الأحد 5 مايو 2024

التعنت الإسرائيلي ومخاوف سوء التقدير الأمريكي في حرب غزة

مقالات28-1-2024 | 19:49

لم يكن هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر من العام الماضي أمرًا متوقعًا بالنسبة للإدارة الأمريكية؛ بسبب انشغالها بالتحديَّات الاستراتيجية التي تواجهها على مستوى العالم ضد روسيا، والصين، وكذلك حالة الاستقرار النسبي التي تتمتع بها مصالحها الإستراتيجية في الشرق الأوسط بفضل «إسرائيل»؛ الحليف الإستراتيجي الأول والمتلقي الأكبر للمساعدات الخارجية الأمريكية على مستوى العالم.

منذ اليوم الأول للحرب، وصف الرئيس الأمريكي «جو بايدن» نفسه بـ «الصهيوني» معلنًا عن دعمه الكامل لإسرائيل، والذي تمثل في الآتي:      

أولاً: الاستمرار في التركيز الواضح على مصالح الأمن القومي الأمريكي المعرضة للخطر في منطقة الشرق الأوسط.

ثانيًا: حشد الرأي العالمي وضمان ثقة إسرائيل في أنها تحظى بدعم قوي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بشأن أحقيتها في استخدام كافة الوسائل اللازمة للدفاع عن نفسها.

ثالثًا: تقويض الجهود الدولية الرامية إلى منع إسرائيل استخدام للقوة، وذلك من خلال استخدام حق الفيتو بمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة لمنع التصديق على مشروع قرار بشأن دعوة إلى «وقف فوري لإطلاق النار لدواعٍ إنسانية» في قطاع غزة، وذلك حرصًا منها على ضمان خروج إسرائيل من الحرب وهي صاحبة اليد العليا في تحديد مستقبل القطاع بعد الحرب أو ما بعد القضاء على حكم حماس، كما يردد الإسرائيليون.

رابعًا: إظهار الالتزام الأمريكي العميق تجاه حليفتها إسرائيل، وذلك عبر تقديم المساعدات المباشرة لتعزيز قدراتها على تحقيق أهدافها في الحرب على حماس، مع الاستمرار في تقديم الدعم العسكري وضمان عدم افتقار إسرائيل إلى المعدات الحيوية لتحقيق أهدافها العسكرية، فضلاً عن إرسال قوات خاصة أمريكية لتقديم المشورة للقوات الإسرائيلية خلال التجهيز للعمليات البرية.

من الردع والاحتواء إلى حتمية وقف التصعيد:

خلال الأيام الأولى للحرب، حرصت الإدارة الأمريكية على احتواء الصراع ومنع تحوله إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، وذلك لتقليل خطر تورط القوات الأمريكية بشكل مباشر في القتال ومن ثمَّ تهديد مصالحها، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية وراء إرسال الولايات المتحدة الأمريكية حاملتي الطائرات «جيرالد فورد»، و«أيزنهاور»؛ بهدف ردع أي طرف آخر يرغب في الاشتراك في الحرب.

مع استمرار الحرب أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أن احتمال التصعيد أمر غير مستبعد ووارد حدوثه في أي وقت، ولذلك تُعد مسألة المدى الزمني للعملية البرية الإسرائيلية نقطة خلاف أساسية بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، لاسيما مع إصرار «نتنياهو» على التصعيد لأهداف سياسية وشخصية، فمع تصميمه على البقاء في السلطة وتشجعه لاحتمالية عودة صديقه «ترامب» إلى السلطة في يناير 2025، من المتوقع أن يقاوم «نتنياهو» الضغوطات التي يمارسها «بايدن» لإنهاء الحرب متجاهلاً الدعوات لضبط النفس في غزة، وسيواصل تأجيج التوترات في الضفة الغربية وإحباط أي جهود لإقامة دولة فلسطينية في المستقبل.

سيناريوهات محتملة:

كلما طال أمد الحرب، كلما زادت احتمالية مشاركة أطراف أخرى ومن ثمَّ إجبار الولايات المتحدة الأمريكية على الانخراط في أي لحظة، وفيما يلي أبرز المسارات أو السيناريوهات المحتمل حدوثها خلال الفترة القادمة:

أولاً: قيام إسرائيل بتوجيه ضربة استباقية ضد حزب الله، وهو ما تعهد به كبار القادة الإسرائيليين؛ حيث توعدوا بإزالة التهديد الذي يشكله حزب الله على حدودهم الشمالية، كذلك ناقش مجلس الوزراء الحربي عملية عسكرية لدفع حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني في جنوب لبنان.

قد تتخذ إسرائيل تلك الخطوة عقب انحسار القتال في غزة؛ تجنبًا لخوض حرب شاملة على جبهتين، ومن المؤكد أن يقدم الجيش الأمريكي الدعم الكامل للجهود الإسرائيلية خلال تلك الحرب. وفي المقابل، ستدعم إيران حزب الله. وبالتالي فمن المتوقع أن يؤدي استمرار التصعيد إلى تحويل حرب الظل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ضد إيران إلى حرب عسكرية مباشرة.

ثانيًا: يمكن أن يبدأ التصعيد من قبل حزب الله، وذلك في حالة إدراك إيران أن حزب الله أصبح معرضًا لخطر البقاء، وبالتالي فإن سقف دعمها لحزب الله سوف يرتفع إلى حد تقديم الدعم لتوجيه ضربة استباقية ضد إسرائيل. 

ثالثًا: يمكن أن يحدث التصعيد من قبل المسلحين الحوثيين في اليمن خاصةً وأنهم يمتلكون ترسانة هائلة من الأسلحة الإيرانية، وهم حريصون على تعزيز مكانتهم باعتبارهم جبهة مقاومة مدعومة من طهران، فمنذ نوفمبر من العام الماضي، يشن الحوثيون هجمات صاروخية وطائرات مسيرة على إسرائيل، والسفن الحربية الأمريكية، وسفن الشحن التجارية، مما يهدد الممر الآمن عبر مضيق باب المندب، وخليج عدن وهي الممرات المائية الرئيسية لعبور النفط والبضائع إلى أوروبا، وأمريكا الشمالية، وآسيا. وردًا على ذلك، شكلت الولايات المتحدة الأمريكية قوة عمل بحرية متعددة الجنسيات لحماية الشحن وردع الحوثيين.

وبالتالي فإنه في حالة استمرار هجمات الحوثيين، فقد تشهد الفترة القادمة شن ضربات متزايدة على قواعدهم في اليمن، مما سيدخل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بشكل مباشر أكثر في الحرب.

رابعًا: قيام الميليشيات الشيعية في العراق، وسوريا بزيادة هجماتها بشكل منهجي على القواعد الأمريكية بمباركة إيرانية؛ حيث سيترتب عليه تزايد احتمالات حدوث عواقب غير مقصودة بسبب الخسائر البشرية في صفوف القوات الأمريكية لاسيما وأن واشنطن قد أعلنت في وقت سابق أنه في حالة وجود ضحايا في صفوف الجيش الأمريكي فسيترتب عليه انتقام واسع النطاق، وتحميل إيران المسئولية المباشرة.

انعكاسات إقليمية وعالمية:

في حالة عجز إدارة «بايدن» عن إقناع إسرائيل بحتمية وقف الحرب، واتساع نطاقها الصراع وتعدد أطرافها، بسبب أحد السيناريوهات السابقة، فسيترتب عليه مجموعة من النتائج على المستويين الإقليمي، والعالمي مثل: 

أولاً: تهديد الاقتصاد العالمي، فبسبب هجمات الحوثيين علقت معظم شركات الشحن الكبرى في العالم العبور عبر البحر الأحمر، الذي يشهد مرور 12٪ من التجارة العالمية، كذلك من المتوقع أن يؤدي استمرار هجمات الحوثيين إلى ارتفاع أسعار التأمين على الشحن، وتعطيل سلاسل التوريد العالمية، وخلق ضغوط تضخمية.

ثانيًا: توسيع الانقسامات العالمية القائمة، واشتعال المشاعر المعادية لإسرائيل في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والجنوب العالمي. هذا بالإضافة إلى اتساع دائرة العزلة العالمية التي سوف تشهدها الولايات المتحدة الأمريكية بسبب دعمها لاستمرار إسرائيل في حربها على غزة، شأنها شأن روسيا عقب غزوها لأوكرانيا.

ثالثًا: تعميق الانقسامات داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها؛ حيث أثرت حرب غزة بشكل كبير على الرأي العام الأمريكي، وانتشار حالة السخط بين الشباب، والأقليات، والتقدميين داخل الولايات المتحدة الأمريكية بسبب دعم الرئيس «جو بايدن» الثابت لإسرائيل، والتي من شأنها إلحاق الضرر بالديمقراطيين خلال الانتخابات القادمة المقرر إجرائها في نوفمبر القادم.

رابعًا: زيادة حدة الانقسام بين الإسرائيليين والفلسطينيين واستبعاد التوصل إلى حل الدولتين.

خامسًا: تغذية التطرف السياسي والديني في مختلف أنحاء الشرق الأوسط والعالم، حيث قد تؤدي استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين إلى زعزعة استقرار البلدان التي تضم أعدادًا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، وفي أقصى الحالات، سوف تجبر الشعوب حكوماتها على قطع العلاقات مع إسرائيل. هذا بالإضافة إلى احتمالية تصاعد أعمال العنف ضد اليهود في العديد من الدول الأوروبية، والولايات المتحدة الأمريكية.

في ضوء ما سبق ذكره، يمكن القول إن حرب غزة تمثل نقطة فاصلة في تاريخ السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؛ فعلى الرغم من التحديَّات الإستراتيجية التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من منطقة حول دول العالم بسبب تنافسها مع كلٍّ من الصين، وروسيا إلا أن سياساتها تجاه الشرق الأوسط ستشهد تغييرًا كبيرًا خلال الفترة القادمة، حيث إنه من المفترض أن أدركت واشنطن مدى تعقد القضية الفلسطينية، وضرورة الضغط على إسرائيل مستقبلاً لتغيير سياساتها الاستيطانية التي تسببت في إشعال صراعات لا تخدم مصالحها في المنطقة.

لم يعد أمام الولايات المتحدة الأمريكية سوى خيار إجبار إسرائيل على إنهاء الحرب وتخلي «نتنياهو» عن مصالحه الشخصية من أجل الحفاظ على مصداقيتها واستمرار قيادتها للنظام الدولي لاسيما في ظل الانتقادات الشديدة التي تتعرض لها من قبل قادة وشعوب دول العالم بشأن سياسة ازدواجية المعايير الأمريكية التي كشفتها حرب غزة.

من ناحية أخرى، ترتب على الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل في حربها على غزة إضعاف قدرة واشنطن على حشد الدعم لمواقفها بشأن قضايا دولية عديدة مثل: الحرب الروسية الأوكرانية، وقضية تايوان بسبب ارتفاع رصيد كلاً من روسيا، والصين اللتين اتخذتا موقفًا داعمًا للفلسطينيين منذ بدء الحرب؛ بهدف تعزيز نفوذهما الشعبي والرسمي في منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة والعالم بصفة عامة، وذلك في إطار منافستهما المتصاعدة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين.