الإثنين 6 مايو 2024

فلسطين في برلمان الفترة الليبرالية


عبد الواحد النبوي

مقالات16-1-2024 | 23:03

د. عبد الواحد النبوي

 

عمل قادة الحركة الصهيونية على إنشاء وطن لليهود في فلسطين في سرية تامة وتعمية لهذا الهدف حتى لا تتعرض مخططاتهم للرفض والمعارضة، وازدادت خطواتهم جرأة وعمقا بعد حصولهم على وعد من الحكومة البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، في 2 نوفمبر 1917 ولم يكن الفلسطينيون أو البلاد العربية يدركون ما يدور في الخفاء لفلسطين وأهلها، فقد كان الاستعمار الجاثم على بلاد العرب في أفريقيا وأسيا يزيد من مسافات التباعد بين الشعوب العربية لذا كان من الصعب أن يعلم العرب ما يجري في فلسطين. 

وعندما تولت بريطانيا الانتداب على فلسطين أطلقت العنان لكل صهيوني ليعيث في أرضها فسادا، وكانت مصر في تلك الفترة منهكة القوى من الصراع مع الاحتلال البريطاني للحصول على الاستقلال وخصوصا خلال ثورة 1919 وما بعدها وانشغلت الحكومات المتعاقبة فيما يعرف باسم حل "القضية الوطنية"، في وقت كان لليهود في مصر ثقل اقتصادي وسياسي ليس بالقليل، فقد وصل تعدادهم في مصر عام 1927 نحو 63550 نسمة وكان من أهم البيوتات اليهودية عائلات قطاوي، منشة، شكوريل، موصيري، سوارس، رولو ساسون، الذين  اخترقوا الطبقة السياسية الحاكمة بشكل واضح وكبير وكان يعين من هؤلاء وزراء وأعضاء في البرلمان.  

لذا بدا واضحا أن الحكومات المتعاقبة على حكم مصر منذ صدور وعد بلفور لم تهتم بوضع سياسة للتعامل مع ما يحدث على حدود مصر الشرقية وتركت هذا الامر للسلطات البريطانية التي كان لها اليد العليا في مصر وهي أيضا من تدير الأمور في فلسطين، وقد استمرت هذه السياسة إلى ما بعد عقد مصر لمعاهدة 1936 مع بريطانيا.  

كان الخطر الصهيوني على حدود مصر الشرقية يزداد يوما بعد يوم، والشعب المصري تزداد لديه مشاعر الغضب تجاه ما يعانيه الفلسطينيون في أراضيهم فالأخبار المتواترة بشكل متسارع أصابت طبقة المحكومين في مصر بالحنق والضيق والرفض، ولا شك أن تلك الأمور انعكست على أعمال البرلمان المصري. 

الخطر في فلسطين يغير الوضع في البرلمان

عانى البرلمان المصري منذ عام 1924 من كثرة التعطيل بسبب التناحر الحزبي فلم يكمل دروة برلمانية له فكثيرا ما تم حله أو تعطيله عن العمل، وتمحور نشاط البرلمان خلال الفترة 1924 - 1936 حول القضية الوطنية والصراع على السلطة، ولم تجد الأوضاع في فلسطين منفذا إلى ساحة البرلمان المصري في تلك الفترة. 

ومع تغير الأوضاع في فلسطين بدأ أعضاء البرلمان المصري يدركون خطورة الأمر، وبدأ الموقف يخرج من حيز إبداء الأسف على ما يحدث في فلسطين مثلما حدث في يوليو 1936 إلى الرفض والاحتجاج الشديد في يوليو 1937 عندما قدم محمد حسين هيكل استجوابا شديد اللهجة لمصطفى النحاس رئيس الحكومة عن موقف حكومته من المجازر التى تجري في فلسطين والموقف من لجنة PEEL  التى أوصت بتقسيم فلسطين، وحرص النحاس على عدم الصدام مع بريطانيا التى وقعت منذ وقت قريب على معاهدة 1936، فأعلن لأعضاء مجلس الشيوخ أن فلسطين تنال عنايته وأنه تواصل مع الحكومة البريطانية أنه اجتمع مع السفير البريطاني مؤكدا له تأييد النضال الفلسطيني ورفض التقسيم وأرسل لقادة فلسطين بذلك، ولم ترض المعارضة بهذا الرد من رئيس الحكومة.

لقد كانت معاهدة 1936 سيفا مسلطا على رقبة أية حكومة سواء الوفد أو غيره فقد نصت المادتين الخامسة والسادسة من المعاهدة لى ضرورة التنسيق والانسجام التام بين مصر وبريطانيا في السياسة الخارجية، ورغم ذلك تفاعل أعضاء البرلمان المصري مع الأحداث في فلسطين فزادت الأسئلة الاستجوابات وكان من أهمها ما قدم في مايو 1938 لرئيس الحكومة محمد محمود باشا من نواب الوفد عن موقفه من المذابح البشرية في فلسطين وضرورة العمل على وقفها وكانت ردوده تدور حول العمل مع بريطانيا لإيجاد حل لتلك المسألة، ولم يكن هذا الرد ليرضي الأعضاء وخاصة من المعارضة التى أعلنت رفضها لموقف حكومة محمد محمود وهاجمها عبد الحميد سعيد (حزب وطنى) قائلا " أخشى ما أخشاه أن يتحقق ما توقعناه من نص المعاهدة المتعلق بسياسة مصر الخارجية فيحال بيننا وبين جيراننا وأبناء عمومتنا ..... إن هذا الموضوع جد خطير وأن فلسطين المعذبة تأكلها النيران أكلا وتنتابها المصاعب من كل النواحي وأن إقامة دولة صهيونية على الحدود المصرية خطر يضر بنا سياسيا واقتصاديا فكان من الواجب أن تكون الحكومة المصرية أسرع الحكومات إلى الأخذ بيد فلسطين بل والدفاع عن مصر نفسها وإلا فقدنا منزلتنا لدى العالمين العربي والإسلامي" 

وتحرك بعض أعضاء البرلمان فشكلوا في مايو 1938 "اللجنة البرلمانية المصرية للدفاع عن فلسطين" وخاطبت هذه اللجنة عصبة الأمم والسفير البريطاني في مصر والمندوب السامي البريطاني في فلسطين وملوك الدول العربية للعمل على إيقاف ما يحدث للفلسطينين في بلادهم، واستطاعت هذه اللجنة أن تعقد مؤتمرا برلمانيا عربيا للدفاع عن فلسطين في أكتوبر 1938 وخرجت بقرارات عدائية وداعية للتعاون مع أعداء بريطانيا بسبب سياستها في فلسطين.

واستمر أعضاء البرلمان المصري في نوفمبر 1938 في الضغط على الحكومة وطالبوها العمل بحزم مع الحكومة البريطانية وأنها "إذا كانت رحيمة شفيقة على اليهود فأمامها مستعمراتها الشاسعة الواسعة التى لا تغرب عنها الشمس"

كانت أقصى جهود الحكومات المصرية تتمثل في الضغط على البريطانيين للإفراج عن المسجونين الفلسطينين وإعادة المبعدين إلى بلادهم.

استمر أعضاء البرلمان يلاحقون الحكومة بالأسئلة والاستجوابات في كل ملمة من ملامات القضية الفلسطينية وعندما نشط الصهاينة في الولايات المتحدة وتعاطفت معهم الإدارة الأمريكية ورفض الرئيس الأمريكي روزفلت الحد من هجرة اليهود إلى فلسطين سأل عبد المجيد صالح عضو مجلس الشيوخ في 9 أغسطس 1944 مصطفى النحاس عما اتخذته حكومته من إجراءات، أعلن أن مصر احتجت لدى الخارجية الأمريكية ولدى الحزبيين الأمريكيين من الأثر السييء للدعاية الصهونية على العالمين العربي والإسلامي فيما يتعلق بحقوق الفلسطينين، وعند مناقشة ميثاق الجامعة العربية في مجلس الشيوخ أعلن صبري أبو علم ضعف الميثاق فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. 

ومع تطور الأوضاع في فلسطين دعا محمد فكري أباظة في مجلس النواب في مايو 1946 الحكومات العربية للتفكير في إنشاء جيش عربي عام يكون مستعدا لأول وهلة لأن العنف لا يمكن أن يواجه إلا بالعنف وإذا أصرت أمريكا وبريطانيا على تجاهل حقوق الفلسطينين فيجب عدم التعاون مع كلتا الدولتين، وأضاف عبد الحليم أبو سيف راضي "الواجب أن نلوم أنفسنا أننا لم نعمل شيئا جديا من أجل فلسطين ولم نشاركها محنتها .... يجب ألا نعول على عرض مسألة فلسطين على مجلس الأمن .... أنكم تخطئون إذا كنتم تعلقون أهمية على نيل حقوقكم عن هذا الطريق ... إن الدول العظمى لن تعلن حروبا فيما بينها كي تنيلكم حقوقكم" ودعا الحكومة إلى التوقف عن الكلام المعسول وأن تقوم بعمل إيجابي واقترح تخصيص مليون جنيه لإنقاذ أراضي فلسطين.

وعندما اتخذت جامعة الدول العربية قرارا بإنشاء شركة لمساعدة الفلسطينين للحفاظ على أراضيهم وتنميتها وافق البرلمان المصري على إنفاق 105 آلاف جنيه نصيب مصر في أسهم هذه الشركة. 

ولما لجأ أمين الحسيني إلى مصر قيدت الحكومة حركته فقدم صبري أبو علم زعيم المعارضة في مجلس الشيوخ استجوابا لرئيس الحكومة إسماعيل صدقي في 14 مايو 1946 طالبا رفع تلك القيود وساند صبري أبو علم مجموعة من الأعضاء وكانت الحملة شديدة على رئيس الحكومة استخدمت فيها ألفاظ غير لائفة دعت رئيس المجلس لشطبها من المضبطة، ورد إسماعيل صدقي بأن أمين الحسيني لم يشك من الأمر ولتسوية الموضوع طلبت الحكومة من صبري أبو علم مقابلة الحسيني لمعرفة هل يشكو من الأمر أم لا ويبدو أن أمين الحسيني لم يرغب في إثارة مشكلة للحكومة المصرية فأبدى لصبري أبو علم عدم شكوته من الإجراءات الحكومية. 

لقد بدا خلال الفترة منذ عام 1936 وحتى قبيل حرب 1948 أن أعضاء البرلمان المصري كانوا أكثر حراكا تأثرا بما يحدث في فلسطين وجاءت ردود أفعالهم بما يتفق  أحيانا كثيرة مع توجهاتم الحزبية، فالأحزاب الموالية للحكومة كانت تعبر عن غضبها لما يحدث لكنها ترضى بأية ردود ولو كانت لا تتفق وحجم الأحداث، أما أحزاب المعارضة فكانت أكثر شدة وهجوما على سياسات الحكومات التى كانوا يرون فيها أنها مقيدة بتوجهات السياسة البريطانية.

البرلمان والحكومة يد واحدة في حرب 1948

كانت الأحداث في أرض فلسطين تسير نحو الصدام العسكري خاصة بعد صدور قرار الأمم المتحدة رقم 181 في 29 نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ورفض البرلمان المصري في الأول من ديسمبر 1947 بكامل أعضائه قرار تقسيم فلسطين وتمسك بفلسطين عربية موحدة، وأيدت حكومة النقراشي القرار، ودعا الأعضاء لتقوية الجيش المصري حتى ولو عن طريق فرض ضريبة استثنائية.

زاد إجرام الصهاينة في فلسطين وزادت المذابح وارتكبت مذبحة دير ياسين في 9 أبريل 1948 ومنذ ذلك التاريخ والشارع المصري في تذمر وهياج، وزادت الدعوات للحرب لذا في 5 مايو 1948 وافق البرلمان المصري على استقطاع الحكومة 100 ألف جنيه من الاحتياطي العام لإعادة المصريين من فلسطين وإيواء وإعالة المهجرين الفلسطينين، وبعد ستة أيام وافق البرلمان على اعتماد مبلغ أربعة ملايين جنيه لقوات الجيش المصري المرابطة على الحدود مع فلسطين، وفي اليوم التالى عقد مجلس النواب جلسة سرية أوضح فيها رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي أنه أثناء اجتماع جامعة الدول العربية في لبنان أثيرت مسألة التدخل العسكري وأن مصر تحفظت بسبب النزاع مع بريطانيا إلا أنه أوضح أن هناك 400 ألف فلسطيني في المناطق الصهيونية عرضة للذبح، وأن السلاح الذي يصل فلسطين يأتي عن طريق مصر وأن المتطوعين يتم تدريبهم في معسكر الهايكستب ويقودهم بعض الضباط المتطوعين، وأن بريطانيا ترفض تدخل الجيوش العربية وهى تتعهد بحفظ الأمن حتى خروجها في 15 مايو 1948، وأن الموقف يصبح مأساويا بعد خروج البريطانيين حيث إن عصابات الهاجاناه وشتيرن والأراجون الصهيونية مطلقة السراح، وتحدث النقراشي عن قوة تلك العصابات ومواردهم والمؤيدين لهم ولكنه أكد على أن "قوى الدول العربية مجتمعة كفيلة بحسم الموقف" ثم قال "إن الحكومة تراقب الحالة وهى لا تتردد في إصدار الامر إلى الجيوش المصرية لإعادة السلام إلى أرض السلام" وأيد المجلس الحكومة وأعلن النواب "إنهم يضعون أنفسهم وأموالهم تحت تصرف الحكومة لإنقاذ فلسطين ووافق النواب في نفس الجلسة على تطبيق قانون الاحكام العرفية إذا كان الجيش المصري خارج الحدود" ووافق مجلس الشيوخ مثلما وافق مجلس النواب عدا إسماعيل صدقي الذي كان يري أن الجيش لم يكن جاهزا للحرب ووافق المجلس على زيادة مبلغ 4 ملايين الذي كانت الحكومة قد طلبتها ليصبح المبلغ 9 ملايين وفي 7 يونيو وافق البرلمان على مبلغ 21 مليونا أخرى للجيش.

وتدفقت التبرعات من المصريين على الحكومة المصرية ووصلت إلى 786139 جنيها مصريا حتى أن مديرية البحيرة تبرعت بمبلغ 5 آلاف جنيه لشراء طائرة حربية باسم المديرية. 

أدي تدخل الدول الكبرى إلى عقد ثلاث هدن متوالية بدا بعدها ظلال الهزيمة واضحة على القوات العربية التي دخلت فلسطين، وهاجم البرلمان المصري الحكومة في جلسة سرية في 30 نوفمبر 1948 لعدم إعدادها الجيش لاحتمالات الحرب، ورغم محاولة النقراشي التبرير بتعرضه للضغوط ودافع عن الجيش إلا أن الأعضاء كانوا في حالة رفض تام لأداء الحكومة، وأثرت الهزيمة على الأعضاء وطالب بعضهم بالانسحاب من جامعة الدول العربية. 

البرلمان وماذا بعد النكبة

وصل عدد الفلسطينين اللاجئين لمصر في نهاية عام 1948 بمدينة القنطرة شرق فقط 11163 نسمة ووافق البرلمان على توفير الكساء والدواء لهم بمبلغ 141226 جنيها وبذلت مصر جهودا كبيرة حتى اعترفت الأمم المتحدة بحقهم في العودة لديارهم، ووافق البرلمان على السماح للفلسطينيين المقيمين في غزة بالعمل في مشروعات سيناء مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، وشجع أعضاء البرلمان المصري على جمع المساعدات للفلسطينيين ودعمهم بكل الطرق للتخفيف من معاناتهم.

على جانب آخر حرص البرلمان على أن تقوم الحكومة بدورها في ألا يصل للكيان الصهيوني أي دعم أو مساندة من القوات البريطانية الموجودة في منطقة القناة أو تكون مصر منفذا لتهريب المواد التى يحتاجها هذا الكيان وكثرت الأسئلة للحكومة التى شددت من إجراءات تفتيش السفن في المياه المصرية واحتجزت السفينة البريطانية إمباير روش في 1 يوليو 1951 التي كانت تحمل مدافع وذخيرة إلى ميناء العقبة الاردني وتعرضت مصر لهجوم شديد في مجلس العموم البريطاني وفي الصحف البريطانية، رافضين الحصار الذي تفرضه مصر على الكيان الصهيوني وثار البرلمان المصري وطالب الحكومة بالحفاظ على الكرامة والسيادة المصرية، وأكدت الحكومة أكثر من مرة في البرلمان أن اتفاقية القسطنطينية الخاصة بقناة السويس والقانون الدولي يعطيها الحق في أية إجراءات للحفاظ على أمنها وتفتيش السفن المتجه إلى موانئ الكيان الصهيوني الذي مازالت الحرب قائمة معه وأن عقد الهدنة لا يعني انتهاء الحرب.

واستمر البرلمان في متابعة ما حدث في الحرب وطلب الأعضاء بفتح تحقيق فيما يتعلق في المخالفات المالية التى شابت نفقات حملة فلسطين بعد التقرير الذي أعده ديوان المحاسبة في هذا الشأن ولم يمهل البرلمان الوقت للاستمرار في هذا الموضوع فسرعان ما قامت ثورة يوليو 1952 .