الثلاثاء 14 مايو 2024

«قل قولًا سديدًا أو أصمت».. في مجلس نواب سعد زغلول


حنان أبو الضياء

مقالات16-1-2024 | 10:47

حنان أبو الضياء

من أخطر الأزمات التي وقعت في أثناء رئاسة زغلول لمجلس النواب أزمة الوزارة العدلية، وأزمة ميزانية الأزهر، والمخصصات الملكية، وأزمة الجيش
أكد العقاد أن سعد زغلول كان يستعين في حفظ النظام فى البرلمان بسلطان المعارضة القوية والفكاهة الحاضرة؛ فكان العضو من الأعضاء يقول قولًا سديدًا أو يصمت
يؤكد العقاد أن مجلس النواب أيام سعد زغلول قد اتسع لأعمال شتى ومقترحات صالحة، كإلغاء السخرة وتعميم التعاون بين الفلاحين، وفتح الطرق ودرس مشكلة العمال

 

تصور ما يمكن أن يحدث داخل مجلس نواب؛ إذا كان رئيسه سعد زغلول وانتخب بالأغلبية، وما يقدم لنا تلك المرحلة بكل مافيها، بوجهة نظر ثاقبة، هو العقاد ...وحتى نقترب من تلك الرؤية دعنى أقدم لك تلك العلاقة بين سعد زغلول والعقاد ووجهة نظر كل واحد منهما فى الآخر.

أول لقاء جمع العقاد بسعد زغلول، كان عام 1908، وكان حينها الأخير وزيرا للمعارف، كانت أول تجارب العقاد الصحفية، وكان من أشد المعجبين بشخصية سعد زغلول، وجرأته وذكائه، فأجرى معه حوارا صحفيا، ومن هذا الوقت أصبح من أشد المدافعين عن سياسة الزعيم وماتبعها من سياسة حزب الوفد، لكنه لم ينضم إليه إلا عام 1923، ليصبح كاتبه الأول وأبرز المدافعين عن سعد مما أكسبه ثقة وتقدير سعد.على الجانب الآخر نجد أن الزعيم سعد باشا زغلول وصف العقاد بكونه "الكاتب الجبار".

وعلاقة  سعد زغلول بالبرلمان بها من الأشياء المثيرة ما حدث في صباح يوم الـ 23 من مارس 1925، حيث  اجتمع البرلمان وحضر الملك فؤاد حفل الافتتاح، وقرأ زيور باشا خطاب العرش، وبعد انقضاء جلسة الافتتاح، انعقد المجلس فى جلسة أخري لتحديد رئيس البرلمان في الساعة الثانية عشرة، ليترشح سعد زغلول ضد عبد الخالق ثروت ممثل الائتلاف الحكومي، ليصدم سعد زغلول كل من في القاعة بحصوله على 123 صوتا مقابل 85 صوتا نالها ثروت باشا.

قررت حكومة زيور باشا تقديم استقالتها إلى الملك فؤاد، بعد ساعات من فوز سعد زغلول برئاسة البرلمان بالأغلبية، ومن ناحية أخرى اقترحت وزارة الداخلية برئاسة إسماعيل باشا صدقي حل البرلمان، فما كان من الملك إلا اتخاذ قراره بحل البرلمان مرة أخرى، بعد 8 ساعات من انتخابه.و أطلق لقب “ أقصر برلمان فى مصر ” على البرلمان الثاني، والذى عقد أولى جلساته وآخرها فى يوم 23 مارس 1925م؛ لكن توج كفاح سعد زغلول بفوز حزب الوفد بالأغلبية البرلمانية مرة ثانية عام 1927، وانتخب سعد رئيسًا لمجلس النواب حتى وفاته فى 23 أغسطس 1927.

ومن أهم من كتب عن تلك المرحلة  عباس محمود العقاد فى كتابه "سعد زغلول زعيم الثورة" حيث تضمن الفصل الثالث عشر منه تفاصيل تلك التجربة.

حيث أكد العقاد أن سعد زغلول  لم يكن يستعين في حفظ النظام بنصوص القانون ولا بحق الرئاسة في منع الكلام وفض المناقشات، إنما كان يستعين بسلطانٍ هو أشد رهبة من جميع النصوص والحقوق، وهو سلطان العارضة القوية والفكاهة الحاضرة؛ فكان العضو من الأعضاء يقول قولًا سديدًا أو يصمت؛ لأنه يخشى إذا أطلق لسانه بغير السداد أن يُستهدف على الأثر لجواب مفحم أو نكتة لاذعة من منصة الرئاسة.

ومن أهم المواقف التى عرضها العقاد فى كتابه  عن تمكن سعد زغلول من إدارة مجلس النواب ماحدث لما ذهب ثروت باشا إلى لندن لمصاحبة جلالة الملك والتماس الفرصة الملائمة لفتح باب المفاوضة في القضية المصرية؛ أنَّ عضوًا من الأعضاء الذين يخالفون مبدأ المفاوضة من أساسه وجَّه استجوابًا إلى نائب رئيس الوزارة، يستوضح فيه موقف ثروت باشا في لندن، ويحرج الوزارة إحراجًا لا تملك الجواب فيه؛ لأن المفاوضة لم تكن هي الغرض الرسمي لسفر ثروت باشا، وإنما كانت بغية متفقًا عليها بين ولاة الأمر يرجى أن تتاح لها الفرصة الملائمة بعد جس النبض واستطلاع الأحوال، فإذا قالت الوزارة — ردًّا على الاستجواب — إنها ستفاوض أو إنها لا تفاوض، فليس في ذلك تسهيل لما كانت تنويه. وألح كثير من الأعضاء على صاحب الاستجواب أن يلغيَ استجوابه، فلم يفعل ولم يستمع وجنح إلى الإحراج والعناد، وأشار الوزراء بالمطاولة والمراوغة في عرض الاستجواب، فأبى عليهم سعد أن يخالف نظام المجلس، وقال لهم: بل يعرض الاستجواب، ونعالجه بما يستحقه الإحراج والعناد.

وجاء الموعد المحدد وتُليَ الاستجواب، وانتظر العضو جواب الوزارة، وهو موقن بأنه قد وضعها في الفخ الذي لا خلاص منه بغير إحباط المفاوضات، ولكنه لم يكد يتهيأ لسماع الجواب المأمول، حتى فاجأه وزير الحربية — باتفاق سابق مع سعد — قائلًا: «إنَّ هذا الاستجواب موجه إلى شخص غير موجود».

وقال سعد: «ما قول حضرة العضو المحترم في ذلك؟ في الواقع أنه لا نائب لجلالة الملك ولا لرئيس مجلس الوزراء!»، فسأله صاحب الاستجواب: «أيؤخذ من ذلك أنَّ الحكومة لا تريد أن تجيب؟» فقال سعد: «ليست المسألة مسألة إرادة أو عدم إرادة، وإني أَلْفِتُ حضرة العضو — فضلًا عما ذكرته — إلى أنَّ الاستجواب يحتاج إلى ثمانية أيام حتى لو كان مستوفيًا جميع الشروط، والدورة البرلمانية على وشك الانتهاء، فهل لا يرى العضو المحترم أنَّ تأجيله أولى؟»

قال صاحب الاستجواب: «كيف؟! أليس هنا فلان باشا؟»

فقال سعد: «نعم، ولكنه ليس بنائب رئيس الوزراء!»

فتردد العضو وصاح مذهولًا: «إذنْ من نسأل؟»

قال سعد: «اسأل محاميًا!»

وجلس العضو بين القهقهة والضجيج، وتأجل الاستجواب إلى موعد غير مسمًّى بموافقة العضو!

عندما ناقش المجلس قانون خلط الأقطان، وفيه عقوبة مفروضة على من يخلطون صنفًا منها بصنف، ونهض أحد الأعضاء وقال: «ولكنْ، ألا يتفق أن يسهوَ أحد فيحصل الخلط على غير قصد منه؟»

فضحك سعد ضحكته المعروفة وقال: «نعم يا حضرة العضو المحترم، يتفق! ولكن أتقدر حضرتك أن تقول لنا كم كيسًا من القطن تملؤه وأنت ساهٍ عن نفسك؟!»

ومن التعليقات التى تظهر روح المرح عند سعد زغلول عندما طلب بعض الأعضاء إنارة طريق مقفل وعزز طلبه بأن القتيل يُقتل هناك في وضح النهار.

فعاجله سعد سائلًا: «ولماذا تطلب أن يُنار؟!»..وبهذه الأجوبة الحاسمة وهذه الفكاهة السريعة، كان يحفظ النظام في المجلس، ويحفظ الألسنة في الأفواه.

استطاع سعد زغلول الفصل بين جميع السلطات وجميع الهيئات، وبين أنصاره ومعارضيه، وبين المجلس والوزارة، و الوزارة والإنجليز. من أخطر الأزمات التي وقعت أثناء رئاسته لمجلس النواب أزمة الوزارة العدلية، وأزمة ميزانية الأزهر، والمخصصات الملكية، وأزمة الجيش التي أثارها اللورد جورج لويد عقب الحملة التي حملها عليه مجلس النواب.

كانت  أزمة الوزارة العدلية قد نجمت من اقتراح اقترحه بعض النواب لشكر الوزارة على مساعدتها بنك مصر، ثم قيل في الرد على هذا الاقتراح إنَّ الشكر غير لازم؛ لأنه من قبيل تحصيل الحاصل. فاغتنم عدلي باشا هذه المناسبة واستقال؛ لأنه كان على ضجر وامتعاض من مطالب اللورد جورج لويد التي لا تجري على قانون ولا اتفاق. وبذل سعد باشا زغلول جهده في إقامة وزارة أخرى...الطريف أن العقاد يشير إلى أنَّ أزمة الوزارة العدلية وافقت برِضًا من سعد في تلك الآونة؛ لأنه لم يستحسن من عدلي تهديده بالاستقالة إذا تعرض المجلس لتصرفه في مسألة كتاب «الشعر الجاهلي» للدكتور طه حسين، ولم يكل إليه الرأي كله في هذا التصرف. وقد كان علي الشمسي باشا وزير المعارف من قِبل الوفد، وكان رأيه كرأي عدلي باشا في هذه المسألة على خلاف المظنون والمقدور، فكان نصيبه أيضًا من المجلس تجريح قوانينه التي عرضها لتعديل برامج الدراسة، وإفهامه من ثَمَّ أنَّ اضطرار وزير إلى الاستقالة أمر غير عسير، ولو دخل في حماية رئيس الوزراء وحسب له حسابًا قبل حسابه لزعيمه.

يرى العقاد أن سعد زغلول سلك في مسألة ميزانية الأزهر ومسألة المخصصات الملكية مسلك المجاملة للقصر مع المحافظة على نص الدستور؛ فقد كان كثير من النواب يلحون في وجوب عرض الميزانية الأزهرية على المجلس، وكان المجلس يكاد أن يتخذ قرارًا بتأييد هذا الطلب؛ فذكر لهم سعد أنَّ الدستور ينص على أنَّ المعاهد الدينية تنظَّم بقانون؛ فالاقتراح سابق لأوانه قبل وضع ذلك القانون.

ووجهة نظر العقاد فى تصرف سعد زغلول فى مسألة المخصصات الملكية، ناتج من أن  بعض الأعضاء ينسى الدستور، ويطالب الحكومة بنقصها في الميزانية، وهو ما لا يجوز؛ لأنه مخالف للمادة المائة والحادية والستين من الدستور، فكان سعد يسمح للأعضاء بالمناقشة في هذه المسألة ويمنع الشطط فيها، ويكتفي بتوجيه المجلس إلى التماس تعديل المخصصات من جلالة الملك رعايةً للاقتصاد، ويصبغ احترام النصوص التي لا محيص عنها بصبغة المجاملة على هذا المنوال.

يرى العقاد أن ألاعيب السياسة البريطانية ضد سعد زغلول أثناء توليه رئاسة مجلس النواب تظهر بوضوح فى أزمة الجيش؛ وقد بذل سعد من الجهد في تهدئة النواب والجمهور ما ليس يقدر على بذله سواه، وكان موضع الملاحظة عليه من بعض أنصاره، بمن فيهم العقاد، الذى يرى أن سعد زغلول أشتري الدستور بأغلى من ثمنه، وأطال المسألة حيث لا يرجى أن تقابل بمثلها أو يكف عن العدوان. كانت أسباب هذه الأزمة أنَّ لجنة الحربية في مجلس النواب اقترحت زيادة عدد الجيش وتحسين سلاحه، وهو اقتراح قديم عرضه سبنكس باشا نفسه في عطلة الدستور، وليس فيه خروج على حدود النيابة ولا سوابق الاتفاق بين الحكومتين المصرية والبريطانية.

إلا أنَّ المندوب السامي كان موتورًا من المجلس ومن الشعب؛ لأنهم استنكروا منه أن يباشر عمله دون أن يقدم أوراقه كسائر السفراء والوزراء المفوضين، كما استنكروا رحلاته إلى الأقاليم واستقباله الأعيان والوجهاء كأنه ملك يستقبل رعاياه. وليس للمجلس بد من هذا الاستنكار؛ لأن سكوته عنه أمر غير مفهوم إلا على معنى الإقرار والتفريط في أمانته الوطنية وأمانته الدستورية، ولكن اللورد جورج لويد لا يعرف عذرًا لأحد في معارضة أهوائه وبدواته، فكظمها في صدره حتى سنحت مناسبة، وطلب ما لا طاقة لحكومة في الدنيا بقبوله، وهو مد خدمة سبنكس باشا ثلاث سنوات ومنحه رتبة الفريق، وتخويله السيطرة على الضباط في الترقية والتعيين، واتصاله المباشر بجلالة الملك، وتعيين وكيل له ووكيل للوكيل من الإنجليز! وغير ذلك من المطالب التي أقلقت الحكومة والمجلس.بعد جدال استقر الرأي على إجابة بعض المطالب، وهي ترقية سبنكس باشا ومد خدمته وتعيين وكيل له، وانتهت أزمة.

يؤكد العقاد أنه رغم ضيق الوقت وغلبة الشواغل السياسية والأزمات المصطنعة، قد اتسع مجلس النواب أيام سعد زغلول لأعمال شتى ومقترحات صالحة، كإلغاء السخرة وتعميم التعاون بين الفلاحين، وفتح الطرق ودرس مشكلة العمال، وما إلى ذلك من مطالب الإصلاح الاجتماعية.

 ظل العقاد مؤمنا أن سعد زغلول المثل الأعلى في الرئاسة، لكونه الرئيس الذي يملك القدرة على القصد في أوقات المجلس والقصد في جهوده، ويملك القدرة على حفظ نظامه بغير حاجة إلى زواجره وقوانينه، ويملك القدرة على تعليم أعضائه وهدايتهم إلى أكبر ما يستطيعون من صواب وأقل ما يتعرضون له من خطأ. ويكون مع صيانته لحقوق مجلسه قائمًا بالقسط بينه وبين جوانب الحكومة الأخرى، مانعًا للصدام بينه وبين ما يحيط به من القوى والعراقيل؛ فبهذه القدرة استحقت رئاسة سعد أن تُحسب من مزاياه وصفحة من صفحاته.

Dr.Radwa
Egypt Air