مجرَّد أن تحين منك التفاتةٌ لا تزيد عن ثوانيَ معدودةٍ نحو شاشة التلفاز أثناء التغطية الإعلامية لما يجري يومياً في قطاع غزة الباسلة تنقلك مَشَاهد الدمار الشامل التي تنتشر في كل سنتيمتر إلى مَشَاهد الدمار الذي خلَّفتْه الحرب العالمية الثانية مثلاً في المدن التي ابتُليتْ بها، ولن تكون مُغَالياً إذا صمَّمتَ على أن ما تراه هو.. هو ما حدث في المدينتين اليابانيتين"هيروشيما ونجازاكي" بعدما استخدمت أمريكا سلاحها الذري في ضربهما، ومن ثَمَّ ركعتْ اليابان..!! هكذا تقول صفحات التاريخ؛ فلقد كان الجيش اليابانى أحد أقوى جيوش العالم أثناء الحرب العالمية الثانية، لكن تطور المعارك الحربية فى تلك الحرب والحصار البحري الذي فرضتْه قوات الحلفاء على اليابان والقصف المكثَّف للمدن اليابانية، وتأتي نقطةُ التحوُّل الفارقةُ، وهي استخدامُ القنابل النووية من قِبَل الولايات المتحدة أجبر اليابان على الاستسلام، حيث ألقى امبراطور اليابان"هيروهيتو"كلمة إذاعية اعلن فيها استسلام اليابان، ووقِّع وزير الشؤون الخارجية "مامورو شيجميتسو" على وثيقة الاستسلام أمام الجنرال الأمريكي "ريتشارد ك. ساذرلاند" في ثاني أيام سبتمبر عام 1945، ولعل السؤال المحيِّرَ الصهاينة ونصراءهم.. لماذا بعد مائة يومٍ-قابلةٍ للزيادة- من القصف الجوي والاجتياح البري و"غزة العزة" لا تستسلم؟!! بل يبدو أن كَسْرَ إرادةِ المقاومة الفلسطينية ضربٌ من الأوهام ..!!!.
(تكبَّرْ.. تكبَّرْ!!/ فمهما يكنْ من جفاكْ/ ستبقى..بعيني ولحمي...مَلَاكْ!!/ وتبقى...كما شاء لي حبُّنا أن أراكْ/نسيمُك عنبرْ/ وأرضُك سُكَّرْ/ وإنِّي أحبُّك...أكثرْ!!).
تمنحنا قصيدة(أحبك أكثر)للشاعر العربي"محمود درويش"أعظم الخيوط المجدولة المانعةِ فكرةَ الاستسلام مفردةً ومعنى من قاموس المقاومة الفلسطينية..!! إن مفردةَ"تكبَّرْ..تكبَّرْ" أو فعلَ الأمرِ المتكرِّرَ المخاطِبَ الوطنَ، والدالَّ على أن الوطن لا يجب أن يُرَى إلا هكذا..!!إن كبرياء الوطن وشموخ الوطن وإباء الوطن يمنح شعبه تيجاناً من الشرف والعزة، والشاعر"محمود درويش"يبرع في مناطق الالتباس المقصودِ المانحِ النصَّ أفقاً أرحب ودائرةً أوسع؛ رغم أن العنوان القصير(أحبك أكثر)قد يوهمك بإقبالك على نص "نزاري" النزعة للوهلة الأولى؛ لكنَّ وطناً يعشقه أهله متدلِّلاً.. هل يستسلم في أشد المعارك تنكيلاً بالمدنيين بدرجةٍ غير مسبوقةٍ تفوق جرائم المغول في حاضرة الخلافة الإسلامية"بغداد"، لقد أمر هولاكو أن يُقتلَ آخر خلفاء بني العباس رفْساً بالأقدام بعدما وضعه في"جوال"، وبمقتله سقطت معه بغداد، وقُتِلَ من أهلها مليون مسلم في أربعين يومًا، وُدمِّرتْ مكتبة بغداد، واستبيحتْ بغداد ونُهبتْ أموالُها، واستمر النهب والتدمير؛ حيث لم يبق فيها مسجدٌ ولا دارٌ ولا شجرٌ إلا واشتعلت فيها النيران كعادة المغول، وأُلقيتْ ذخائر"دار الحكمة"أعظم مكتبات الخلافة العباسية في ماء دجلة لتصير مياهُه مختلطةً بأحبار أمهات الكتب.. فماذا تبقَّى من المغول؟!! لقد انتصرت الإنسانية في معركتها الخالدة ضد همجيتهم!! .
(يداك خمائلْ/ ولكنني لا أغنِّي ككل البلابلْ/ فإن السلاسلْ/ تعلِّمُني أن أقاتلْ/ أقاتلْ.. أقاتلْ/ لأني أحبُّك أكثرْ!!/ غنائي خناجرُ وَردْ/ وصمتي طفولةُ رعدْ/ وزنبقةٌ من دماءْ/ فؤادي...وأنت الثرى والسماءْ/ وقلبك أخضرْ..!/ وجَزْرُ الهوى، فيك، مَدّْ/ فكيف إذن ...لا أحبك أكثرْ!!).
لقد خرج"درويش"بالوطن من ضيق المكان ذلك الحيز المحدود بالحدود السياسية إلى رحابة المفردات المخملية المعطية الوطنَ أبعاداً غير معهودةٍ في أحاديث الشعراء عن أوطانهم ...مثل (يداك خمائل/ قلبك أخضر)، هذا الإطار الذي يمنح علاقة الإنسان بالوطن تجذُّراً ورسوخاً...فهل بعلاقةٍ كهذي يمكن أن نصدِّق ما يروِّجُ له إعلام الصهاينة من صورٍ لعرايا يرفعون راية الاستسلام كأنهم أفراد من المقاومة، وما هم إلا مدنيون من مخيمات"غزة" أجبروهم على خلع ملابسهم.!!إنها مَشَاهدُ يندى لها جبين الإنسانية، وتذكرنا بالأمس القريب وذات المشاهد لمعتقلي سجن"أبو غريب"العراقي في حفلات التعذيب الجماعي..!!!.
(وأنت..كما شاء لي حبُّنا أن أراكْ:/ نسيمُك عنبرْ/ وأرضُك سكَّرْ/ وقلبُك أخضرْ..!/ وإنِّيَ طفلُ هواك...على حُضْنِكَ الحلوِ...أنمو وَأَكْبُرْ!!).
أجل... إن "محمود درويش"لا يمكن أن نتدارس إبداعه بعيداً عن القضية الفلسطينية كفاحاً وتهجيراً وسياسةً؛ لكن قدراتِه الفذَّةِ استطاعت الخروج بالقصيدة من ضيق القصيدة الوطنية ومحدودية شعر المانسبات إلى القصيدة الصالحة لكل زمانٍ ومكانٍ؛لتصبح نصاً مفتوح الأفق على علاقة الإنسان بأرضه أيَّاً كان عصره أو موطنه ... ليزداد قصف كلمات"نزار قباني"في رأسي كأنها الرعدُ الهادرُ المبشِّر بقدوم الفجر ...!!.
(انتظرونا دائماً..في كل ما لا يُنتظرْ/ رجاُلنا يأتون دون موعدٍ في غضب الرعد...وزَخَّات المطرْ/يأتون في عباءة الرسول...أو سيف عمرْ/ نساؤنا..يرسمْن أحزانَ فلسطين على دمع الشجرْ!!/ يَقْبُرْن أطفالَ فلسطين...بوجدان البشرْ/ يحملن أحجار فلسطين إلى أرض القمرْ..!!).