيليين وعدم قدرتهم على التعامل معه. تصحب البالون بصورة عرفات سيارة البطل وحبيبته كروح حارسة. الفيلم يكاد يكون صامتا، وإذا أضفنا إلى صمته طول اللقطات وبعد الكاميرا عن الأشياء في لقطات شديدة الاتساع من عين المخرج المراقب نعرف لماذا استحال على الكثيرين من المتلقين التواصل مع " يد إلهية" ولكن لو دربنا عيوننا على السينما الجميلة غير المباشرة لوصلنا إلى النهاية قبل أن يفصح عنها إيليا سليمان عما يمكن أن نكون قد أحسسنا به فيقدم وحدة مشهدية تصل للجميع عن الفتاة رمز المقاومة التي لا تقهر، تحارب بدرع صغير على شكل خريطة فلسطين وإكليل الشوك نجوم حول رأسها، تتغلب على القائد الإسرائيلي وجنوده المدربين تدريبا عاليا، وباستعارة من أفلام الحركة الأمريكية وهي إحدى سمات سينما ما بعد الحداثة في استخدام الأسلوب الجماهيري الشائع ليقدم معاني واضحة، ينتصر فيها لفكرة المقاومة بشكل مباشر بعد أن قدم للمناخ العبثي للحياة في مدينة الناصرة عند نقطة العبور بين القدس ورام الله.
كل ما سبق بعض مما يمكن التوقف عنده كنوع من التتبع لخيوط الفيلم الكثيرة، دون التوقف عند خط يحكي موت الأب، وهو الشخص اليائس الذي كان يسب الجميع في المشهد الافتتاحي، ودون رصد علاقته بابنه (إيليا سليمان) ممثلا دوره في الفيلم.
النهاية مع حلة الضغط على النار والبخار يتصاعد بشدة ينذر بالانفجار تعبيرا عما يمكن أن تصل إليه الأوضاع. كتبت المقال بعد أن حضرت عرض الفيلم في عام 2003 أي منذ عشرين عاما من الآن، وها هي الأوضاع تتفجر بعد حصار غزة وطول معاناة للشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، يأتي طوفان الأقصى كردة فعل قوية على بشاعة ممارسات المحتل ويبقى عمل المخرج توقعا حتميا لانتصار المقاومة وهزيمة جيش الاحتلال.
إيليا سليمان فلسطيني من الناصرة كان يحلم دائما بأن يقدم سينما جديدة ومختلفة بعد دراسته الفلسفة، عرض " يد إلهية " في دورة مهرجان كان 2002 ونال عنه جائزة لجنة التحكيم الخاصة.