سيظل الشعر الفلسطيني مقاوما جَلِدا مرابطا على تخوم الأرض المقدسة ومهبط الأنبياء فلسطين، وتظل تلك الأرض تتدفق دما زكيا مقاوما وحبرا نديا مزاحما، إلى أن تنتصر المقاومة كما انتصر الشعر
كان الجرحُ المحوريُّ في كامل أعمال الشاعر صبحى ياسين يرتسم في ملامح وطنٍ مقدّسٍ أبديٍّ خالد، هو "فلسطين" الوطنُ والقلبُ والتاريخُ بين ذاكرة وحلم
التنويعات الموضوعاتية التى تبدو منفصلة عن السير الشعرى لصبحى ياسين كلها تتداخل دلاليا، حيث تبزغ جميعها من ذات الشاعر التي انطبعت عليها هموم توزعت على جغرافية وجدانه وتاريخِ كتاباته
في البدء كان الفنّ، وفي الفنّ كانت الكلمة ، ومن الكلمة كان الحلم، وفي الحلم كان لابد من المقاومة لتعيش أحلامَك الأبدية حرا طليقا، على تلك الأرض" سيدة الأرض" التي تستحق أن تكون" أمّ البدايات" و "أمّ النهايات" قولا وفعلا، وعمقا وشكلا، وظل الشعرُ مقاوما كالأرض وكالإنسان، فظلت فلسطين مسرى الشعراء ومعراج المقاومين بالكلمة والبندقية على حبّ سواء، فيذكر التاريخ أعلاما للشعرية العربية المقاومة من هذا البلد الطيب؛ وقد تنازعته شعرية طافحة رصاصية عابرة للأرواح والواقع، ومنهم: إبراهيم طوقان، حيدر محمود، يوسف الخطيب، محمود درويش، معين بسيسو، فدوى طوقان، سميح القاسم، عز الدين المناصرة، توفيق زياد، إبراهيم نصر الله، ومن تلاهم بطوفان من الشعر إلى يوم تتحرر فيه الأرض الفلسطينية المقدسة، من طينة الشاعر "صبحي ياسين" الذي ندخل مدنه الشعرية من أبواب مقاوماته المتفرقة عمقا وصدقا وعشقا لفلسطين.
ليس من السّهل أن تتصفح الأعمالَ الكاملةَ لشاعر ممتلئ بالرؤى والأحلام، والأمنيات الجذلانة، وتتصفحَ الآمالَ الكثيرة "غيرَ المكتملة"، والتي تظل وتخلد كسنبلات متعبة في أمسيات الغربة والحنين إلى صباحات و طن جريح يسكن الذاكرةَ الحيّةَ التي تسكنها جراحٌ لا تموت ولا تنام.
وليس من السهل أن تَختصر تجربةَ شاعر كبير في الحياة والحب والقضية من زاوية ما انكتب في ذاته وروحه من خلال اللغة التي صارت بيتا للوجود والشِّعر، ومثارا لأسئلة وجودية عميقة ومزلزلةٍ ومقلقةٍ لذوي القلوب المرهفةِ الشاعرةِ الرائيةِ و المتكئة على تاريخ وذاكرة وحلم.
حينما دخلت عوالمَ الشاعر القدير "صبحي ياسين" كان مستهلَّ رحلتي الجمالية نصٌّ "وطنيٌّ" موغلٌ في التمسك بالأرض وحبِّ الوطن ومحلقٌّ في الرؤى والأحلام والتطلعات المشرقة لغد سيأتي حتما:
وطنــــــــــــي
سقـطَ الحصـانُ وأقفـرَ المـيـدانُ = ومشـتْ تعـضُّ شفاهَهـا الفرسـانُ
ناديتُـهـا قـبـلَ الـنِّـزالِ بأنـنـا= تحت السيـاطِ مصيرُنـا الخسـرانُ
ستـونَ عامـاً لا يُـشَّـد زِمامُـهـا= إلا وفـوق ظهـورِهـا الخصـيـانُ
ستون عامـاً لا نبـوحُ بمـا نـرى= إلا وقَــصَّ شفاهَـنـا السلـطـانُ
ستـون عامـاً فـي مـدارِ حقولهـا = أبـداً نجـوعُ لِتَشْـبَـعَ البـعـرانُ
ستـون عامـاً مـن قصـورِ أكفِّنـا= رَبَتِ القصـورُ "وربـرب" الغلمـانُ
أذكـورةٌ هـذا الـذي نحيـا بــه=أم أنَّ كــلَّ رجالِـهـا "نـسـوانُ"
أرتــابُ أن الآدمـيـةَ بعضُـنـا=وأكـادُ أجــزمُ أنـنـا قطـعـانُ
قـد دَجّنتـنـا بالسـيـاطِ حثـالـةٌ=منهـا أجـلُّ وأعـظـمُ الأوثــانُ
مِنْ كـلِّ موبـوءِ السريـرةِ يومُـه=هَـزُّ البطـونِ وليـلُـه سـكـرانُ
شَرَفُ العروبـةِ أن تُـداسَ رقابُنـا=وَيّضَـخُّ فـي شرياننـا الإذعــانُ
أبوابُها فـي وجهنـا قـد أوصِـدَتْ=وإلـى اليهـودِ تَفَتّـحـتْ سيـقـانُ
فإلى متى في الطينِ نغـرسُ رأسَنـا=وهنـاك تبكـي أهلَهـا الأوطــانُ؟
وإلى متى هـذي العروبـةِ رَحْمُهـا=ذهبـاً يفـورُ وشعبُهـا جـوعـانُ؟!
وإلى متى ؟!وإلى متى ؟! وإلى متى؟!=حتـى تَـعُـدَّ رمالَـهـا الشـطـآنُ
صَمْـتُ القبـورِ فـلا نهـشُّ ذبابـةً=ومـن القلـوبِ تمكّـنَ الشيـطـانُ
فاعشوشَبَتْ بيـن الصـدورِ حـزازةٌ=وَتَجَـذرَتْ فـي عمقِنـا الأضغـانُ
وَتَسَلّلَـتْ عَبْـرَ المسـامِ ذئابُـهـم=تعـوي ، فَيقعـي تحتهـا الأقـنـانُ
"كوهينُ" في كـلِّ الشـوارعِ ماثـلٌ=وعلـى يديـهِ تكـاثـرَ "الكـهـان"
وطني خَفَضْتُ لـكَ الجنـاحَ مذلـةً=وبكيـتُ حتـى ذابــتِ الأجـفـانُ
أنا ما ذَرَفْـتُ لـكَ الدمـوعَ تزلفـاً=لـكـنَّ ذنـبـي مـالـه غـفـرانُ
شُلَّـتْ يمينـي إن نسيتـكَ لحـظـةً=هيهـاتَ تَنْسـى ساقَهـا الأغصـانُ
حتـى يُـرَجَّ القهـرُ مـن أركانِـه=وَيَخِـرُّ مـن عليـائـه الطغـيـانُ.
وخرجتُ من المجموعة الكاملة محمومَ القلب، متعدّدَ الأجنحة القرائية ،تحيط بي كثير من الأسئلة والإجابات التي لا يريد لها هذا النبي الشاعر أن تنتهي من خلال مَخرَج شعري لافت متمثلا في قصيدة "السندباد":
السندباد:
هــذا المـسـافـرُ فـــي دمـــي أغـوانــي=أشـقــى عـيـونــي واحــتــوى ألــوانــي
وامـتـصَّ مِــن شـفـتـي نـضــارة عشـقـهـا=وعـلــى شـواطــىء غـربـتــي ألـقـانــي
أمـشـي وأكـتـبُ فـــي الـهــواء قـصـيـدة=مــثــقــوبــةَ الــكــلــمــات والأوزانِ ِ
راهـنـتُ فــي حـشْــد الـرجــال مـكـابـرا=مــاذا أقـــول وقـــد خـســرتُ رهـانــي
سـبعــون عــامــا والــشــراعُ مُــمَــزق=والــريــحُ تـصـفــعُ جـبـهــةَ الــربــان
ضيـَّعـتُ فــي وكْــر الـذئــاب خـرائـطـي=ووصـلــتْ حــتــى آخــــر الـشـطــآن ِ
فحـشـوتُ فــي فـيــهِ الأمـيــرةِ جـزمـتـي=وبـصـقـت ُفـــوق شــــواربِ الـسـلـطـان ِ
وأجَــزْتُ غــزوَ الـحــور ِ فـــي غرفـاتـهـا=وأبــحْــتُ كــــلَّ قــوافــل الـغـلـمـان ِ
قـالـوا الـكـروشُ عـلـى الـعـروش وجـاهــةٌ=قــلــتُ الـتـفـاهـة ُوصــمــةُ الـتـيـجـان ِ
أسـرفـتُ حـتـى دار بـــي نـهــرُ الـهــوى=وكـتـبــتُ حــتــى مـلَّـنــي شـيـطـانـي
دمــعُ الـشـمـوع عـلــى جبـيـنـي نـــازلٌ=وعــلــى يـمـيـنـي ســــورة الـفـرقــان ِ
وتـنـهـدتْ عــنــد الــغــروب صـبـيــةٌ=وتــأوهـــتْ مـشـلــولــة الـسـيــقــان ِ
جـلــدوا حـيـاهـا واسـتـبـاحـوا نـهـدَهــا=وتــوضــأوا مــــن دمـعـهــا الـهَـتــان ِ
أنــا إنْ وقـفــت ُعـلــى جبـيـنـكِ لـحـظـة=فـــلأن روحـَـــك فــجَّــرتْ ْأحــزانــي
كـــل الـقـنـاديـل الـبـعـيـدة أُطـفِـئــت ْ=واستـعـبـدتـنـي قـبــضــة ُالـشـيـطــان ِ
اللـيـل ضـيـَّـعَ فـــي المـتـاهـة قـصـتـي=لــمّــا رحــلــت ُمُــقــرَّحَ الأجــفــان ِ
شُــقــي إزاري واحـتـويـنــي شــهـــوة =مـــا اهـتــزَّ عـــرشٌ فـوقــه إيـمـانــي
فــي لـيـلـة الـسـبـت الـعـصـيِّ أتيـتِـنـي=فشـقـقـت ِصـــدري واعـتـصـرتِ جـنـانـي
ووقـفــت ُأمـتـشـقُ الـسـيــوفَ لأنــنــي=أدري بـقــصــة ذلـــــك الـذبـيــانــي
إنْ ســال مـــالٌ مـــن جـيــوب جـهـالـة ٍ=فـعـلـى الـحـضــارة بــــاردُ الأكــفــان ِ
أنــا فــي فـمـي مـلـيـون طـفــل جـائــع ٍ=والـكـلــبُ يـمـشــي بـالـفــم الــمــلآن ِ
أنــا فــي دمــي خمـسـونَ ألــف قـصـيـدة=مــقــروءةٍ فــــي عــالــم الـطـرشــان ِ
وعـلـى جــداري ألـــفُ ألـــف مُـصَــوَّر ٍ=مـسـتـوردٍٍ مِــــن كــوكــب الـعـمـيـان ِ
ومَـعـارضـي تـبـكـي عــلــى جـدرانـهــا=وتــئــنُّ تــحــت قــوافــل الــجــرذان ِ
هــــذي عــلامــاتُ الإمــــاء ِ جـلـيــةٌ=وتــطــاولٌ فــــي الـتـيــهِ والـبـنـيـان ِ
تـحــت الــعــروش وثـيـقــةٌ مـشـبـوهـةٌ=مـخـبــوءةٌ فــــي لـحـيــة الـسـلـطـان ِ
لا تجـلـدونـي فــــي الــعــراء فـإنـنــي=تـحــت الـعِـصِـيِّ تـكـسَّــرتْ أسـنـانــي
يــا راقصـيـن عـلــى دمـــي لا تـذبـحـوا=قـلـمــا يـُعـانــق زهــــرة الــرمـــان ِ
كــل الـجــواري مـــن دمـــي حـررتـهـا=وقـطـعـتُ كــــل َّأصــابــع الـسـجــان ِ
ضُـمّــوا قـصــوري واستبـيـحـوا طـهـرَهـا=واستـأصـلـوا الأزهـــارَ مـــن أغـصـانــي
ذاتُ الـسـلاســل ِ- تـعــرفــون حـديــدَهــا و- الـنـهـروان – وقــصــة- الـنـعـمـان ِ
تـلـك الـشــواربُ لـــن يـجــفَّ نبـيـذُهـا حـتــى تــثــورَ مــواكــب ُ الـخـصـيـان
بين فاتحة نصية "وطنية" و خاتمة ديوانية "سندبادية" يرغمنا الشاعرُ "صبحي ياسين" على رحلة شعرية ثامنةٍ شيقةِ التفاصيل مكلومةِ البدايات حالمةِ العواقب عبْر مائة وإحدى عشرة قصيدة .
كان الجرحُ المحوريُّ في الأعمال الكاملة يرتسم في ملامح وطنٍ مقدّسٍ أبديٍّ خالد،هو "فلسطين" الوطنُ والقلبُ والتاريخُ بين ذاكرة وحلم،فاستحضر الشاعرُ الترابَ والأرضَ والتراثَ والتاريخَ ووسمها بمسحة مُحبٍّ وعاشقٍ متمسكٍ لا يقبل التنازلَ ولا البديلَ ولا التصالحَ مع عدوّ أبديٍّ سرق الأرضَ من أهلها واغتصب أحلامَ الأهالي وادّعى لنفسه ما هومُلك لغيره.فكانت قصائدُ كثيرةٌ تحاصر الموضوعَ الرئيسَ للأعمال الكاملة ومنها:"وطني" ،" عودة"،"للقدس عراق آت" والقصيدة الوثقى"يا غزتي" : وهي تواكب بحروفها المدماة وإيقاعها الدامع ويلات غزة في أيامنا الحزينة هذا الخريف:
يا غزتي
أبــدا لـذكـركِ أدمـعـي تـتـرقـرقُ=وجـوىً يَفـيـضُ وخـافـقٌ يتـحـرّقُ
قـد جـف ّ عـودي وانطـوَتْ أوراقـُـه=مَـن ذا الـذي يحنـو علـيـه ويُشـفـقُ
هـل مِـن سبيـلً كـي أضُمَّـكِ لحظـة=ًفلعـلَّ عـودي قـرْبَ عـودكِ يــورقُ
أنـا إن تركتـكِ مُبْحـرا فــي غـربـة ٍ=فـلأنَّ قلبـي فـي ضلـوعـكِ يَخـفـقُ
ولقـد بكيـت ُ علـى ذراعـِكِ سـاعـة ً=كالطفـل ِيُجهِـشُ بالـدمـوع ِ فيَشـهـقُ
ضـاعَ الكـلامُ –أفـي لسانـي عقـدة ٌ؟=أم أنَّ دمعـي بــات عـنـي يَنـطـقُ ؟
عينـاكِ يــا بـحـراً تتـابـعَ مـوجُـه=يـا ليـت أنـي فـي بحـارك ِ أغــرقُ
سافـرت ُ أبحَـثُ فـي الـبـلاد مُنقـبـا=فلعـلَّ ظنـي فـي مُــرادي يَـصْـدق ُ
ورَكِبْـت ُفـي سُفـن ِالفـراقِ ِمُصـابـرا=إذ رُبّ شمسـي مِـن جراحـي تُشْرِق
ليـلـي يُهَـيِّـجُ أدمـعـي ومواجـعـي=وبـكـل ِّألــوان ِالضّـنـى يـتـأنـقُ
سابقـت ُ عمـري كـي أنـالَ سـعـادة =لـكـن ّ حـظـي للتعـاسـةِ أسْـبَــقُ
طَيّـرْتُ نفسـي فـي الفضـاءِ فراشـة==تدنـو مـن اللهب ِالحـريـقِ ِ فتُصْـعَـقُ
لا تقطـعـي حـبـلَ الــودادِ فإنـنـي=يومـا سـأرْجـع حـامـلا مــا أُرْزَقُ
ولقـد حملـتـكِ يــا هـمـومُ ثقيـلـة=لـو أن صخـرا نـاب عـنـي يُفـلـقُ
شيبْتِـنـي قـبـل المشـيـب بـغـربـة=وفتـحـتِ جـرحـا لا أراه سيُـغـلـقُ
أدري بـأنـكِ تحمـلـيـن مـواجـعـي=لكـن ْ جراحـي مـن جراحـك أعـمـقُ
يـا غربـتـي قـولـي لـغـزةَ َ إنـنـي=شـوقـا إليـهـا مهجـتـي تـتـمـزقُ
قـولـي لـهـا إنَّ الغـريـبَ مُضَـيّـعٌ=مـن صـدره نَهـرُ الـمـرارة ِ يَـدْفِـقُ
واللهِ لـو رصفـوا الــدروبَ وزَيّـنـوا=فَلَـكَ السمـاءِ بمـا يُـحَـبّ ويُعـشـقُ
في غير حضنـكِ لا يطيـب لـيَ الهـوى=وبغيرمـائـكَ يــا ثَـراهـا أشْـــرَقُ
أنغـامُ موجـِكِ فـي ضميـري عَزْفـهـا=وأريـجُ زهـرك فـي فــؤادي يَعـبـقُ
أنـا فـي رحيلـي تُسْتـفـز مدامـعـي=ويـكـاد قلـبـي لـوعــةً يتـفـتّـقُ
الشبـرُ عنـدي فـوق أرضـك ِ واســعٌ=والكـون دونـك يـا بــلادي ضـيّـقُ
وأنـا الغنـيُّ عـلـى ثــراكِ بـدرهـم=وعلـى سـواكِ بمـال –كسرى-أمْـلَـقُ
لا أشتـهـي إلاكِ صـــدرا دافـئــا=يحـنـو عـلـيَّ بـسـاعـدٍ يَـتـرَفـقُ
قلبـي يحـنّ لنسـمـة ٍ مِــن بحـرهـا=ولنفـحـة ٍ منـهـا يـفـوح ُ الـزنـبـقُ
إن مَـرّ طرْفـي فـوق شِبْـهِ زهـورٍهـا=أجـثـو عليـهـا بـاكـيـاُ أستـنـشِـقُ
فتهيـْجُ أحـلامُ الطفولـة ِفــي دمــي=ويَفِـرُّ مـِـن عيـنـيَّ دمــعٌ يَـحـْرقُ
وأكـادُ أحْسُـدُ كـلَّ طيـر ٍفـي السـمـا=يَمْشـي عليـكِ وفـي فـضـاكِ يُحَـلـقُ
قُبَـلاً أُطَيِّـرُ فــي الفـضـاء ِلعلـهـا=ترسـو علـى الـخـدِّ الــذي أتَعَـشّـقُ
أنـا مـا شققـتُ عليـكِ قلـبـي إنما=قلْـبُ المـحـبِّ مرارةً ًًًيتشـقـقُ
يا مَـن يلـوم ُ علـى الصبابـةِ والجـوى=لا فِكْـرَ فـي عُـرْفِ الهـوى أو منطـقُ
وطنـي حبيبـي هــل إليـنـا أوْبَــة ٌ؟=أمْ أنَّ بـابَـكَ دون بـابــي مُـغـلََـقُ
أنـا فـوق شطـك ِ لـي خيـالٌ سـابـحٌ=وعلـى غصـونـك خافـقـي يتعـلـقُ
عِشْـق ٌيسافـرُ فـي دمــي فيهـزنـي=فيفيـضُ بـي وَجَـعُ الحنيـن ِ فـأرْهَـقُ
فأمـدّ كفـي صــوبَ قلـبـي هاتـفـا=يـا قلـبُ صبْـرَكَ حلمُـنـا سيُحَـقَـقُ
يومـا سأرجـعُ كـي أضـمَّـك باكـيـاً=وأذوب ُ فيـك مـع الـدمـوع وأُشْــرَقُ
وَعْـد ٌمِـن الرحـمـن ِفــي قـرآنـِه=لا قـوْلَ دون مَـقـالِ ِربــِّك أصْــدَقُ
كان هناك تنويعٌ موضوعاتيٌّ موازٍ ومتداخل مع القضية الكبرى للشاعر وتمثل ذلك في طَرْقه لعديد القضايا التي تبدو للعامة أنها منفصلة عن المحور الكبير للسير الشعري للشاعر ولكنها تتداخل دلاليا من حيث إنها تبزغ جميعها من ذات الشاعر التي انطبعت عليها هموم توزعت على جغرافية وجدانه وتاريخِ كتاباته، ومن ذلك ما ورد في القصائد:"أمتي" التي تستحضر نخوةً عربية غائبة:
أمتــــــي:
عَتَـبـاً علـيـكِ فـلــن أَرُدَّ سـلامــا==وإذا مَــرَرْتِ فـلـن أُتِـــمَّ قِـيـامـا
أكْـبَـرْتُ فـيـكِ عزيـمـةً لا تَنْـحـنـي=كانـت علـى عـنـقِ الطـغـاةِ حسـامـا
واليـوم أَسْبَلْـتِ الجفـونَ عـلـى قــذى=وشـربـتِ كـأسـاً مُتْـرعـاً أوهـامــا
لا تسأليـنـي كـيـف سُـيِّــدَ مـــارقٌ=أو كـيـف صــار المستـبـدُّ إِمـامــا
هـذا زمـانـك فاسألـيـه مــن الــذي=هَـتَـكَ الحـجـابَ ومــزّقَ الأرحـامـا
ومـن الـذي ذبــحَ العـروبـةَ عنـدمـا=ألـفـى جـمـوعَ المسلـمـيـنَ نـيـامـا
ومـن الـذي رفـعَ القـصـورَ جماجـمـاً=واقْتَـدَّ مـن لـحـمِ الشـعـوبِ طعـامـا
قَـدَرُ العروبـةِ أن تكـونَ كـمـا تــرى=جـسـداً يُـبــاحُ وأمـــةً تَتَـعـامـى
هـي هكـذا مَـنْ كــان فيـهـا خانـعـاً=أَلِــفَ السـيـاطَ وأَدْمَــنَ الإحـجـامـا
نـامـي عـلـى زَخِّ السـيـاطِ وَفَـرِّخـي=فــوق الرصـيـفِ لذبحـنـا أقـزامــا
وتـمـددي عـنـد المغـيـب لـفـاسـقٍ=يَسْـتَـمْـرِئُ التنـكـيـلَ والإعــدامــا
حتـامَ هــذا الشـعـبُ يعـشـقُ قـيـدَه=حـتـام يَعْـبُـدُ صـاغــراً أصـنـامـا
الله يـشـهـدُ أنـنــي فـــي أمـــةٍ=تَـلَـدُ الهـمـومَ وَتُـرْضــع الآلامـــا
كـم كـنـتُ أهــوى أن أراك عـروسـةً=بـيـن السـيـوفِ تُهَدْهِـديـن غـلامــا
لـبـن الرجـولـةِ تدفـقـيـنَ وريـــدَهُ=وَتُوَسِّـديـنَ عـلـى يـديــهِ حـسـامـا
قومـي إلـيـه وحدثـيـهِ عــن الــذي=ن تَـبَـوّأوا فــي الخافقـيـنِ سَـنـامـا
ودعيـه يمـلأْ مــا ضِغَـيْـهِ بذكـرهـمْ=لِيفـيـضَ عشـقـاً بيـنـهـمْ وغـرامــا
فمـن اسْتَـفَـزّ الـعـزمَ مــن أعمـاقـه=أَلِــفَ الحـيـاةَ تـحـديـاً وصـدامــا
مـن لـي برحـمٍ فـيـه ينـبـتُ خـالـدٌ=ليـعـيـدَهـا مَــزْهُــوّةً إســلامــا
أنــا لا ألــومُ الحاكـمـيـن وإنـمــا=لومـي علـى مــن هـادنـوا الحكـامـا
القصائد جميعها تفيض محبةً للوطن ووفاءً للأرض، وحنينا إلى الديار والأمس الجميل، وحلما بغد يلم شتات أبناء فلسطين المقاومة، وهي تحن إلى "عودة النوارس"ولا تفضل "الرحيل" عن موطن الآباء والأجداد ولو قدمت لأجل ذلك "مواكب الشهداء" وقوافلهم، ولا سبيل إلى تحرير فلسطين، إلا المقاومة، والجهاد، كما يقول الشاعر :
قسم الجهاد
الشعب أَوْقَدَ جَمْرَهـا يـا مَعْشَـرُ=والنّسـوةُ انطلقـتْ أُسـوداً تَـزْأَرُ
قد أَقسمَ الشعـبُ اليميـنَ مُجاهـداً=اللهُ فــوقَ الظالمـيـن وأكـبـرُ
كـلُّ المساجـدِ والمـآذنِ أقسمـتْ=حتـى الحجـارةُ رَدّدت ْو المنبـرُ
قسما ونورِ الحـقِّ فـي جَبَهاتنـا=وبكـلِّ باكيـةٍ تَـئِـن ُو تَـزْفُـرُ
قسماً ونـارِ الثـأرِ فـي أحشائِنـا =وبكلِّ طفـلٍ فـي الظـلامِ يُهْجَّـرُ
قسماً لمسرى "أحمـدٍ" يـا قدسَنـا=قسمـاً لأرضٍ تَسْتغيـثُ وتَـجْـأَرُ
للمَيِّـتِ المذبـوحِ يُسْلـخُ جـلـدُه=للعيـنِ تُفْقَـأُ بالعـظـامِ تُكَـسَّـرُ
للشيخِ يُسْحَلُ في الشوارعِ ضارعـاً=لـدِمِ الصبايـا صارخـاً َيتَفَـجَّـرُ
لأُحَطِّم الكـفَّ التـي عاثـوا بهـا=وأُزَلْـزِل القـدمَ التـي تَتَبَخْـتَـرُ
فالشعبُ يا( كوهينُ) مُـرٌّ لَحْمـهُ=والقلـبُ يـا "حاخامُ"حِقـداً يَقْطـرُ
هاتوا الهَرَاوى والبنادقَ واضربوا=رأسي وصدري والسواعِدَ كَسّـروا
واللهِ لو سَمَلـوا العيـونَ بخنجـرٍ=واللهِ لو هَدَمُوا البيـوتَ وأَنْـذروا
بعيونِ طفلي سوف أُبصرُ موطنـي=وبكفِّ شِبْلٍ سـوف يَنْبُـتُ خنجـرُ
هيهاتَ أنْ نَنْسـى فلسطيـنَ التـي=باتتْ تُعَشِّشُ في القلـوبِ وتَحْفُـرُ
أهواكَ يا وطنـي وأهـوى تربـةً=فيها الأزاهـرُ والربيـعُ الأخضـرُ
يا أمتـي هـذي فلسطيـنُ التـي=جُرِحَتْ وراحتْ في الدُّجَى تَتَعَثَـرُ
لا تتركـوهـا للدخـيـلِ فإنـهـا=لله فـي جـوفِ الليالـي تَـجْـأَرُ
لا سِلـمَ يَنْفَعُنـا فهـم أعـداؤنـا=قد دَنّسُوا الأقصى الشريفَ ودَمّروا
أطفالُنا جَعَلوا الحجـارَ رصاصَهـم=وبه تحدوا الغاصبيـن وأمطـروا
نَفَضوا الغبارَ عن الرؤوسِ وَجَرّدُوا=هِمَماً تَخِـرّ لهـا الجبـالُ وَتُقْهَـر
قد أَحرقـوا أُدَمَ الخيـام ِومَزّقـوا=؟!=ذلاً يحطمُ في النفوسِ ويعصـرُ
هل منطقُ التاريخِ يرضى أن نرى=وجهَ الكرامةِ فـي الثـرى يَتعَفّـرُ
أَمِـنَ العدالـةِ أنْ نـرى أطفالنـا=أَسرى وصرعى في أُتُونٍ تُصْهَرُ؟!
صبراً على الآلامِ في ساحِ الوغـى=فالغيمـةُ السـوداءُ حَتْمـاً تُمْطِـرُ
وَسَيَجْرِفُ السيلُ العرمـرم ُكيدَهـم=وسَيَنْبُتُ الأمـلُ الجميـلُ ويزهـرُ
سنعودُ يوماً كالأسـودِ- كواسـراً-=نَطَـأُ الذئـابَ ذليـلـةً ونُكَـبِّـرُ
... سيظل الشعر الفلسطيني مقاوما جَلِدا مرابطا على تخوم الأرض المقدسة ومهبط الأنبياء فلسطين ، وتظل تلك الأرض تتدفق دما زكيا مقاوما وحبرا نديا مزاحما، إلى أن تنتصر المقاومة كما انتصر الشعر دائما.