الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

مقالات

المعارضة المصرية.. رؤية مستقبلية


  • 16-1-2024 | 11:44

د. صديق عطية

طباعة
  • د. صديق عطية
  • المعارضة الحقيقية هي تلك القادرة على خلق نوع من الشد والجذب مع حكوماتها لإنجاز ما يسمو بالوطن، ومن ثم تحصين الوطن وحفظ أمنه القومي، وهي الغاية المنشودة
  • النهوض بالوطن وتحصينه يتحقق حين تنصهر غايات المعارضة مع المصلحة الوطنية، بتخليها عن المعارضة الصفرية التي تكتفي بتسجيل النقاط على حكوماتها، بل نراها تكمل مواضع النقص فيها

 

 

إذا كانت الديمقراطية – بمفهومها الليبرالي- تعني: " نظام الحكم الذي يشترك فيه الشعب عن طريق ممثلين، أو عن طريق الاستفتاء"؛ فإن المعارضة داخل البرلمان يقع على عاتقها- مثلما يقع على عاتق الحكومة كذلك- مهمة تشكيل بنية أو نظام سياسي قادر على خلق علاقة فاعلة في معادلة القوة التي تحكم العملية السياسية بالمجتمع ، ومن ثم تشكيل حياة سياسية صحيحة عبر مراحلها المتنامية نحو الديموقراطية الحديثة.

    فالمعارضة الحقيقية تسهم وتعوِّض حيث قصَّرت الحكومة، وتقترح الحلول والبدائل، لا أن تضع تقنع بإظهار العوار والتجريس والتشفِّي، حينها لن ترى الحكومات داعيا للتضييق علي المعارضة .

   إن من شأن خلق هذا النوع من الانسجام يخلق تكاملا بين السلطة التنفيذية والمعارضة الوطنية المخلصة في مواجهة الفساد والقوى الضاغطة المستأثرة بالمصالح الخاصة على الحساب مصلحة الوطن، بل وخلق توافق وطني، ومن شأن تلك المعارضة الحقيقية بالبرلمان الإسهام في تشكيل حياة سياسية صحيحة ونظام ديمقراطي قائم على عناصره الخمسة اللازمة لتحقيقه: استقلال القضاء، وتعزيز حكم القانون، ووجود جهاز إداري كفء ، وكيان اقتصادي مؤسسي، ومجتمع مدني حر ، فبتحقيق تلك العناصر وتفاعلها يُبنَى نظام متين وحياة سياسية متماسكة قائمة علي ديمقراطية متماسكة .

المعارضة.. تجارب برلمانية

   إن رصد أداء البرلمان بعد ثورتين (25 يناير و 30 يونيه) يكشف خللاً بيِّنًا في أداء الأعضاء، لاسيما المعارضة منهم، وأن معظمهم لم تدفعهم الرغبة في الترشح بالبرلمان سوى مصالحهم الشخصية الضيقة، أو الرغبة في كسب وجاهة اجتماعية، يشهد على ذلك استكانتهم لآداءاتهم الضعيفة دون الجدية في التحسين وتطوير الأداء ما يؤكد تأخير مصلحة الوطن على قائمة أولوياتهم..

   وحتي لا يُظَن في كاتب تلك السطور شبهة ضرب المعارضة لصالح السلطة التنفيذية أعجل – قبل انتقادي للمعارضة-  بأن الحكومة تتحمل قدراً من المسؤولية عن ضعف أداء المعارضة بذلك البرلمان من التضييق عليها أحياناً، وأن بعضاً من الإجراءات السياسية والفنية والتنظيمية لم تُتَّخذ، والتي لو تمت لتحسَّن الأداء، من مثل: إتاحة آليات تمكِّن الأعضاءَ من التشاور المنتظم حول ما تطرحه الحكومة أو المواقف التي تتبناها، وشفافية البرلمان؛ بإذاعة جميع جلساته بما ييسِّر إمكانية تقييم أداء مجلس النواب ، وإتاحة المزيد من الدعم الفني وتعزيز قدرات الأعضاء، وإخضاعهم للمساءلة أمام الرأي العام بما يضمن نزاهة الأداء وحسن استخدام الصلاحيات والحصانة البرلمانية.

أعود بعد تلك المعاجلة إلى أداء البرلمان، ففي برلمان (٢٠١٥) يكفينا تقديم شاهد واحد فيه دلالة على ضعف أداء الأعضاء (ونخص المعارضة منهم) وتقصيرهم في أداء أدوارهم، والتخاذل في استخدام أدواتهم المتاحة ووظيفتهم الرقابية:

انتقد ( سليمان وهدان) وكيل البرلمان أداء النواب في أحد برامج التوك شو بأنهم لا يستثمرون ما يملكون من صلاحيات رقابية، ولا يقدمون استجوابات لملاحقة الفساد. فانتقاد وكيل البرلمان لأداء النواب ينم عن أن هؤلاء لايدركون - بل ربما لا يعرف معظمهم وظيفتهم الحقيقية تحت قبة البرلمان-  وما منحهم الدستور من أدوات رقابية إن أرادوا إصلاحاً للمجتمع وملاحقة ما يعج بيه من فساد .. ثم إن (سليمان وهدان) لم يخل من العيب ذاته، فهو المنتمي لحزب الوفد المعارض داخل البرلمان صاحب ( ٥٦) مقعداً لم يقدم سوى استجوابين ، فقد كان حزبه أولى بانتقاده.. ولم تخل ممارسات المعارضة في برلمان ٢٠٢٠ من ذات العيوب د، ولا يتسع المجال لرصد الشواهد، دالة على أن معظم الأحزاب المعارضة على كثرة أسمائها مجرد جماعات مصالح، لا تمارس أنشطة حزبية بشكل حقيقي.

    وما نراه من مظاهر فشل المعارضة في مصر ليس غير نتائج حتمية لافتقاد الروح الوطنية الصادقة وفساد أخلاق أصحابها، خذ منها على سبيل التمثيل لا الحصر: ضعف التنظيم والتنسيق فيما بينها، والعمل في جزر منعزلة، وكذلك عجزها عن إقامة قواعد شعبية واسعة رغم كثرة أعداد تلك الكيانات بما يزيد على عدد أعضاء الحزب الواحد منها، لأنهم يهدرون طاقاتهم في التلاسن وكيْل الاتهامات لبعضهم البعض، بل وتدبير المكائد لإزاحة بعضهم من أجل مآرب شخصية ضيقة، صار معظم تلك الكيانات التي تدعي المعارضة والوطنية مترعة بالفساد والأنانية الساعية للسلطة لصالح أشخاصا معدودين من سياسيين انتهازيين أو ممولين طامعين، وليذهب الشعب والوطن إلي الجحيم.

    إن أغلب تلك الأحزاب - على كثرتها وإن ادعت أيديولوجيات وتوجهات مختلفة - كلها سواء في غياب أو غموض اللوائح المنظمة والاستئثار بسلطات تلك الكيانات،... أما الصالح العام أو مصلحة الوطن فليس نصيبه سوى إكليشيهات وعبارات برَّاقة ملَّاقة على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز.

فكيف - إذن - لمثل هذه الكيانات القاصرة في إدارتها لكياناتها  أن تطمع في إدارة دولة بحجم مصر؟!!

    فليس من حق مثل تلك المعارضة أن تطرح نفسها بديلاً لنظام حاكم لمجرد أنها تكشف عن بعض الخلل في مؤسسات الدولة، أو مجرد رشقه بالاتهامات، دون العمل بشكل فعلي على خلق بديل؛ سواء على مستوى طرح الأفكار والحلول والبدائل التي من شأنها تجاوز الخلل، أو بشكل إجرائي عملي من خلال خلق كيانات مؤسسية أهلية داعمة لمؤسسات الدولة الرسمية ، وخلق أسباب اتصال حقيقية مع فئات الجماهير المتضررة جراء عجز المؤسسات الرسمية عن تلبية احتياجاتها؛ من تعليم وصحة وغيرهما؛ لأسباب اقتصادية ضاغطة.

الحوار الوطني.. وإضاعة المعارضة لفرصة ذهبية

كانت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى إقامة حوار وطني فرصة ذهبية للمعارضة؛ فلم يكن يسعى الحوار الوطني لخلق مساحات مشتركة مع الإدارة الحاكمة فحسب، بل كان فرصة – كذلك- للأحزاب كي تلتقي في مساحات مشتركة فيما بينها، لكنها مثلما فشلت في تبني موقف موحد بينها إزاء قضية التطبيع مع إسرائيل؛ فشلت كذلك في بناء مواقف موحدة في ملفات وقضايا أخرى، مثل موقفها من الملف الاقتصادي واختلافها حول تخارج الحكومة أو بقائها، كما فشلت في الاتفاق والالتفاف حول مرشح رئاسي واحد، وتبددت المساعي بين إنشاء  بعض الكيانات الهشة، مثل: "التيار الليبرالي الحر" الذي عاجلته الانقسامات بعد أيام من التدشين له، وبين انقسامات أخرى بين القوى اليسارية .. فهل تظل تلك المعارضة على فوضاها وانقساماتها وصراعاتها على مصالح ضيقة؟ أم آن لها أن تسعى لمصلحة الوطن، بادئة بإصلاح كياناتها من الداخل وتطوير ممارساتها، لتنطلق خارج مبانيها إلى الجماهير؛ تحاورهم وتناقش أزماتهم ساعية لحلها، من أجل تكوين قواعد جماهيرية لها؟  فتلك أولى مهام الأحزاب.

المعارضة .. رؤية مستقبلية

  المكاشفة أول الإصلاح، هذه حقيقة، وما أسلفت من انتقادات للمعارضة لا تقف غايتها عند جلها فحسب؛ بل هي المكاشفة الطامحة إلى الإصلاح، وإذا ما افترضنا أن الأحزاب هي الكيانات المنظمة لممارسة الحياة السياسية؛ فلابد أولا من الإيمان بتكامل قطبي تلك الحياة؛ حكومة ومعارضة، فالمعارضة  هي الضوء الكاشف الذي تسير على هديه مركبة الحكومة، لكنها المعارضة الحقيقيىة، وأحزابها الحقيقية، تلك التي تجتهد في معالجة القضايا وتقدِّم البرامج وتطرح الحلول والبدائل، وتقيم حوارا لا ينقطع مع فئات الشعب، تتفهم أزماته وتسعى لحلها، كما تقيم حوارا دائما مع حكومتها، وبدون هذا الوصل على صعيد الجانبين، وبدون طرح الحلول وتقديم البرامج تظل المعارضة مجرد اتهامات وتسجيل نقاط على الحكومة لا أكثر، فالمعارضة الحقيقية هي تلك القادرة على بناء حياة سياسية صحيحة بين فئات الشعب؛ وخاصة الشباب، لاستيعابهم واستثمار طاقاتهم، فمن خلال تلك الكيانات يتحاورون، ويتمكنون من طرح أفكارهم ورؤاهم، وتطوير إمكاناتهم وتنمية مواهبهم، حيث تمكِّنهم تلك الأحزاب الناضجة من الانخراط في الحياة السياسية بمسار غير مشوَّهٍ أو معيب، فهذه أسمى رسالة منوط بالأحزاب النهوض بها.

  إن المعارضة الحقيقية هي تلك القادرة على خلق نوع من الشد والجذب مع حكوماتها لإنجاز ما يسمو بالوطن، تحقق هذا كان مؤشرا صادقا على تقدم الوعي السياسي لدى الجماهير من جهة، وعلى قوة السلطة الرقابية التي تمثل الشعب من جهة ثانية، ثم على قوة الإدارة الحاكمة من جهة ثالثة، ومن ثم تحصين الوطن – وهي الغاية المنشودة- وحفظ أمنه القومي؛ يتحقق ذلك كله حين تنصهر غايات المعارضة مع المصلحة الوطنية، والتي من أجل تحقيق تلك الغاية تتخلى عن المعارضة الصفرية التي تكتفي بتسجيل النقاط على حكوماتها، بل نراها تكمل مواضع النقص فيها، وتقدم الحلول والبدائل وتوحى بملء الفراغات حيث انسحبت الحكومة أو قصَّرت، وتجابه الفساد في الوطن حيث كان، وهو ما يمنح الحكومة القدرة على تدارك الخلل، وتقويم نفسها بنفسها، والدفع نحو الإصلاح بخطى راسخة ثابتة.. هنا، وهنا فقط، تتحقق العلاقة الطردية بين وجود المعارضة الحقيقية بسمو أدائها مع تحقق الإصلاح بكل مساراته المرجوة. 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة