فيما دخل القصف الإسرائيلي على قطاع غزة يومه الـ84 ومع تزايد أعداد الضحايا من المدنيين، تتفاقم معاناة كل من فقدوا ذويهم بالقطاع.. وعلى مدى 12 أسبوعا انقضت، باتت الأكفان البيضاء المتراصة في كل مكان في القطاع رمزا للقتلى المدنيين الذين قضوا في الرد الانتقامي لإسرائيل على هجوم شنته حماس في السابع من أكتوبر، وقتل فيه 1200 واحتجز 240 في أكثر أيام تاريخ إسرائيل دموية.
وفي مقابل نقص حاد في الغذاء والمياه والأدوية في القطاع المحاصر، ظلت الأكفان البيضاء وفيرة، لكن كلمات الحب لا تكتب عليها كلها، ففي ظل فوضى الحرب، بعض من رحلوا لا يمكن التعرف على هوياتهم.
وفي تلك الحالات يحمل الكفن كلمات مثل "ذكر مجهول" و"أنثى مجهولة"، وقبل الدفن يتم التقاط صور للموتى وتوثيق تاريخ وموقع القصف الذي أودى بحياتهم ليتسنى لذويهم التعرف عليهم يوما ما.
وحتى إن تفاقم الصراع أكثر فمن المتوقع أن تواكب إمدادات الأكفان البيضاء التي تتبرع بها حكومات عربية ومؤسسات خيرية وتيرة الطلب المتزايد، لكن هناك صعوبات بسبب العدد الهائل من القتلى وفي بعض الأحيان توجد فجوات في إتاحتها بين مكان وآخر.
وقال محمد أبو موسى المتطوع في جمعية قيراطان لتجهيز الموتى - حسب تقرير أذاعته قناة (العربية) الإخبارية - "تفاجأنا بأن عددا كبيرا جدا من الأكفان.. مخزون الأكفان اللي كان أهل الخير متبرعين فيه نفد تماما في أول أيام الحرب على قطاع غزة.. مكانش عندي أكفان كنت أواجه صعوبة جدا في الأكفان وكنت تقريبا أحط أربع خمس شهدا في كفن واحد".
وتابع أبو موسى قائلا - وهو يصف ما يواجههم من صعوبات - "فيه نقص في المشارط.. المقصات اللي تلزمنا عشان نجهز الأكفان طبعا.. زي ما أنت عارف الوضع فيه حصار ومفهش مواد في قطاع غزة فبنلاقي صعوبة جدا في (إيجاد) المقصات.. المشارط.. القطن"، مشيرا إلى أن أرقام القتلى خيالية بالنسبة له وغير مسبوقة في أي مرات سابقة من الحرب والتصعيد.
ويقول مروان الهمص مدير مستشفى أبو يوسف النجار، إن شيوع الأكفان البيضاء يشير إلى حجم المعاناة في قطاع غزة.
وتابع قائلا "كثرة الشهداء جعلت الكفن الأبيض رمزا لهذه الحرب، وأصبح يوازي علم فلسطين في تأثيره في داخل العالم ومعرفة العالم برمزية قضيتنا.. أصبح الآن الكفن رمزا للقضية الفلسطينية ورمزا لهذه الحرب.. حرب الإبادة ضد أبناء شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة".
وذكر طبيب في مستشفى في مدينة رفح جنوب القطاع أن الأكفان التي تأتي من جهات تبرع عربية تصل مغلفة وبها مستلزمات تجهيز الجثمان.
وقال مسؤول في وزارة الصحة في قطاع غزة "في نوعين من الأكفان قماش ونايلون... الأكياس النايلون بتيجي بلونين أبيض وأسود، أحيانا بنستخدم اللونين في عملية تحضير جثامين الشهداء للدفن".
وتابع "أحيانا بتحصل وبتجينا مساعدات أكفان باللون الأسود.. بس إحنا بنحاول قدر الإمكان تجنبها طالما موجود اللون.. وبنفضل الأبيض.. الكميات الموجودة لدينا كبيرة جدا من الأكفان القماشية باللون الأبيض".
وفي الأوقات العادية في قطاع غزة لحظة وفاة شخص يسارع أحد أقاربه للسوق لشراء كفن، لكن بالنسبة لعبد الحميد عبد العاطي الصحفي المحلي جاء زمن الحرب في قطاع غزة بمشاهد من الفوضى والدمار وضعته أمام موقف رأى فيه جثث ستة من أحبائه تسحب من تحت الركام، منهم أمه وشقيقه.
وراح الستة ضحية غارة إسرائيلية على مخيم النصيرات في وسط قطاع غزة في السابع من ديسمبر. ودمرت الضربة البناية على رؤوسهم وهم نائمون.
وروى كيف أخذ على عاتقه الإجراءات في تجربة وصفها بأنها الأكثر إيلاما في حياته. وقال "أخذت الأكفان من المستشفى وكفنتهم بنفسي".
وأضاف "أول واحد كفنته أخوي، البقية ومن ضمنهم أمي إجو ملفوفين بالبطانيات فما رضيتش أكشف عنهم وحطيت الكفن فوق الأغطية، لفيتهم كويس وودعتهم".
وتابع "وأنا بكفنهم كنت بحكي معهم.. قلت لهم سلموا على أبوي.. وطلبت منهم يتشفعولي عند ربي أنا وعيلتي... وأنا بكفنهم كنت بتساءل شو ذنبهم، شو اللي عملوه؟ ليش تم قتلهم بهاي الطريقة الوحشية؟ ليش إسرائيل قتلتهم وهم نايمين في سلام؟".
ولدى سؤاله عن مدى انشغال ذهنه بتعرضه لخطر الموت رد بالقول إن الجميع خائفون، وبحلول الليل يشعر الناس بأنهم حبيسون كل منهم في انتظار دوره للموت.