يخبرنا التاريخ أن القضية الفلسطينية بكافة جوانبها السياسية، والدينية، والحقوقية، والإنسانية حركت الأقلام لرصد الآلام الإنسانية ومعاناة العدالة، وكانت بمثابة الأب الشرعي لميلاد أدب المقاومة، ومعلوم لصفحات التاريخ أن نهضة هذا الأدب قد ولدت شعراً ونثراً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي تحت اسم الأدب العربي المعاصر، وهو الأدب الذي تزين بمصطلح الحداثة، وشكلت كلمة "فلسطين" مفتاح الإلهام ومداد الكتابة في الرواية والأدب على حد سواء.
أثرت القضية الفلسطينية صفحات الأدب العربي بروايات عديدة، عبر أقلام أدباء كثر مثل فرسان الكلمة "حنا مينة"، و "واسيني الأعرج"، و"إبراهيم نصرالله"، وتم إعمار أرفف المكتبة العربية والعالمية بمئات الروايات التي تولد كل عام، منها ما تناولت القضية الفلسطينية، وتاريخ اغتيال الشعب الفلسطيني، وبداية الظلم والعدوان على الإنسان، بل وفضحت هذه الأعمال معنى الاستيطان الإسرائيلي والتمدد الصهيوني، مما جعل الرواية العربية سفيرا للعدالة في العالم كله، وحظيت على الصعيد العام بالعديد من الجوائز، مثل جائزة «البوكر» العربية، وجائزة «كتارا» القطرية، وكذلك جائزة نوبل للآداب التي حصل عليها الروائي الشهير نجيب محفوظ الذي تحدث عن الانتفاضة الفلسطينية وقت حصوله على الجائزة.
فلسطين في البناء الشعري
احتلت كلمة "فلسطين" وضمير الغائب منها معظم أبيات الشعر العربي المعاصر، وتخللت بحوره، حيث شكلت خلال القرن العشرين أرضاً خصبة في وجدان الأمة العربية فيما عرف "بأدب القضية"، لذا لم يعد سرد سيرة القضية الفلسطينية قاصرا على سياق الأبيات الشعرية أو النثرية، وإنما هناك من كتب تاريخ القضية الفلسطينية بالشعر، وأسس ملف توثيق القضية في أبيات الشعر مثل قصيدة الشاعر أحمد محرم "الشهيد سعيد العاص"، وقصيدة الشاعر محمد صادق عرنوس "الشهيد عز الدين" التي وثق فيها الأحداث الملحمية بين قوات القسّام والعصابات اليهودية والجيش البريطاني في عاميّ 1935 و 1936.
واكتظت المكتبة المصرية بدواوين الشعر المناهض للاحتلال، وكان أبرزها كبداية لافتة جاءت في شعر علي محمود طه في ثلاثينات القرن الماضي، وهو يحذر من الظلم الواقع على فلسطين.
تعددت صور فلسطين في دواوين الشعر العربي، فهي المسجد الجريح، والأرض المغتصبة، والقهر الموروث، أو الزمن المفقود، وتنقلت المعاني عبر العديد من الرموز والدلالات، ولا ننس في سياق حديثنا وجيعة قلم نزار قباني في قصيدة بعنوان "بكيت حتى انتهت الدموع"، جاء فيها:
يا قدسُ، يا مدينةَ الأحزان
يا دمعةً كبيرةً تجولُ في الأجفان
من يوقفُ العدوان؟ عليكِ، يا لؤلؤةَ الأديان
من يغسلُ الدماءَ عن حجارةِ الجدران؟
من ينقذُ الإنجيل؟ من ينقذُ القرآن؟
من ينقذُ المسيحَ ممن قتلوا المسيح؟
من ينقذُ الإنسان؟
ولم يكن نزار قباني وحيدا في الساحة، بل تزامن مع عصره في المعاصرة كثير من شعراء فلسطين العظماء أمثال إبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي أبو سلمى، وعبد الرحيم ، الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، ولا ننس فارس الكلمة الشاعر محمود درويش، وجميعهم تفرغوا لأشعار القضية الفلسطينية، وشَرْح أبعادها في كل محفل أدبي.
ولم تقف الأقلام عند كتابة الأشعار، بل انخرط مع الشعراء باحثو الدراسات التاريخية والسياسية الذين بذلوا جهودا أكاديمية تؤرخ لسطوة الاحتلال مثل كتاب محمد حور "فلسطين في الشعر المعاصر بمنطقة الخليج العربي"، الذي تحدث عن أبعاد الرؤية السياسية في الشعر من خلال البعد الإسلامي، والقومي، والعالمي، ورسم صور المأساة في الشعر من خلال صورة النكبة، واللاجئ، والفدائي، وتطرق الباحث إلى التأكيد بأن الشعراء عامة كانوا على درجة من الوعي والنضج، حتى باتت مشاركتهم جامعة بين العاطفة والعقل في تصويرهم لفلسطين في أشعارهم.
وهناك أيضا الباحث الأكاديمي جميل بركات، الذي وثق أطروحته في كتاب "فلسطين والشعر"، وهو الكتاب الذي تضمن أربعين شاعراً عربياً انصهرت أشعارهم مع تاريخ القضية الفلسطينية، مما ساهم في تأسيس النموذج الواضح الذي أعاد قراءة تاريخ القضية كونها قضية عربية إسلامية إنسانية، لا قضية إقليمية فلسطينية.
وبشكل مجمل، شكلت فلسطين ديوان شعرائها من أبنائها، فهي ديوان الشاعر المقيم تحت الاحتلال، وهي ديوان الشاعر المشرد في المخيمات والمنافي، لذا يمكن القول إن الشعر العربي، وخاصة الشعر الفلسطيني، استطاع ترسيخ وبناء هوية ثقافية عربية مقاومة للاحتلال، ومجسدة عن طريق اللغة واقع الاحتلال المرير، بروح ثورية فلسطينية تقاوم بكل السبل، وتؤمن بحتمية الانتصار على هذا العدو.
جوانب الدعم الذي شارك به أدب المقاومة في نصرة القضية الفلسطينية:
على طبق من ذهب، جاءت الفرصة لشعراء المعاصرة للقيام بهذا الدور عن طريق المشاركة بمداخلات إعلامية مع البرامج التي تهتمُّ بالشأن الفلسطيني في القنوات الأجنبية لتوضيح وجهة النظر الإسلامية للقضية الفلسطينية من ناحية، ومن ناحية أخرى، صياغة وبناء أعمال درامية تدور حول الأحداث التاريخية المتعلقة بالقضية بعد توثيقها أكاديميا للردِّ على الأعمال الغربية التي تناولت تاريخ فلسطين ورموزها من وجهة النظر الغربية، مثل تاريخ الحملات الصليبية على فلسطين، والبطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، ونكبة 1948م، وغيرها من الأحداث التي تناولها كُتَّاب الغرب من وجهة نظرهم، وأضف لكل هذا المشاركة في المؤتمرات التي تقام في البلاد المختلفة، والتي تتبنى وجهات نظر علمانية أو مشوشة في محاولة للرد عليهم وتصحيح السرد المغلوط لتاريخ القضية شعرًا ونثرًا.
الفرق بين الأدب الفلسطيني وأدب القضية الفلسطينية:
اتفق على لا يقتصر الإبداع الأدبي الفلسطيني على واقع القضية الفلسطينية، وإلا فُقدت الهوية الأدبية الفلسطينية، إذ لابد من توضيح الفرق بين أدب القضية الفلسطينية والأدب الفلسطيني، والسبب ببساطة هو أن الاحتلال الصهيوني يسعى إلى محو أي أدب فلسطيني يخص الدولة،
والاكتفاء بأدب المعاناة وهو أدب المقاومة، وقد هيأ العالم الغربي له، وراح يختزله في كونه أدب الضحية، ومفرداته العويل والنحيب وللأسف، فقد مهدت بعض الصحف الغربية مع اللوبي الصهيوني لهذا الاستقبال التوصيف لأدب القضية الفلسطينية، إلا أن جهود الأدباء الفلسطينيين تحول أولا بأول في وأد هذا المفهوم، ومن هنا يجب التحسب لعدم تقليص مساحة هذا الأدب، لأنه أكثر تأثيراً على شعوب العالم، وعلى الجانب الآخر، هو أحد وسائل الحفاظ على الهوية الفلسطينية التي لا تقتصر على هوية المُحتل أو هوية المُقاوم، ففلسطين أيضاً نمط حياة، ثقافة، فكر، طموح، حلم، هدف، وألوان متعدة لثقافة واحدة. لذا، من الخطورة بمكان اختزال الأدب الفلسطيني في القضية الفلسطينية رغم أهميتها الأولى، إذ لابد من إعادة إحياء الأدب الفلسطيني بالنكهة الوطنية الحياتية والثقافية والفكرية والنفسية.
وحتى أدب المقاومة الفلسطينية تعرض للإساءة عندما جريت محاولات عديدة لاختزاله في أدب العنف والسلاح والبارود والتوشح بالوشاح الفلسطيني الرمادي، وتجاهل البعد العقائدي والدافعية للاستشهاد من أجل قيمة أغلى من النفس وهي قيمة الوطن.
في الحقيقة، تنبه مؤخرا الأدباء والشعراء وأصحاب القلم إلى أن أدب القضية الفلسطينية هو أيضا سلاح مقاومة، وليس مجرد عرض صور وسرد قصص، ولا هو التباكي على الانهيارات التي تدفن الأحياء جراء القصف الغاشم، لأن الأدب الفلسطيني له مهمة المقاومة والدفاع والصمود، فهو أدب الرسالة والحق والصدق، والدفاع عن القضية من وجهة نظر عقائدية، وتطهير الأرض من عدو انتهك كل معاني الإنسانية. لهذا تبدو مهمة الأديب الفلسطيني مختلفة عن كل أدباء العالم لأنها مهمة جادة، مؤلمة وخالدة.
محمود درويش النموذج والقالب في الشعر الجهادي:
تصدر الشاعر محمود درويش مشهد المقاومة بالقلم، وسعي لتحقيق الحراك الحماسي على أرض الواقع.
شكلت إسهامات محمود درويش في صياغة الوعي بالقضية الفلسطينية عبر فهم متكامل لمنطق العدوان، والتركيز على أن الحس الشعري المرهف لا يتناقض مع فظاعة سياسات الاحتلال والاستيطان وهدم الأخلاقيات، وليس خفيا أن مدرسة درويش تركز على خوارزمية "الفروق الصغيرة" التي نظمت أدوار الشعر والنثر في الدفاع عن القضية الفلسطينية، والتي بلورت علاقة فلسطين بالواقع والتاريخ والأسطورة.
أمضى محمود درويش حياته كمفكر وشاعر وسياسي، مدافعاً عن هذه "الفروق الصغيرة"، واقتبس منه الفلسطينيون مأساتهم التاريخية بعد أن وقعوا ضحية واحد من أقسى الشروط الاستعمارية في التاريخ. فطروادة والأندلس والمنفى لم تكن محض افتراءات كونية في البلاغة السياسية، وتجده أدخلها حيز التداول في السياق الثقافي العام. وهنا، صارت مفاهيم النصر والهزيمة والمنفى، استعارات كبرى لمشاهد متغيرة جعلت من مصير طروادة مجازاً للانتصار الأخلاقي والهزيمة العسكرية، ومن سقوط الأندلس مجازاً لغياب الأرض وحضور القصيدة، ومن تجربة المنفى مجازاً لفكرة سارة وحضور هاجر.
درويش الشاعر والسياسي:
وُلِد درويش في 13 مارس 1941م، وترعرع في قرية البروة الفلسطينية في الجليل، ثم نزح إلى لبنان عام 1948م، إثر الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ثمَّ عاد مع عائلته إلى قرية دير الأسد حيث تلقى تعليمه الابتدائي وأتمَّ تعليمه الثانوي في قرية كفر ياسين، وبعدها عمل محرراً ومترجماً في صحيفة الاتحاد كما أشرف على تحرير مجلة الجديد.
لقد رسم درويش خطوطاً دقيقة بين شعره ورؤيته الثقافية، أي بين المشروع الجمالي الخاص به، ومشروعه السياسي الذي يتطابق مع مشروع الفلسطينيين في التحرر. وفي هذا السياق، يقتبس درويش مقولة وليام بتلر ييتس عندما قال: "أنا لا أحب الذين أدافع عنهم، كما أنني لا أعادي الذين أحاربهم" مع أنه لم يكن هيِّناً عليه استخدام مفردات مثل "الحب" و"الكراهية" كمقولات سياسية.
لعل الأمر اللافت في أدب المقاومة الذي أسسه محمود درويش هو أنه حدد بوضوح الفرق بين صياغة الشعر المجرد عبر النصوص النثرية وتقمص وصف "فوكو" لمركزية ماركس في الفلسفة.
في رائعته "ذاكرة للنسيان"، يقول درويش: "حياتي فضيحة شعري، وشعري فضيحة حياتي"، بينما يدشّن في كتابات لاحقة، نقلة ناعمة بين الشعر والنثر، أو قل شعرا يتطلع إلى أرستقراطية النثر، ونثر يحلم بمنظوميه الشعر.
من أشعار محمود درويش
العصافير تموت في الجليل
نلتقي بعد قليل، بعد عامٍ بعد عامين، و جيلْ..
و رَمَتْ في آلة التصوير عشرين حديقهْ وعصافيرَ الجليل،
ومضتْ تبحث خلف البحر، عن معنى جديد للحقيقة.
وطني حبل غسيل لمناديل الدم المسفوك في كل دقيقهْ،
وتمددتُ على الشاطئ رملاً.. ونخيلْ.
ومن أشعاره الرائعة أيضا قصيدة "ليتني بائع خبز"
لا تقل لي:
ليتني بائعُ خبز في الجزائرْ
لأغني مع ثائر !
لاتقل لي:
ليتني راعي مواشيٍ في اليمنْ
لأغني لانتفاضات الزمن !
لا تقل لي:
ليتني عامل مقهى في هفَانا
لأغني لانتصارات الحزانى !
لا تقل لي :
ليتني أعمل في أسْوَان حَمّالاً صغيرْ
لأغني للصخور
يا صديقي!
لن يصيب النيل في الفولغا
ولا الكونفو، ولا الأردن ، في الفرات !
كل نهر ، وله نبع ... ومجرى... وحياة !
يا صديقي! .. أرضنا ليست بعاقر
كل أرض، ولها ميلادها كل فجر، وله موعد ثائر !