الخميس 16 مايو 2024

القراءة منهج حياة


د. لطيفة الحمادي

مقالات5-2-2024 | 10:02

د. لطيفة الحمادي
  • القراءة ليست مجرد نشاط عقلي، إنها رحلة عبر عوالم لا توصف، وكنز من الحكمة، ومحفز للنمو الفكري والعاطفي
  • القراءة ضرورة حياتية أشبه بالأكل والشرب والهواء للإنسان، فهي غذاء العقل، كما أن الكتاب يعد نافذة القارئ على عقول وعوالم جديدة مختلفة

 

في مكان مظلم بعيد معزول عن أعين البشر، نزلت أول كلمة ربانية على الـرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أنارت قلبه وعقله وكونه، ألا وهي كلمة "اقرأ" التي افتتح بها الله تعالى رسالة الإسلام.

إن اختيار الله -عز وجل- لهذه الكلمة بأن تكون أول ما ينزل على قلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها حكمة ربانية للبشرية، دالة على أهمية القراءة؛ فهي مفتاح المعرفة والعلم والقوة والقدرة، إذ إن هذه الأحرف الأربعة "اقرأ" غيرت مجرى حياة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن كانت غارقة في ظلام الجاهلية، وأعلت مكانتها بين الأمم، وأصبح يشار إليها بالبنان، فهذه الرسالة الربانية تشير إلى أن نهضة الأمم، وبناء الحضارات، والارتقاء بالقيم الإنسانية... كل ذلك يتم من خلال الارتقاء بالعقل والفكر وذلك بالقراءة.

وبعد أكثر من 1400 عام، وفي عصر تهيمن فيه وسائل التواصل الاجتماعي والإشعارات الرقمية، يمكن لعادة القراءة التقليدية والمثرية أن تكون بمثابة منارة للمعرفة، ويمكن أن تساعد الجيل الجديد في إطلاق الإمكانيات اللامحدودة في دواخلهم.

إن القراءة ليست مجرد نشاط عقلي، إنها رحلة عبر عوالم لا توصف، وكنز من الحكمة، ومحفز للنمو الفكري والعاطفي، فنحن عندما ننغمس في الكلمة المكتوبة، يمكننا أن نشعر بأن خلايانا العصبية تنشط، وتشكل روابط جديدة، فيبدو الأمر كما لو أن العقل عبارة عن غابة أشجار مورقة وواسعة، وكل كتاب نقرؤه يزرع بذرة المعرفة، ويزرع منظرًا طبيعيًا مليئًا بالأفكار والخيالات والتأملات.

إذن، كيف نبدأ هذه الرحلة التحولية لحياتنا عامة وعقولنا خاصة؟ وما الذي يجعل القراءة أداة قوية لتحسين الذات؟

القراءة.. أداة استكشاف عوالم متنوعة

نحن أثناء القراءة نستكشف موضوعات وآراء ووجهات نظر مختلفة، نتعمق في تجارب وأفكار لا تعد ولا تحصى، مما يوسع دائرة الأفق والبصيرة. كما أن تنويع قائمة الكتب المقروءة تجعل عقلية القارئ شاملة، مفتوحة على الآخر، وتجعله أكثر فهما وتقديرا للوجود الإنساني  في ثقافاته وفلسفاته ورؤاه ورواياته. فقراءة الكتب قد تنقلك من صحراء قاحلة إلى روضة غناء، وقد تصل بك إلى الفضاء؛ كونها تفتح لديك نوافذ جديدة لطالما كانت مغلقة، ترى منها الأشياء بطريقة مختلفة عما كنت تراه سابقا، تلك الاقتباسات المذهلة التي تلامس قلوبنا، وتبقى محفورة في ذاكرتنا، فتكون بمثابة قاعدة أو مبدأ حياة لنا، فقد استطاع صاحبها أن يعبر عن أمور لم نستطع نحن التعبير عنها وترجمتها، ولكنه صاغها بشكل دقيق فبقينا مذهولين أمامها، فقد يجعلنا نضحك ونبكي ونحزن ونفرح ونتحرك ونتفاعل مع أشخاص لا نعرفهم، ولكننا نجتمع معهم في كتاب، فيكون بمثابة ملتقى نتشارك فيه الإنسانية.

القراءة .. صالة الألعاب الرياضية للعقل

مثلما تتوق أجسادنا إلى الحركة وممارسة الرياضة، فإن عقولنا تتوق إلى التحفيز والتحدي، والقراءة هي تمرين للعقل، وهي صالة ألعاب رياضية عقلية؛ حيث تنثني الخلايا العصبية وتنمو، مما يعزز خفة الحركة الفكرية والمرونة. كلما قرأنا أكثر، أصبحت عضلاتنا المعرفية أقوى، مما يؤدي إلى صقل قدراتنا على فهم المعلومات وتجميعها وتحليلها، وكما يقول الأديب الفرنسي فيكتور هوجو: "النور موجود في الكتب… اِفتح الكتاب على مصراعيه… دعه يشع… دعه يفعل".

القراءة.. صندوق العاطفة

يقول الفيلسوف بول ريكور: "ما الذي نعرفه عن الحب والكراهية، والمشاعر الأخلاقية.. وبصفة عامة كل ما نسميه بالذات، إذا لم يكن قد تم تقديمه إلى اللغة وصياغة الأدب؟"، والكاتب هنا يؤكد في مقولته على أن النصوص، الأدبية السردية تحديدا، كالقصص والروايات، يمكن أن تنقلنا إلى حقائق بديلة مستعارة، مما يسمح لنا بالسير في مكان المؤلفين أو الشخصيات المختلفة،  فنصبح -بوصفنا قراء- أشبه بالمشاركين في هذه النصوص، والمتفاعلين مع الأحداث والمشاعر المتنوعة التي تخوضها الشخصيات. وممارسة هذا النوع من القراءات الأدبية (قصص، روايات، مسرحيات، سير...) يجعلنا نستكشف الحياة والظروف المتنوعة، حتى وإن لم نعشها حقيقة، مما يغذي ذكاءنا العاطفي وتعاطفنا، ويبني جسور التفاهم والرحمة، التي تثري علاقاتنا ومجتمعاتنا.

القراءة.. وسيلة للتأملات الثاقبة

تعمل الكتب كمرايا تعكس تعقيدات الروح الإنسانية، فمن خلال القراءة التأملية نكتسب نظرة ثاقبة لرغباتنا ودوافعنا وسلوكياتنا، مما يعزز الوعي الذاتي والنمو الشخصي. ويمكن للدروس المستفادة من صفحات الكتاب أن تكون فارقة وذات فعل تحويلي في حياتنا، وتوجهنا نحو الإنجاز والتواصل الأعمق مع أنفسنا ودواخلنا، والعالم من حولنا.

كما أن فعل القراءة، مرتبط بفعل التفكير، وهذا الفعل (التفكير)، هو أساس خلق الإنسان، والمميز له على سائر الكائنات الحية، وبه فُضّل عليهم، فالتفكر هو إعمال العقل والنظر والخاطر في معاني الأشياء للتوصل إلى حقائق الأمور بالنظر فيها والاعتبار بنتائجها، وقد وردت في القرآن في 18 موضعا كلها أفعال، ولم ترد في صيغ الأسماء أو المصادر، كقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾ (المدثر:١٨)، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (الجاثية :١٣)، وورودها أفعالا فقط يحقق السنة الكونية، والعبادة الربانية، في أن الإنسان يجب أن يتفكر في خلق الله باستمرار؛ حتى يصل إلى الحقائق عموما، والحقيقة المطلقة بشكل خاص، ألا وهي حقيقة وجود الله تعالى، مبدع هذا الكون.

القراءة.. تطلق العنان للإبداع

إن القراءة تحفز الخيال، وترسم لوحات حية مليئة بالعجب والدهشة في أذهاننا. ونحن عندما نستمتع بموسيقى الكلمات البليغة، وسيمفونياتها العذبة، فإنه تتم تغذية عضلاتنا الإبداعية، مما يشجعنا على تصور أفكار إبداعية مبتكرة، ويساعدنا على رؤية العالم من زوايا مختلفة، ومشاهد متنوعة. فمثلا عند قراءة رواية معينة  يتحفز الخيال، ويجعلنا نتخيل ملامح الشخصيات، وتفاصيل الأماكن، حتى رائحتها، فهذا النوع من القراءات له تأثير غير مباشر، فعندما تنتهي من قراءة الرواية تبدأ أفكارها في التسرب إلى داخلنا، كأننا مررنا بتجربة، وبعد وقت طويل تصبح جزءًا من ذاتنا، إذن وعي شخص آخر يصبح جزءًا من وعينا، يضيف لكياننا وفكرنا بعداً جديداً.

إذن كيف يمكننا الاستفادة من الفوائد الكثيرة التي توفرها القراءة؟

لا بد من تخصيص وقت يوميًا للانغماس في كتاب، نستكشف من خلاله مختلف العلوم والمعارف والمؤلفين، وندع الفضول يرشدنا إلى عوالم لا حدود لها من المعرفة والخيال، وندع الكلمات تنقلنا إلى أبعاد جديدة من الفهم.

إن الشروع في رحلة القراءة السحرية هو مسعى ثري يغذي العقل والروح والقلب، إنها شعلة أبدية تنير دروب الحكمة والعاطفة والإبداع والبصيرة. فلماذا لا نغوص في محيط الكتب اللامحدود، وندع أمواج الكلمات تفتح الأبواب أمام إمكانياتنا التي لا حدود لها؟

فلنتذكر أن كل كتاب يحمل عالمًا ينتظر من يكتشفه، وكنزًا من المعرفة ينتظر أن يتم فتحه، فلنبدأ برحلة القراءة اليوم، ونستكشف المفاجآت والمعارف اللامحدودة التي تنتظرنا، لندع قوة القراءة تثري حياتنا، وتوسع عقلولنا، وتضيف أعمارا كثيرة لا محدودة إلى عمرنا المحدود، ولعل ما سبق كان سببا رئيسيا في تعلق الكثير من النوابغ والعلماء والفلاسفة والأدباء والنقاد والمفكرين بالقراءة، أمثال عباس محمود العقاد؛ حيث يقول: " أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب".

            ورغم كل ما ذكرناه من أهمية عظيمة للقراءة فإنه للأسف هناك من يعتقد أنها مجرد ترف فكري، وغالبا ما توضع في خانة الهوايات، في حين أن القراءة ضرورة حياتية أشبه بالأكل والشرب والهواء للإنسان، فهي غذاء العقل، كما أن الكتاب يعد نافذة القارئ على عقول وعوالم جديدة مختلفة، لذا لا بد من غرس حب القراءة في قلوب أفراد المجتمع، فهي أكثر من مجرد هواية، بل إن القراءة هي منهج حياة، وأسلوب معيشة، وحياة للمجتمع، فسبحان من جعل من القراءة كل عقل حي.