كل شيء في الماضي كان يمر مختومًا بخاتم السعادة، حتى أنه كان يحول أغلب المواقف الصعبة إلى كوميديا سوداء، فكما يقولون شر البلية ما يضحك، تذكرت قصة مررت بها وبأحداثها الطريفة على غير توقع، قصة من زمن جميل لا يعلم عنه شيئًا أبناء هذا الجيل الذين يحملون هواتفهم المحمولة بين أيديهم ويحصلون من خلالها على خدمات متاحة لا حصر لها.
كان التليفون الأرضي في المنازل رفاهيةً وكان التواصل في هذا الوقت لا يمكن ممتلكو التليفون من التعرف على هوية المتصلين، كان هذا بالطبع قبل التوصل إلى خاصية إظهار رقم الطالب التي أحدثت ثورة فيما بعد فقد كانت تعد بمثابة اختراع مدوي وعظيم.
كنا في فصل الصيف في منتصف الثمانينيات بالتحديد، وكان منزل خالتي في جهة تجعل الشمس باسطة أشعتها عليه أغلب ساعات النهار، الشباك والشيش الخشبي الموارب يحد بعض الشيء من سقوط أشعة الشمس بشكل مباشر داخل البيت، كان المصريون يحبون نوم القيلولة خاصة بعد تناولهم وجبة الغداء، كنت في هذا اليوم هناك أشاهد ما حدث والذي سأرويه الآن بالتفصيل، دخلت خالتي إلى غرفتها واستأذنتني أن تخلد للنوم ساعة كي تستريح من عناء الوقوف في المطبخ وإعدادها للطعام الذي أعدته بمفردها قبل عودة باقي أفراد أسرتها من عملهم.
جلست أطالع بعض المجلات مستمتعة بالهدوء والسكون، إلى أن رن جرس التليفون فأيقظها بصوته الذي شق هذا الهدوء وقطع هذا السكون، قامت منزعجة ورفعت سماعة التليفون وفجأة ارتسمت على وجهها ملامح الغضب وعلا معدل العصبية لديها كترمومتر بلغ أعلى درجاته فلم يجد متسعًا لمؤشره كي يصف حالة المريض، راحت تلقي بكلمات مستعرة على محدثها ثم وضعت سماعة التليفون بقوة، أغلقت الخط وهى تستشيط غضبًا مرددة ومكررة:" لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
قمت على الفور لأحضر لها كوبًا من الماء المثلج لعله يطفئ عاصفة الغضب التي أصابتها ونالت منها فتناولت المياه، ثم بدا عليها الحرج مما حدث أمامي فراحت تعتذر لي، وبعد التقاط أنفاسها هدأت قليلًا واستعدت للحديث معي وتفسير ما حدث منها، نظرت نحوي وقالت: "والله يا بنتي أنا زهقت من التليفون ده، فسألتها عن هوية المتصل الذي فعل بها كل هذه الأفاعيل، فقالت:" ده شاب صغير كل يوم يتصل بيا ويعاكسني، قلت له كذا مرة يا ابني عيب ده أنا في سن والدتك، ألاقيه يرد عليا ويقولي: ماهو ده اللي مخليني بحبك أكتر علشان حنيتك دي".
انفجرت بالضحك، فابتسمت هى وقالت:" كل يوم يا بنتي على دا الحال يتصل بيا مع إني باقوله كلام زي السم؛ إنه يحترم نفسه أبدًا، ماعندهوش دم ولا إحساس بعيد عنك، بيتهيألي حد مسلطه عليا يعمل معايا كده كل يوم علشان يقل راحتي، ربنا يقل راحته زي ماقل راحتي".
عادت خالتي إلى غرفتها مرة أخرى محاولة استعادة رحلة نومها التي تأخرت عنها دون إرادتها، لكنها فشلت بفعل فاعل استغل فرصة عدم التمكن من التعرف عليه، وراح يغازل امرأة مسنة دون مراعاة منه لها، ودون احترام لكبر سنها.