السبت 1 فبراير 2025

مقالات

أدب المقاومة الفلسطينية...سيف ومقلاع


  • 13-12-2023 | 13:32

.د غانم السعيد

طباعة
  • .د غانم السعيد
  • شعراء فلسطين هم أكثر شعراء العربية إنتاجا للأدب المقاوم لأنهم هم من اكتووا بنار المحتل الذي حولهم إلى لاجئين إما في أوطانهم أو في بلدان العالم
  • الذين برزت أسماؤهم على الساحة الفلسطينية، وكانت أشعار أدباء فلسطين تشد من عزيمة رجال المقاومة المسلحة، وفي ذات الوقت كانت  رصاصا وقنابل تُلقى على نفوس عدوهم

 

المقاومة في معناها العام غريزة وفطرة أصيلة في الكائن الحي تجعله يقاوم كل ما يوجَّه له، مما يسوؤه أو يضره بطريقة تلقائية؛ فاليد- على سبيل المثال- تُرفع لا شعوريًّا في وضع دفاعي عندما ترى أي شيء سوف يسقط على صاحبها؛ كما أن الله- سبحانه وتعالى- جعل في جسم كل كائن حي مقاومة ذاتية تدفع عنه أي جسم غريب يحاول أن يهاجمه ويقتحم حصونه، وهو ما يعرف ب (المناعة).

 ولا تقتصر المقاومة على الإنسان وحده بل نجدها عند الحيوان؛ ألا ترى الهرة كيف تستنفر مخالبها، وتكشر عن أنيابها، وتتنمر إذا أحدق بها أو بأولادها الخطر؟، كما نجد المقاومة - أيضا- عند بعض النباتات كشجر الليمون، والتين الشوكي فأشواكها تدمي يدي من يحاول الاقتراب منها والاعتداء عليها إن لم يأخذ حذره.

ومن أعظم أنواع المقاومة لدى الإنسان عموما  والمسلم بصفة خاصة المقاومة من أجل الحفاظ على النفس والمال والعرض والأرض والمقدسات، ونظرا لما تحتله الأوطان وما فيها من مقدسات من مكانة في النفس فإنها تجعل الإنسان يقدم من أجل الحفاظ عليها من أي معتد أغلى ما يملكه ( نفسه وماله).

 والمقاومة للمحتل والدفاع عن الأرض حق مكفول في جميع الملل والشرائع، كما أقرتها الأعراف والقوانين الدولية، واستمداد المشروعية -عند المسلم- لا يفتقر إلى ذلك؛ لأن أساسه الوحي المعصوم، ومواده آيات القرآن الكريم؛ فالحق -جل وعلا- يقول: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْما نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 12- 14].

وفي سنة سيد المجاهدين - صلى الله عليه وسلم - فعن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد"رواه الترمذي

ومقاومة المحتل الغاصب للأرض والمقدسات لا تتوقف عند بذل النفس والمال فقط؛ وإنما لها أشكال كثيرة متعددة، بحيث يمكن لأي فرد أو جماعة أن يكون لها دورها الذي تستطيعه في القيام بواجبها في هذه المقاومة، ومن أشكال تلك المقاومة المهمة، المقاومة بالكلمة بمعناها المجازي، أي: الخطبة، القصيدة، المقالة، الراوية، القصة القصيرة، المسرح .. الخ، من ألوان الأدب المعروفة.

وأهم قضية دافع ولا يزال يدافع عنها العرب والمسلمون هي قضية فلسطين، والمسجد الأقصى.

 فمنذ نشأت القضية بوعد بلفور عام ١٩١٧م إلى قيام حرب فلسطين عام ١٩٤٨م وحتى الآن ومقاومة الكيان الصهيوني المحتل الغاصب  مستمرة وستستمر من كل العرب والمسلمين حتى يرحل هذا الغاصب عن فلسطين وأقصانا، ومع بداية القضية تفجر معها ما عرف بأدب المقاومة، وقد تكامل هذا النوع من الأدب واشتد بنيانه وصار من موضوعات الشعر الفلسطيني منذ بداية  حرب عام ١٩٤٨م.

 وكان شعراء فلسطين - سواء من بقي منهم بالداخل أو من هُجِّر إلى بلاد الشتات- أكثر شعراء العربية إنتاجا للأدب المقاوم لأنهم هم من اكتووا بنار المحتل الذي حولهم إلى لاجئين إما في أوطانهم أو في بلدان العالم؛ ولهذا ظلت قلوبهم معلقة بوطنهم، كما عملوا بحرص شديد على أن يوظفوا إبداعهم الأدبي في مقاومة المحتل من خلال بعث الثبات، والصبر، والطمأنينة في شعبهم الرازح تحت براثن الاحتلال وبطشه، كما كانوا يحرضون أبناء وطنهم على مقاومته والثورة عليه، ويكشفون لهم عن خططه وأهدافه الخبيثة ويبشرونهم بالنصر القريب الذي ستحققه التضحيات بالغالي والنفيس، فكان أدبهم في معركة التحرير سيفا ومقلاعا يرمون به عدوهم فيتلظى منه وجعا وألما.

وكان من أشهر أدباء المقاومة الفلسطينية الذين برزت أسماؤهم على الساحة الفلسطينية، وكانت أشعارهم تشد من عزيمة رجال المقاومة المسلحة، وترفع من روحهم المعنوية، وفي ذات الوقت كانت  رصاصا وقنابل تُلقى على نفوس عدوهم فيهزمونه هزيمة معنوية حتى عدَّهم العدو الصهيوني أهدافا مشروعة له فتمكن من خلال جهاز اغتيالاته (الموساد) أن يغتال بعضهم، كما فعل مع الروائي والقاص  والصحفي غسان كنفاني الذي اغتاله الكيان الصهيوني في لبنان عام ١٩٧٢م.

-من أشهر هؤلاء الشعراء-: فدوى طوقان. وأخوها إبراهيم طوقان، والشاعر الكبير محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد. وعبد الكريم الكرمي(أبو سلمى). وعبد الرحيم محمود، والشاعر الغزاوي هارون هاشم رشيد، مندوب فلسطين الدائم في الجامعة العربية لمدة ثلاثين عاما، وهو من أكثر شعراء فلسطين استخداما لمفردات العودة في شعره.

ولو أخذنا نماذج من شعر هؤلاء الشعراء المقاومين، فسندرك قيمة هذه الشعر المقاوم وأثره العظيم في نفس مستمعيه، أو قارئيه، فإن ما فيه من صدق الإحساس، وقوة العاطفة، وما يشتمل عليه من مضامين يؤز النفس أزا، ويثير فيها الغضب والرغبة في النقمة من هذا العدو الغاصب، كما يبعث في الوجدان شدة الشوق والحنين إلى الأوطان والديار.

ومن نماذج هذا الشعر، تلك الأبيات التي كتبتها فدوى طوقان، وأوصت أن تكتب على قبرها، وفيها تقول:

كفاني أموت عليها وأدفن فيها

وتحت ثراها أذوب وأفنى

وأبعث عشبًا على أرضها

وأبعث زهرة إليها

 

وينشد أخوها إبراهيم طوقان نشيده الوطني (موطني، الجلال الجمال)، فيقول في حماسة واستثارة:

السَناءُ وَالبَهاءُ في رُباك

وَالحَياةُ وَالنَجاةُ

وَالهَناءُ وَالرَجاءُ في هَواك

هَل أَراك

سالماً منعّماً

وَغانِماً مكرّماً؟

هَل أَراك

في عُلاك

تبلغ السماك

 

ويتحدى توفيق زياد المحتل، بأننا باقون ولن نرحل عن أوطاننا مهما كانت التبعات والتضحيات. فيقول في قصيدته (كأننا عشرون مستحيل):

كأننا عشرون مستحيل

في اللد والرملة والجليل

هنا على صدوركم باقون كالجدار

وفي حلوقكم

كقطعة الزجاج كالصبار

وفي عيونكم

زوبعة من نار

 

ويقول الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود مستهينا بالموت في سبيل العزة والكرامة:

سأحمل روحي على راحتي * * وألقي بها في مهاوي الردى

فإمّا حياة تسرّ الصديق * * * وإمّا مماتٌ يغيظ العدا

ويقول الشاعر محمود درويش في قصيدته (سجِّلْ، أنا عربي) مهددا ومتوعدا هذا المحتل الغاصب الذي اغتصب منه أرض آبائه وأجداده، التي كانوا يمتلكونها ويعيشون في خيرها، وقام بتهجيرهم إلى أرض صحراء قاحلة لا يكاد يجد فيها ما يأكله:

سلبتَ كرومَ أجدادي

وأرضاً كنتُ أُفلحُها

أنا وجميعُ أولادي

ولم تتركْ لنا ولكلِّ أحفادي

سوى هذي الصخورِ

 

أما الشاعر سميح القاسم فإنه يعلن أنه لن يساوم على وطنه، وأنه سيقاوم المحتل الغاصب مهما كان نوع وحجم الأذى الذي سيتعرض له، فيقول في تحد وإصرار:

ربما أفقد – ما شئت - معاشي

ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي

 

إلى أن يقول:

يا عدو الشمس لكن لن أساوم

وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم.

 

أما الشاعر هارون هاشم رشيد فيؤلمه كثيرا الطفولة الفلسطينية البريئة المعذبة بالحرمان من الحنان والحب، ومن اللعب واللهو، وكل ما يبعث في نفوسهم البهجة والسعادة، كأنما قدر عليهم ألا يذوقوا إلا طعم الألم والذل والتعذيب والتشريد، فيقول:

هذا الصغير الذي اغتيلت طفولته**

ماذاق في عمره لهوا ولا لعبا.

 

ولا استراح إلى صدر يهدهده**

كما الصغار ولا غنى ولا طربا.

 

لف الجناح على جرح يعذبه **

وآثر الصمت محزونا وما عتبا

 

كما يؤلمه ويشقيه ويحزنه، أوضاع  الأسرى المساجين، الذين يعيشون كالأموات المعذبين في زنازين العذاب، حيث يذوقون المر والذل والهوان وهم أعز وأغلى الشجعان من الرجال والنساء، فيقول:

عيني عليهم في ظلام القهر في السجن الكبير

عيني عليهم بين موقوف ومسجون ومعتقل أسير

عيني عليهم في زنازين العذاب المر، ليل الزمهرير

أغلى الرجال همو، وخير نسوة الشعب الجسور.

 

وفي بلاد المنافي حمل الفلسطيني حلمه على ظهره، وتوزعت به جغرافيا الألم، ومنفى القهر، ولعلّ في لهفة الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى" خير شاهد وهو لا يتخيّل الحياة بعيداً عن فلسطين؛ مما يزيد الحسرة ويضاعف اللهفة، فهو القريب البعيد، والساكن الشريد، ولصدق هذه المشاعر، وانسياب كلماته العذبة، وتصويراته الرقيقة الحزينة، أصبحت هذه الأبيات من أشهر ما قيل في الحنين إلى الوطن، والاشتياق له، فيقول:

فلســطينُ الحبيبةُ... كيفَ أحــيا

بعيداً عنْ ســهولكِ والهضابِ؟!

تُناديني الســُّـــفوحُ مخضبات

وفي الآفــاقِ آثارُ الخضــابِ

 

ويتضح من هذه الأبيات، كم هي اللّهفة على الوطن الذي غاب عن العين، وما غاب عن القلب، وكيف يصبح الوطن باعثا لأجمل القصائد ومذكرا بأغلى الأحبة؟.

إن هذا الكم الهائل من الحنين الشعري، لم ينضب عند الأجيال التي وُلدت في الشتات، ومنافي الاغتراب، بل إنّ الحكاية ترتسم في أشعارهم من جديد ويتابعون مسيرة الحنين إلى الوطن.

ويبقى الأدب المقاوم أيقونة الشعر الفلسطيني من زمن النكبة إلى زمن الانتصار الذي بدأت تباشيره تلوح في الأفق، حيث نراه قريبا و يراه المحتل الغاصب بعيدا.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة