الخميس 9 مايو 2024

القضية الفلسطينية في مسرح محمود دياب

أ.د. محمد عبد الله حسين

ثقافة14-12-2023 | 10:27

أ.د. محمد عبد الله حسين

محمود دياب كاتب صاحب رؤية، متمكن من أدواته الدرامية وعلى وعي تام بحركة التاريخ؛ بوصفه مستوعبا لا راصدا.

مسرحية "رجل طيب في ثلاث حكايات" عبارة عن ثلاث حكايات منفصلة متصلة؛ يربطها خط درامي واحد، يكاد يكون بطلها واحد، والقضية واحدة.

تناول دياب الصراع العربي الصهيوني من جانبيه الفكري والسياسي، عارضا رؤيته في حل المشكلة على ألسنة شخوصه، بما يعكس وعيه بالقضية وتطورها.

ببراعة الدرامي المتمكن من أدواته محمود دياب  يستخدم في الحوار الدرامي لغة مكثفة ومختزلة ومائزة ومعبرة.

لم تحظ القضية الفلسطينية باهتمام كاتب درامي مثلما اهتم بها محمود دياب، ولم يسبقه كاتب درامي في ذلك إلا علي أحمد باكثير، صاحب مسرحيات (شيلوك الجديدة)، (إله إسرائيل)، (شعب الله المختار)، وقد تناول محمود دياب القضية بوعي عميق بحركة التاريخ وإفرازات اللحظة الراهنة، واستشراف مستقبل الصراع العربي الصهيوني.

 يمكننا أن نقسم أعمال دياب المسرحية التي تناولت القضية الفلسطينية إلى قسمين حسب التطور التاريخي للقضية:

الصراع العربي الصهيوني.
خصوصية الصراع المصري الصهيوني.

 والقسمان لا ينفصلان أبدا، ففي القسم الأول أبدع ثلاثيته الرائعة (رجل طيب في ثلاث حكايات) هي على الترتيب:

 الغرباء لا يشربون القهوة.
 الرجال لهم رؤوس.
اضبطوا الساعات.

وفي القسم الثاني واكب نكسة 67، ونصر أكتوبر 73، ومعاهدة كامب ديفيد من خلال هذه  المسرحيات:

 باب الفتوح.
رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام (لاحظ طول العنوان).
أرض لا تنبت الزهور.

 وفيها اتضحت صورة الصراع المصري الصهيوني بشكل لافت ومائز، ولكنني هنا سأقف عند القسم الأول: الصراع العربي الصهيوني.

لقد كتب دياب (رجل طيب في ثلاث حكايات) وهو يعي تماما أن الصراع العربي الصهيوني ليس صراعا عسكريا فحسب؛ ولكنه صراع حضاري حيث يمتلك أحد طرفي الصراع (الرجل الطيب) (العرب) عمقا حضاريا راقيا وإرثا إنسانيا عظيما، بينما الطرف الآخر (الصهيونيون) يفتقر إلى مقومات الحضارة؛ فلا عرق يجمعهم، ولا لغة واحدة لهم، فهم شتات من مختلف بلاد العالم، وهم ليسوا شعبا واحدا متجانسا -ينتمي إلى بناء حضاري واحد- ولا تاريخ مستقل يميزهم عن بقية الشعوب، ولا يجمع بينهم سوى العقيدة الدينية، والتي لم تسلم هي أيضا من التفتت بين فئاتهم المختلفة.

 ولعل ما أكده جيمس هنري في كتابيه (العصور القديمة) (فجر الضمير) من أن بني إسرائيل (قوم موسى) عندما جاءوا إلى بلاد كنعان كانت المدن الكنعانية ذات حضارة قديمة منذ ألف وخمسمائة سنة قبلهم، وقد اقتبسها هؤلاء العبرانيون من مواطني كنعان، وكان هذا راسخا في ذهن محمود دياب، وهو يشرع في الكتابة عن القضية، وتطور الصراع العربي الصهيوني.

إن مسرحية (رجل طيب في ثلاث حكايات) التي كتبها دياب 1970 عبارة عن ثلاث حكايات منفصلة متصلة؛ يربطها خط درامي واحد: (الغرباء لا يشربون القهوة)، (الرجال لهم رؤوس)، (اضبطوا الساعات) ربط بينهم الكاتب بعنوان جامع، يكاد يكون بطلها واحد، والقضية واحدة؛ فخطيبة الرجل تتجاوز معناها الحميد إلى الضعف والاستسلام في الحكاية الأولى، والسلبية والسكوت عن الحق وكشف الفساد في الثانية، والتردد والمسالمة وضعف الشخصية في الثالثة.

 لقد تناول دياب مشكلة الصراع العربي الصهيوني من جانبيها الفكري والسياسي، عارضا وجهة نظره في حل المشكلة الفلسطينية على ألسنة شخوصه، بصورة تعكس وعي الكاتب بالقضية وتطورها.

 يقف دياب في الحكاية الأولى أمام طبيعة الحركة الصهيونية؛ بوصفها حركة عنصرية، استقرت في قطعة من الأرض العربية في فلسطين، أعطيت لها دون سند من الطبيعة أو التاريخ، رغم أنف أصحابها الحقيقيين، ويتعرض دياب للقضية مبينا كيفية اغتصاب الأرض، مبرزا سياسة القهر الصهيونية، مؤكدا على أن أهل البلاد الأصليين لم يتهاونوا في شبر واحد من الأرض، كاشفا بهذه الصورة زيف الدعاية الصهيونية التي صدقها العرب؛ والتي تقول: (إن الفلسطينيين باعوا أرضهم) وذلك لكسر حدة التحمس العربي للقضية الفلسطينية؛ فالأمر كله -من وجهة نظر دياب- لا يتعدى التهاون النابع من طيبة أصحاب البيت -في ظل التمزق العربي- تجاه الغرباء.

 ولعل عنوان الحكاية واضح الدلالة، والغرباء يرمز بهم الكاتب الصهيونيين، والقهوة يرمز بها للأطفال العرب؛ بوصفها مشروبا عربيا أصيلا، وعدم شرب الغرباء للقهوة يعني عدم الانسجام بين الغرباء وأصحاب البيت.

 منذ اللحظة الأولى في المسرحية يبرز دياب التناقضات الموجودة في العالم العربي، نتيجة للسيطرة الاستعمارية على المنطقة، وتحكم الاستعمار في مقدرات الشعوب، فالرجل الطيب يعيش معزولا بعد وفاة صديقه الوحيد (عبدالقدوس)،  وابتعاد الجيران عنه، ليس له سلوى سوى احتساء القهوة العربية، وقراءة الصحف؛  باحثا عن بارقة أمل -من خلال قراءته لصفحة الطالع- سرعان ما يتبدد الأمل عندما يقرأ طالعه (تلتقي بصديق قديم... صفقة طيبة... العناية الإلهية ترعاك) وليس له صديق سوى عبدالقدوس، وقد مات، وهو ليس تاجرا ليعقد الصفقات، أما العناية الإلهية فهي لا شك فيها في عالم اختلط فيه الحابل بالنابل وضاعت فيه الحقوق:

الرجل:لابد أن الأبراج اختلطت في الجريدة… وارتبكت المسائل... سقطت العذراء  

         في الدلو... وتسلل العقرب إلى برج الأسد... واقتحم الحوت برج الحمل...

         مهما يكن، فالعناية الإلهية لا شك فيها، وهي تجب كل هذه الأمور.

فبينما يجلس الرجل في بيته يقتحم الغرباء البيت، فيدخل أحدهم ليلقي نظرة على البيت ومحتوياته، ولا يسلم على أهله، ولا يشرب القهوة، ثم يخرج، بعدها يزداد العدد؛ فيدخل غريبان، ويشرعان في قياس واجهة البيت، ودراسة الموقع، وعد النوافذ، وتحديد الأماكن المحيطة به، دون كلام ولا سلام، ولا يشربان القهوة.

 

منتهى الإرهاب أن يشعر الرجل بغربته في بيته، رغم طيبته الواضحة في الحديث مع الغرباء، إلا أنهم يرهبونه باقتطاع سنتيمترات من الأرض نصفا فنصفا، كلما أعادوا القياس:

 الغريب (1): تسعة وأربعون مترا وخمسة.....

 الرجل: (مقاطعا) إن ما أعرفه أن هذا البيت بيتي، وأن واجهته خمسون مترا

               بالتمام، وإذا كنت لم أفكر في إعادة قياسه منذ زمن بعيد؛ فثقتي

              بالأرض لا يمكن أن تضمر بفعل الزمن، ها أنا ذا أعيدها... وأصر

              عليها!!!

 يصرخ الرجل متسائلا عما حدث له، فقد بردت قهوته، ولم يجد من يشربها، والجيران نيام، والبيت يسلب، وهذا التصور للقضية يعكس ما حدث تاريخيا بالفعل؛ فقد سلب الصهيونيون الأرض -في ظل نوم العرب وتفرقهم- يساندهم في ذلك مستعمر بغيض، والثابت تاريخيا أيضا أن البيت نفسه يلفظ الغرباء؛ فالكيان الصهيوني عبارة عن جسم غريب له طبيعة خاصة، لا تنسجم مع الطبيعة العربية، فالغرباء كما صورهم دياب إرهابيون يحملون بطاقات صفراء، يحاولون العيش وسط الطيبين، ولكن لا يمكن أن تتجانس الطبيعتان مهما طال الزمن؛ فإنكار الوجود على كل ما ليس صهيونيا سمة من سمات الروح الصهيونية، فهرتزل مثلا -بوصفه من مؤسسي الحركة الصهيونية- لا يشير في كتابه (الدولة اليهودية) 1886 إلى العرب من قريب أو بعيد، وقد أكد في عام 1885 أن المشروع الصهيوني واضح للغاية وسهل للتحقيق: (إعطاء أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) وفي ذلك الوقت كان يعيش في فلسطين نصف مليون نسمة، وحين سئل (أينشتاين وأيزمان) أحد القادة الرئيسيين للمنظمة الصهيونية العالمية: وماذا سيحدث للعرب إذا أعطيت فلسطين لليهود؟ أجاب: (أي عرب؟ إنهم قليلو الشأن).

 يزداد الامر سوءا، ويحاول الغرباء محو هوية الرجل، وتغيير معالم البيت بكل الوسائل والطرق غير المشروعة؛ فيمزقون حجة الملكية، وشهادة ميلاد الرجل، ووثيقة زواجه، وكل ما يثبت ملكيته للبيت، واصفين إياه بأنه عجوز، متهالك، متآكل، تسكنه الأشباح، يموت بجرة قلم واحدة!!

الرجل: لا يا سادة... لا... ليس الأمر بالبساطة التي تتوهمون، هذا البيت

              بيتي، وقد جاءني ميراثا عن أبي، وجاء أبي ميراثا عن جدي، وانتقل

              إلى جدي ميراثا عن أجداده، فأنا أصيل وملكيتي لهذا البيت أصيلة،

              لقد عشت حياتي كلها مالكا له بقدر ما أنا مالكا لنفسي، ولدي ألف

              دليل ودليل.

كبير الغرباء: أنت تذكرنا بألف ليلة.

الغرباء: وليلة.

إن محمود دياب -ببراعة الدرامي المتمكن من أدواته- يستخدم في الحوار الدرامي لغة مكثفة ومختزلة ومائزة ومعبرة، فتلاحظ طول الجملة الحوارية على لسان الرجل الطيب، بينما هي قصيرة على لسان الغرباء، وهذا في حد ذاته يسهم في إبراز القضية؛ فالجملة القصيرة تعني الوصول إلى الهدف من أقصر طريق، حيث الهدف هو البيت وإضعاف الرجل وإفقاده الثقة فيمن حوله، أما الجملة الطويلة ترديد للشعارات التي يريد بها الرجل إثبات ملكيته للبيت -وهو ليس مطالبا بذلك أصلا- ولكن لابد من الصوت المرتفع وسط عالم منحاز للمغتصب، وجيران موتى وسكارى.

في هذه المسرحية المتقنة الصنع يطرح دياب رؤيته الأولى حول حل هذه القضية المعقدة؛ وهو المواجهة... البندقية حلا... حيث يفاجئنا الرجل الطيب بأن له ابن مهاجر، ولابد أن يرسل له برقية مفادها أن الغرباء قد استولوا على البيت، فلابد أن يحضر فورا، ولا ينسى أن يحضر معه بندقية!!

 هكذا أنهى دياب حكايته الأولى (الغرباء لا يشربون القهوة) بوجهة نظر حاسمة؛ إذ لابد أن يعيش الأبناء داخل الدار لا خارجها، حاملين معهم بنادقهم، للدفاع عنها ضد الغرباء المغتصبين، ولكن البندقية وحدها لا تكفي؛ فلابد من فكر يحمل هذه  البندقية، فكلاهما يحتاج إلى الآخر؛ البندقية تحتاج إلى فكر يوجهها، والفكر يحتاج إلى بندقية تحميه، ولكي يتحقق ذلك لابد من اليقظة، ولابد من التخلص من السلبية أو الطيبة، ولابد من خروج الجيران من بيوتهم وعودة الوعي إليهم، لابد من إعادة الرؤوس إلى جثث تحمل فكرا منظما وموحدا لطرد الغرباء، وهذا ما طرحه دياب حلا آخر على لسان شخوصه في حكايته الثانية (الرجال لهم رؤوس) حيث يجلس الرجل الطيب وحيدا منكفئا على ذاته نادبا حظه، لا يفعل شيئا سوى لعب الورق (الكوتشينة) مع زوجته، والكوتشينة ينقصها ورقة مهمة جدا، بل أهم ورقة فيها؛ وهي ورقة الولد الذي لا يزال الرجل يبحث عنه، وهذا يحيلنا تلقائيا إلى الحكاية الأولى؛ ليؤكد دياب فشل الحل الأول الذي طرحه، ذلك لأن صاحب البيت غارق في سلبيته، تخطوه في الترقية، ومديره يضطهده، وهو لم يرمش له جفن، لا يجيد شيئا سوى الذهاب إلى العمل، والمكوث في المنزل يلعب الورق مع زوجته، وأحيانا يمر عليه من آن لآخر صديقه الوحيد (خيري) ضابط المباحث، وربما يلعب معه دورا ويشرب قهوته ويمضي!!

 بينما هو كذلك يدق جرس الباب، يفتح، فيجد صندوقا كبيرا مغلقا وكأنه طرد بريدي كبير يدخل الصندوق بصعوبة بالغة، يفتحه فيجد جثة مقطوعة الرأس، واختيار الرأس المقطوع بدأ -فنا- في الستينيات وبداية السبعينيات، والمحك الحضاري -الذي كان ولا يزال يبلور هذه  الرؤية وهذا الاختيار- هو الصراع العربي الصهيوني؛ لأنه بشكل أو بآخر يحرك كل الجهات الأخرى سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو فكرية... وهذا الاستدعاء يجعل المتلقي يشعر على الفور بالمحك الرئيس للصراع في الدراما، وهو الصراع بين الصهيونيين والعرب (الرجل الطيب)، ورمز الجثة المشوهة والرأس المقطوع واضح هنا، ولا يحتاج إلى تعسف في التاويل؛ من خلال الربط بين الرجل الطيب والجثة التي غاب عنها رأسها، رمز فكرها، ولا سبيل إلى كمال وجودها إلا بعودة الرأس إليها:

الرجل: أين ذهب الرأس.. أين ذهبت؟ سرقها المرابون.. سرقها الشيال الوغد، بم

            أجيب إذا سئلت عن الرأس، فلا شك أنه كان له رأس، سيحاكموني عن

            الجريمتين القتل والسرقة.. أنا لم أقتل ولم أسرق.. لم أكذب.. لم أشهد

            شهادة زور.. لم أفعل شيئا بالمرة.

تعقدت المشكلة، ولم يكن إلقاء الجثة في الشارع وسيلة خلاص نهائية منها، إنها عار تعلق بشباك الرجل، الذي بدأ يشعر بالمسئولية، وإن كان شعورا مؤقتا، ففكر في حيلة، فكر أن يجعل الصندوق منضدة، يضع عليها مفرشا من القماش، ومن فوقها باقة ورد؛ حتى لا تنكشف الجريمة أمام خيري.. الذي قد يحضر بين لحظة وأخرى!!

 يطرح دياب القضية بعمق من خلال الصراعات المعقدة داخل المسرحية؛ سواء بين الرجل وزوجته، أو بين الرجل ونفسه، وتوقع حضور خيري في أية لحظة من ناحية ثالثة، وخيري شخصية غائبة استخدمها دياب في الدراما ليزيد من التوتر الدرامي على خشبة المسرح، وليجعل ذهن المتلقي في حالة حضور دائم وترقب مستمر.

 تتطور شخصية الرجل الطيب داخل الدراما عندما يدق جرس الباب، ويفتح، ويجد صندوقا صغيرا به (الرأس المقطوع) مع برقية تقول: (نأسف فقد سقطت الرأس سهوا عند التعبئة!!) يواجه الرجل نفسه:

 الرجل: إن فرسان هذا العصر ليسوا بالشجعان كما تتوهمين، في هذا العصر لا

            يكون الإنسان فارسا إلا وبيده قنبلة.......... وقع الأمر سهوا، إن أبشع

           الأخطاء تبرر عادة بالسهو في هذه الأيام؛ ابتداء من العبث بالترقيات،

           حتى فصل الرأس عن صاحبها، لم أكن لأدهش لو كان هذا الخطاب

           موقعا من مدير شركتنا!!.

 يقر الرجل بأن هذا الإنسان مقطوع الرأس -الذي يشبهه- قد حمله مسئولية دعواه ضد من سفكوا دمه؛ فالجثة تخصه وقضيتها تخصه أيضا حتى نهايتها.

إن استدعاء النظير الواقعي للنظير التاريخي بهذه  الصورة قد أثمر عن هذا الفهم للقضية من قبل الرجل الطيب، لذا يقرر أن يذهب بنفسه إلى رجال الشرطة لإبلاغهم أن في بيته جثة مقطوعة الرأس، ويوضح لهم ملابسات الجريمة؛ بوصفها خطوة أولى بالطريق الصعب.

إن محمود دياب قد جعل الرجل الطيب يستدعي الابن الغائب، طالبا أن يحمل بندقية في الحكاية الأولى، ثم يكتشف أن رحم زوجته غير مهيأ لحمل طفل في الحكاية الثانية، وليس أمامه سوى البحث عن كوامن القوة في داخله، وتحمل مسئولية وجوده بمفرده، وبذلك يصبح المكان مهيأ لاستقبال الأمل القادم، وانتظاره بعد عودة الفكر والوعي، وهذا ما حدث في الحكاية الثالثة (اضبطوا الساعات).

 يؤكد دياب في الحكاية الثالثة على ضرورة وجود الابن، فنجد الزمن يمر والساعة تدق، ونحن في انتظار القادم، فنرى أسرة الرجل الطيب في حالة ترقب وانتظار وتوتر؛ ينتظرون أملين: أولهما الحبيب (مجدي) الذي خطب ابنتهم الكبرى (عايدة)، وترك الديار، وهاجر منذ عشرين سنة، وفجأة يرسل برقية، يقول إنه عائد لإتمام الزواج.

 والأمل الثاني الابن الصغير الذي تحمله ابنتهم ثريا، فالأمل الثاني أمل داخلي مشروع، من الممكن تحقيقه لأنه ملك قبضتي الزمان والمكان، بخلاف الأمل الأول (الحبيب القادم) فهو أمل خارجي، قابل للتحقيق وعدمه؛ لأنه غير مرتبط بالزمان، بل وغير معروف المكان، وكل الأماني المتعلقة بحضوره قابلة للإجهاض؛ فقد لا يأتي مثل (جودو) أو يأتي فنكتشف عجزه، فيخيب آمالنا، وفائدة انتظاره هنا هو مقاومة اليأس، وذلك باحتمال وصوله بين لحظة وأخرى، حتى يصبح الطفل (الأمل الداخلي) قادرا على المجابهة، وحبذا لو وصل الاثنان معا، الماضي والمستقبل في لحظة واحدة؛ فوجودهما معا قادر على تحرير البيت من الغرباء، اليوم وغدا.

 ومن اللافت للنظر في الحكاية الثالثة أنها تقوم على التوتر من بدايتها حتى نهايتها، ولعل عنوانها يعكس هذه  التيمة (انتظار الغائب وانتظار المولود) والرجل الطيب مستسلم لرغبات الابنة الكبرى، التي صبرت عشرين سنة، فيحاول تهيئة البيت معها لاستقبال القادم، وتحاول عايدة تحسين صورة البيت من داخله:

 الرجل: يا عايدة... ليس هذا غبارا... إنه وسخ قديم، ألم تلحظي ذلك من قبل؟

عايدة:  وكيف نتلافاه؟

الرجل: لا يمكن تلافيه.. لو كان (مجدي) قد جاء في موعده السابق من عشرين

        سنة.. لما وجد هذا  الوسخ.. عشرون سنة كافية لأن يُغطي البيت بالطحالب.

بين أحلام (عايدة) في وصول القادم، وحيرة الأب وعدم اقتناعه بعدم وصوله، وبين الأمل وضياعه، لا يصل (مجدي) -لاحظ ما في الاسم من رمزية- فيتبخر الأمل المنتظر في اللحظة نفسها التي تصرخ (ثريا) الابنة الصغرى صرخة الولادة، فتلد طفلا فيسمونه (مجدي) وهذا هو الأمل القادم:

 ثريا: عايدة سأسمي ابني مجدي.. هل توافقين؟

الرجل: لم لا توافق.. سيكون حفيدي جديرا بالاسم.

عايدة: ليت كل طفل يولد الليلة يسمى مجدي.

تنتهي حكاية دياب الثالثة، وقد فاجأ المتلقي بعدم حضور الغائب، وإن كان -من خلال النهاية- قد بشر بميلاد الأمل، الذي لم يظهر بعد، وينتظره الجميع؛ ليستحضر صورة القضية أمامنا بصورة مستمرة، فيجعلنا نسأل: ماذا نفعل تجاه القضية لو لم يحضر القادم؟ ولو لم يولد الابن هل نظل منتظرين؟! أم نتخذ موقفا ايجابيا تجاه القضية؟ّ! وهي سمة من سمات المسرح البريختي القائم على إشراك المتلقي في القضية المطروحة، وبالفعل تحققت نبوءة دياب؛ ليقوم الجيل القادم بأنبل معركة من خلال انتفاضة الحجارة بعد ذلك، وحتى الآن.

إن محمود دياب كاتب صاحب رؤية، متمكن من أدواته الدرامية وعلى وعي تام بحركة التاريخ؛ بوصفه مستوعبا لا راصدا، فإنه بحق كاتب تصدق عليه مقولة (أحب بقوة، فضرب بقوة، ثم سقط وتهاوى)، رحم الله دياب الكاتب الدرامي الفذ.

Dr.Radwa
Egypt Air