كثيرون..هم الشعراءُ الذين يملأون الدنيا ضجيجاً، والنادرون هم المبدعون الحقيقيون الذين تنشغل الإنسانية بهم حال صمْتهم أو حال نُطْقهم، ولدينا نحن - عشَّاقَ الشعر وقُرَّاءَه في أرجاء المعمورة "ليست الحي السكندري الشهير ذا الشاطئ الرائع ما بين المنتزه وأبي قير في شرق الإسكندرية بالطبع!!"أقول لدينا سجلٌ حافلٌ بالكثير من المبدعين الشعراء الذين نقشوا أسماءهم، وبالطبع إبداعاتهم بأحرفٍ من نور في سجل التاريخ، فهم لا يغيبون عن ذاكرة الإنسانية على الدوام..!! لماذا ..؟!! لأنهم لم يكتفوا بحمْل رايةِ التعبير عن قضاياهم الوطنية فقط، لكنهم تجاوزوا هذا المنظورَ الضيِّق وإن كان منظوراً عاماً بالقياس إلى أهل التجارب الذاتية..!! هذا المنظور العام يبدو ضيِّقاً إذا قيس بالمنظور الإنساني؛ حيث اتسع إبداعُهم الشعريُّ-في نفس الوقت- ليحمل سمةً إنسانيةً أعمقَ، ومشاعرَ تفيض بالترابط الإنساني؛ ليتعزَّز بذلك العمقُ الذي يجعل الشاعر لساناً حقيقياً مستحقاً الخلود،وهذا يفسر هذ الاندماج الذي يسري في أرواحنا حينما نعيش وإبداعات : لوركا..، وبول إيلوار..، وبابلو نيرودا..!!.
( وأَنتَ تُعِدُّ فطورَك .. فكِّرْ بغيركَ ... [ لا تَنْسَ قُوتَ الحمامْ ..!!] / وأَنتَ تخوضُ حروبَكَ .. فكِّرْ بغيركَ ... [لا تَنْسَ مَنْ يطلبون السلامْ ..!!] )
ولقد سعى الشاعر"محمود درويش"طوال مسيرته الإبداعية التي تتجاوز نصفَ قرنٍ من أجل أن يضع شعره داخل هذا الإطار الإنساني رغم أنه في ذات الوقت مطالَبٌ بالالتزام السياسي بقضايا وطنه،ورغم أن الكثير من القراءات لإبداعات درويش قد اختزلتْها، وحصرتْها في الاتجاه السياسي، وهذا بلا شك جهدٌ استثنائيٌّ؛ فقد كان صوتاً حقيقياً معبِّراً عن قضايا الشعب الفلسطيني ومساعيه الحثيثةِ للتحرُّر من بطْش الصهاينة، لكن هذا الالتزام الوطني لم يَحُلْ بين"محمود درويش" وبين التحليق في فضاء الإنسانية؛ حيث أدرك سريعاً أن الشاعر بحق هو من يستطيع أن يمنح شعره بُعدًا إنسانيًّا يتجاوز عَبْرَه إطار الجغرافيا شديد المحدودية؛ ليصبح حاضرًا في التاريخ، ومن هذه القصائد التي حملت رحابة الإنسانية، ورفعت رايتها قصيدة:(فكر بغيرك..!!) (
وأَنتَ تُسدِّذُ فاتورةَ الماء..فكِّرْ بغيركَ..[مَنْ يرضَعُون الغمامْ..!!]/وأَنتَ تعودُ إلى البيت..بيِتكَ..فكِّرْ بغيركَ. [لا تنس شعب الخيامْ..!!]، وأَنت تنام وتُحصي الكواكبَ ..فكِّرْ بغيركَ..[ ثَمَّةَ مَنْ لم يجد حيِّزًا للمنام...!! ] )
لقد عبَّرتْ هذه القصيدة المكتوبة في تسعينات القرن الماضي عن الكثير من الحقوق الواردة في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان؛مثل الحق في الحياة الكريمة،والحق في الأمن والسلام،والحق في كفالة حرية التعبير وغير ذلك مما نراه اليوم وقد انتهكها الأقوياء،إنها التساؤلات التي تحاصرنا،وتلهب ظهورنا بسياط الفزع مما نراه في عالم اليوم الموبوء بالصراعات الدامية..!!
( وأَنتَ تحرِّرُ نفسك بالاستعارات..فكِّرْ بغيركَ...[مَنْ فَقَدُوا حَقَّهم في الكلامْ..!!]/وأَنتَ تفكِّر بالآخرين البعيدين..فكِّرْ بنفسك...[قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ..!!])
أنا معكم يا دراويش"محمود درويش"ومريديه،أنه شاعرٌ متفرِّدٌ..عبقريُّ التجربة..شجاعُ الطرْح..تكمن فرادته في بساطة مفرداته..ولغته اليومية في تناوله ذكريات الطفولة الأثيرة بقلبه الطفل ...!! كل ذلك جعل منه صوتاً أثيراً قوياً لأفواج المشرَّدين..مترجماً بأمانةٍ بالغةٍ معاناة اللاجئين ... كل ذلك أنا معكم ..لكن هل الآخر الذي يخاطبه"محمود درويش" يستحق استدعاء هذا الشعور الإنساني وإزالة ما تراكم عليه من رمال المطامع البشرية..؟!! هل الآخر هذا سيفتح قلبه ويدرك المعنى الحقيقي الفوّار في هذي الجملة البديعة.."فكر بغيرك ..!!"؟!! إننا يجب أن ندرك أن علاقة الصهاينة بنا علاقة عدائية صدامية قوامها النفي المتبادل وتتجلى أشكالها العدائية في الحروب والعنف، لذلك نحن مؤمنون أن المفاوضات ليست الطريق لاسترداد الحقوق السليبة..إن الصهاينة لن يدخلوا في مفاوضات حقيقية إلا تحت وطأة الهزائم وارتفاع تكلفة الحروب ماديا وبشريا وغير ذلك هراء..!!ليأتي الجواب نِزَاريا هادراً..!! صاغه الشاعر"نزار قباني" كأنه طلقات رصاص على لسان المقاومة الفلسطينية التي تَحطَّم على صخرتها غرورُ الصهاينة ..!!
نأتي بكوفيّاتنا البيضاء والسوداءْ../نرسم فوق جلدكم إشارة الفداء..
من رحم الأيام نأتي كانبثاق الماء../من خيمة الذل التي يعلكها الهواء
من وجع الحسين نأتي.. من أسى فاطمة الزهراء ../من أُحدٍ نأتي.. ومن بَدْرٍ.. ومن أحزان كربلاء
نأتي لكي نصحِّحَ التاريخَ والأشياء../ونطمس الحروف..في الشوارع العبرية الأسماء!!